قواعد الفقه الإسلامي | الأصل براءة الذمة | ح4 | ا.د. علي جمعة

في حلقة جديدة من حلقات قواعد الفقه الإسلامي، نلقي الضوء على قاعدة أخرى. قاعدتنا اليوم تقول: الأصل براءة الذمة. ذمة الإنسان قابلة للانشغال بالحقوق وبالواجبات أيضاً. وذمة الإنسان تبدأ معه وهو جنين في بطن أمه، فالجنين يرث ولكن ننتظر قدومه السعيد حتى نعلم مقدار ما يرث، لأنه لو كان... ذكراً يرث بطريقة، ولو كان أنثى يرث بطريقة أخرى. وبالمناسبة، فليس
كل ذكر في كل مسألة ميراث يرث ضعف الأنثى، بل هو في مسائل مخصوصة وإن كانت غالبة. لكن هناك أكثر من عشرين حالة ترث فيها الأنثى مثل الذكر، مثل الأب والأم؛ هذا يرث السدس والأم ترث السدس. وقد ترث أكثر من الذكر في المسألة وقد ترث الأنثى أقل من الذكر وقد ترث نصف الذكر والذمة تقبل الواجبات ولذلك بعد أن يبلغ الإنسان سن البالغين العقلاء يُكلَّف بالصلاة فتنشغل ذمته بالصلاة ويُكلَّف بالصوم ويُكلَّف أيضًا عندما يستدين دينًا تنشغل ذمته بهذا الدين فيجب عليه سداده
إذا قمت بعقد إيجار. بيني وبين الآخر أو عقد بيع يشغل ذمتي بموجب هذا العقد، عقد الإيجار أو بموجب عقد البيع أو بموجب عقد الكفالة أو الوكالة إلى آخره، تنشغل الذمم. قد تنشغل بالواجبات وقد تنشغل بالحقوق. الأصل هو براءة الذمة لأن الله قد خلق الناس ولم يكلفهم أصلاً ثم جاء التكليف بعد البراءة. الذمّة ذمّة الإنسان بريئة أصلاً، وجاء التكليف ليشغلها كأنها صفحة بيضاء كتبنا فيها سطراً أو سطرين أو ثلاثة، لكن أصلها كان أبيض، وجاء
التكليف ليزيد عليها سطوراً معينة تشغل الذمّة، تشغل سطوراً من هذه الذمّة، ولكن الأصل براءة الذمّة. هذه القاعدة متفرعة على قاعدة - لو تذكرتم - "اليقين لا الذمة كأنها متولدة من هذه القاعدة الكبيرة، القاعدة الأم، من فروع القاعدة التي معنا اليوم أن الخصم أمام القاضي يقول وهو المدعي: "أنا أدعي على فلان هذا بكذا وكذا، بدين مثلاً أو بأنه قد تزوج ابنتي"، فيقول له القاضي: "أصل الذمة
بريئة، ودعواك هذه تريد أن تشغل ذمته فلا بد من شاهدين ولا يكفي شاهد واحد. لِمَ لا يكفي شاهد واحد؟ لأن الأصل براءة الذمة، فذمته بريئة، فلا بد من أن يأتي شاهد ويأتي آخر حتى يبعد التهمة؛ تهمة الكذب عن الشاهد الأول، وتهمة الخطأ، وتهمة النسيان، وتهمة التحيز، والفهم الخاطئ إلى آخره، ينفيها عن الشاهد الأول ويثبت. هذا الحق في ذمة الرجل المدعى عليه إذ لا تُشغل الذمة بشاهد واحد، هذا بناءً على أن الأصل براءة الذمة. فرعٌ آخر، نعلم
أن الإنسان إذا أتلف شيئاً لإنسان آخر فإن عليه أن يضمن ثمنه، وهذا الشيء الذي أتلفناه نسميه المُتلَف. الإنسان عليه وجوباً أن يضمن ما أتلف هو أو... من يعول طفلاً صغيراً أو مجنوناً، إذا أتلفت بهيمة زرع أو أتلفت مالاً، أو أتلفت شيئاً، أو اختلفت أنا وأنت، أو أتلفت شيئاً لك، فاختلفنا سوياً عن قيمة هذا الشيء، واختلف الخبراء عن قيمته. أنا قتلت بقرة تسير في الطريق، فيجب عليّ أن أدفع
ثمنها. كم ثمنها؟ مائة أو مائة إذا حدث هذا أمام القاضي فإنه يأخذ بالأقل، أي يأخذ بالمائة، إذا اختلف الخبراء في تقويم هذا التالف. مثلاً لدينا المستعير ضامن، والمستعير هو الذي يستعير منك شيئاً. فإذا استعار منك كتاباً وتلف الكتاب عنده، أو احترق، أو ضاع، يجب عليه أن يدفع ثمنه. الكتاب نادر وقديم ومهم، كان في يساوي خمسمائة، فاختلفنا في ذلك، فقال أحد الخبراء في هذا: "هذا بمائة"، وقال الآخر:
"بمائتين"، فالقاضي يحكم بالأقل؛ لأن الأصل براءة الذمة مما زاد من الزيادة على المائة أو الزيادة عما هو أقل. إذ يقولون في هذا: "القول قول الغارم"، قول الذي سيدفع، سيغرم، سيضمن، سيدفع قيمة المتلف في... كل صورها، لماذا؟ لأن الغارم سيختار، لأنه سيغرم الرقم الأقل، والرقم الأقل هنا هو المتيقن، والباقي مشكوك فيه. والزيادة لا يمكن أن تثبت في الذمة حقاً، لا يمكن أن تثبت في الذمة إلا بيقين،
ولا يقين هنا، فالقول قول الغارم مثل هذا أيضاً الغاصب، غصب قطعة أرض أو غصب. حيواناً فرساً، هذا الفرس كانت قيمته حين وقوع الغصب مائة، ثم ارتفعت قيمته أثناء مدة الغصب، إذ اغتُصِب لمدة سنة، فأصبح هذا الفرس في وسط السنة - لأنه كانت هناك سباقات - بمائتين، ثم عادت قيمة الفرس إلى مائة وخمسين. يقول الفقهاء: ثم مات
الفرس قبل رده إلى المغصوب منه، الغاصب ينبغي عليه أن يدفع قيمة الفرس أعلى ما كانت في مدة الغصب، المائة إلى المائتين أو المائة وخمسين إلى المائتين. حدث خلاف في هذه المائتين، فقالوا لم يصل أبداً إلى مائتين، بل وصل إلى مائة وخمسين فقط. فيكون بهذا هناك خلاف، فنأخذ بالأقل ونفرض على الغاصب أعلى سعر، ولكن الأقل في هذا الأعلى وهكذا. الأصل براءة الذمة، قاعدة كبيرة تجدها في كل الفقه الإسلامي. ومع حلقة أخرى نستودعكم الله سبحانه وتعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.