قواعد الفقه الإسلامي | الأصل في الأشياء الإباحة | ح3 | أ.د. علي جمعة

وبركاته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه أهلا بكم في حلقة جديدة من حلقات قواعد الفقه الإسلامي مع قاعدة أخرى نلقي عليها مزيدا من الضوء ونفرع عليها بعض الفروع قاعدتنا اليوم تقول الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم، الأصل في الأشياء الإباحة، قاعدة مشهورة يستخدمها الكثيرون عند الفتوى لأنها تمثل مساحة العفو في الشريعة، وهي قاعدة متولدة
من القاعدة الكبرى "اليقين لا يزال بالشك". الأصل في الأشياء الإباحة عند جمهور الفقهاء، وذهب السادة الحنفية إلى أن الأصل في الأشياء التحريم. وهذا الخلاف يترتب عليه أن الإنسان إذا... لم يعرف حكم شيء عليه أن يتوقف فيه إلى أن يعرفه، أما الأول الذي عليه الجمهور فإن له أن يأكل وأن يشرب وأن يلبس وأن يفعل ما يشاء إلى أن يثبت العكس، إذاً سيظهر الخلاف بين الجمهور وبين السادة الحنفية في مسألة المسكوت عنه في الشريعة النبي صلى الله عليه. وسلم يقول ما أحلَّ الله فهو
الحلال وما حرَّم فهو الحرام وما سكت عنه فهو عفو. هذا الحديث يؤيد الجمهور أن المسكوت عنه في الشريعة عفو من عند الله سبحانه وتعالى، وسكت عن أشياء من غير غفلة منه فلا تسأل عنها. وربنا سبحانه وتعالى أرشدنا أن نقلل السؤال، وأرشدنا رسوله. كذلك قال تعالى: ﴿لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اتركوني ما تركتكم"، يريد التخفيف على الأمة، ويريد أن تكون مساحة العفو كبيرة، فالأصل في الأشياء الإباحة، تنفعنا في كل المحدثات، لأننا
نعلم أن لله سبحانه وتعالى حكماً في كل فعل بشري قل. أو كبر أو كثر فإن لله سبحانه وتعالى حكماً فيه. المحدثات كثيرة، كل يوم تواجهنا محدثات وتخرج أطعمة ومآكل وملابس جديدة. فالأصل في الأشياء الإباحة، أي أننا يمكن أن نتناولها إلى أن يقوم دليل على ضررها أو على حرمتها. هذا الدليل قد يتأتى من الواقع وقد يتأتى من الشرع، مثال ذلك. الحيوان المشكل أمر لا نعرف
هل هو حلال، حيوان معين لم أسمع به من قبل، هل يجوز لي أن أذبحه وآكله أم لا يجوز؟ اختلفوا في الزرافة، وسميت هذه بمسألة الزرافة عند الفقهاء. الزرافة معروفة، حيوان معروف له عنق طويل وكذا إلى آخره، وليس له ناب ويأكل الحشائش. هل يا ترى الزرافة مثل الغزال ومثل البئر ومثل الإبل والبقر والأنعام، أو أن الزرافة هذه لا يجوز أكلها؟ فبناءً على هذه القاعدة وهي: الأصل في الأشياء الإباحة، أباحها من عُرضت
عليهم الفتوى في ذلك. أقرب إمام نص عليها هو الإمام أحمد، لم تُعرض هذه المسألة على الإمام مالك ولا... أبو حنيفة من قبله ولا الشافعي من بعده، إنما عُرضت على الإمام أحمد، ولذلك هناك نص عن الإمام أحمد بإباحة الزرافة؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولم يرد الشرع بتحريمها، وهي تأكل الحشائش، وليس لها ناب كاسر ولا مخلب. إذاً فلماذا لا نأكلها؟ فقال بعضهم: إذا كان الأمر كذلك فلماذا... لا نأكل الفيل مثلاً، الفيل نص الشافعية على حرمته. إنما لا نأكل الفيل لماذا؟ ما الأصل في الأشياء الإباحة؟ قالوا: الفيل مستقذر عند العرب، كانت
العرب تستقذره. وهناك فرق بين الاستقذار، وهناك فرق بين أن تعافه النفس، فالفرق كبير. إذا استقذرت العرب حيواناً فيحرم، لأن الشرع الذي... نزل بلغة العرب وخاطب العرب خاطبهم ولم يخرجهم من الحكم على هذا الحيوان بالاستقبار فكأنه وافقهم عليه، ومن هنا حرم الفيل لاستقبار العرب له، لكن الزرافة لم يستقذرها العرب. النبي صلى الله عليه وسلم عاف الأرنب ولم يأكله وقال: سمعت أنها تحيض، حدث له نوع من أنواع ما يسمى بالقرف. والقرف
كلمة عربية. النبي صلى الله عليه وسلم عُرض عليه الضب، والضب يأكلونه في نجد ويستلذون به. قال: "رأيته ليس بأرض قومي فأراني أعافه"، يعني كانت نفسه لم تذهب إليه، ولكنه ترك خالداً وابن عباس يأكلان من الضب أمامه. إذاً هناك فرق بين الاستقذار وبين أن يعاف الإنسان شيئاً معيناً. كثير من الناس لا تحب اللبن، ولا تحب الشيء الحلو أو الشيء البارد أو الشيء الساخن، فهذه طبائع مختلفة. وهذا ليس له علاقة بالتحريم، فقد لا يحب شخص طعامًا معينًا بوصف معين، لكن
هذا ليس له علاقة بالتحريم. الأصل في الأشياء الإباحة، والنبات المجهول أو الجديد مثلما ظهر الكاكاو والكولا، نبات الكولا. والدخان والقنب الذي هو الحشيش والمخدرات والأفيون، كل هذه نباتات، ولكن هذه النباتات عندما ظهرت أول مرة تحير فيها الفقهاء، إنما حسمها الواقع وتأخر الحسم في بعضها، ولكن حُسمت في النهاية. فالشاي والبن والكاكاو والكولا وجدوا أنها في الواقع لا تخدر ولا تسكر، فقالوا بحلها. والحشيش
والقنب - القنب هو الحشيش - والأفيون. قالوا بحرمتها لأنها تخدر والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر، ولكن الدخان تأخر القول فيه، أباحه بعض العلماء ثم حرمه بعض العلماء. الآن ثبت ضرره قطعاً فحرمه أغلب العلماء. أكثر علماء أهل الأرض على تحريمه بعد أن ثبت قطعاً ضرره، لكن النبات المجهول الأصل فيه الإباحة. ومن هنا جاءت هذه الإباحة، فلا يستند أحد بإباحة الدخان بأن الشيخ فلاناً في القرن الفلاني كان يبيحه، لأنه كان يبيحه طبقاً للقاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة، إلى أن وصلنا إلى القطع بحرمته بناءً على واقعه. احفظوا هذه القاعدة فإنها مهمة: الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على... التحريم إلى لقاء قريب،
استودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.