قواعد الفقه الإسلامي | الأمور بمقاصدها | ح5 | أ.د. علي جمعة

والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. في هذه الحلقة نتحدث عن قاعدة من قواعد الفقه الإسلامي الخمس التي قيل إنها هي الأساس لبناء الفقه كله. هذه القاعدة هي قاعدة "الأمور بمقاصدها"، ودليلها قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه البخاري وجعله لأهميته في صدر حديثه. وفي صدر صحيحه حيث جعله هو الحديث الأول في كتابه "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى"، فهو حديث يكاد أن يكون متواترًا
لأنه ذكره عمر بن الخطاب على المنبر وهو يتكلم أمام الصحابة ويرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعترض أحد، وشاع بعد ذلك في الطبقات. المتأخرة إلى أن عَدَّ ابن حجر العسقلاني سبعمائة نفس يروونه من بعد سعيد أحد رواة الحديث. هذا الحديث "إنما الأعمال بالنيات" من أهم الأحاديث التي استشعر بها وبأهميتها الإمام البخاري فجعله في صدر صحيحه. شعر نفس شعور الإمام النووي فلما ألف في الأربعين النووية التي هي تلك الأحاديث التي يُبنى عليها الدين
جعل هذا الحديث أول ما يذكره في أربعينه، وهكذا كثير من المصنِّفين. "إنما الأعمال بالنيات" أو "الأمور بمقاصدها" تجعلنا نريد أن نسأل أنفسنا عن معنى النية: ما هي؟ تأمَّل العلماء في اللغة وفي طريقة تفكير البشر وقالوا: مراتب القصد خمس: هاجس، ذكر، فخاطر، فحديث النفس، فاستمع، يليه همّ. فعزم كلها رفعت سوى الأخير وهو العزم ففيه الأخذ قد وقع. إذا مراتب قصد الإنسان لفعل الشيء إما أن تكون هاجساً
وهو ورود الصورة في الذهن، ورود صورة الشيء في الذهن سواء كان هذا الشيء طاعة أو كان معصية. إذا ما تأكدت الصورة وثبتت يسمونه خاطراً إذا ما تكلم الإنسان. وتردد مع نفسه في الفعل وعدم الفعل، هل يُقدم على هذا الفعل سواء كان طاعة أو معصية، يُسمَّى حديث نفس. إذا مالت نفسه إلى الفعل، فإنهم يُسمُّون هذه المرحلة مرحلة الهمّ، مثل قوله تعالى في سورة يوسف: "ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه"، يعني... لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها، ولكنه قد نزَّهه الله عن ذلك. المرتبة الأخيرة هي العزم، وهو القصد المؤكد، وهو أن
يصمم الإنسان على فعل هذا الشيء. من هنا يبدأ الحساب بالثواب أو بالعقاب، إذ الأمور بمقاصدها، أي أن النية معتبرة. أما الهمُّ وما قبله فقد عفا الله سبحانه عندنا في حصول مثل هذه الأشياء التي ترد في الذهن والتي لا يخلو منها ولي مقرب ولا صالح ولا صديق أنه يخطر في باله فعل المعصية لكن لا تميل نفسه الميل المؤكد والعزم المؤكد عليه. إذا نوى الإنسان معصية ثم لم يفعلها ومنع نفسه منها فإنه يثاب على ذلك فإن فَعَلَها عُوقِبَ عِقَابًا وَاحِدًا، وَإِنْ نَوَى عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَلَمْ يَفْعَلْ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ
ثَوَابًا وَاحِدًا، فَإِنْ فَعَلَهُ أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ عَشْرَةً مِنْ أَمْثَالِهَا مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا. الْأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا، جُعِلَتِ النِّيَّةُ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، هِيَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ بِاتِّفَاقٍ، هِيَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ. الوضوء له أركان أولها النية، أن أنوي أن أرفع الحدث عن الجسم. هي ركن من أركان الاغتسال الذي فيه تطهر من الجنابة. هي ركن من أركان الحج. هي ركن من أركان العمرة. هي ركن من أركان الصيام في رمضان. وعند الجمهور ينبغي في كل يوم أن ننوي الصيام من الغد.
وكان مشايخنا رحمة الله عليهم يعلموننا ونحن نتلو دعاء الإفطار أن نذكر معه نية الصيام حتى لا ننسى، فنقول: "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله. نويت صيام غد من رمضان لله العلي العظيم" ونحن ما زلنا في الإفطار، لأن نية الصوم تقع في أي جزء من أجزاء الليل، والليل يبدأ عند المسلمين من الغروب، من غروب الشمس. "الأمور بمقاصدها" قاعدة فقهية وليست ضابطاً فقهياً، والفرق بين القاعدة والضابط أن القاعدة نراها في كل الأبواب أو في جل الأبواب أو في أبواب
كثيرة في أبواب مختلفة، لكن الضابط إنما يكون في مسألة. بعينها كالضابط الذي يقول أنه لا يجوز للرجل أن يجمع بين زوجتين، لو فرضنا إحداهما أنثى والأخرى ذكراً لما جاز أن يتزوج. هذا ضابط لأنه مختص بهذه الجزئية في باب الزواج، ولكن القاعدة تكون في باب الصيام، في كتاب الصلاة، في كتاب الحج، في كتاب الزواج، في كتاب الطلاق. في كل شيء هذه القاعدة تجعلنا نبحث أيضاً عن أحكام النية، فهذه النية محلها القلب وهي غالباً
ما تكون واجبة، والنية يمكن أن نتلو باللسان شيئاً في النية كما نفعل في الحج فنقول: "لبيك اللهم لبيك"، ولكن الأساس هو القلب، وزمنها هو أول العبادة مع تكبيرة الإحرام مع بداية وضع. الماء على الوجه في الوضوء وهكذا، إلا في الصيام فإننا يتعذر علينا أن نراقب الفجر وننوي مع بداية أول ضوء من أضواء الفجر، هذا متعذر، ولذلك خفف الله عنا وجعل النية في أي وقت من أوقات الليل، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يجمع الصوم بالليل" أو "يبيت". من لم يبيّت الصوم من الليل فلا
صيام له. إلى لقاء قريب مع قاعدة أخرى.