قواعد الفقه الإسلامي | الحدود تسقط بالشبهات | ح7 | أ.د. علي جمعة

قواعد الفقه الإسلامي | الحدود تسقط بالشبهات | ح7 | أ.د. علي جمعة - فقه, قواعد الفقه الإسلامي
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أيها الإخوة المشاهدون مرحباً بكم وأهلاً وسهلاً في حلقة جديدة من حلقات قواعد الفقه الإسلامي. نتحدث اليوم عن قاعدة شهيرة يقول فيها الفقهاء: "الحدود تسقط بالشبهات"، ذلك أنهم أخذوها من حديث رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنه. عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود بالشبهات". أخرجه ابن عدي في جزء له، وأتى هذا المعنى في أكثر من رواية: "ادرؤوا الحدود بالشبهات". أخذوا
منها أن الحدود تسقط بالشبهات، فما معنى الشبهة؟ الشبهة ثلاثة: شبهة قائمة بالفاعل الذي يفعل الشيء، وشبهة قائمة في المحل الذي يتناوله ذلك الفاعل. وشبهة أخرى قائمة في الاختلاف بين العلماء في أمر شيء معين هل هو حلال أو حرام، إذاً فهناك شبهة المحل، وهناك شبهة الفاعل، وهناك شبهة المذهب أو الطريق، والاختلاف بين المذاهب. أما شبهة الفاعل في الحقيقة لا يمكن
أن يُحاسَب الإنسان فيها، لأنه ظن أن هذا المال ماله فأخذه، فاتضح هذا المال ليس له، فكيف أقيم الحد على شخصٍ ظنَّ ظناً راجحاً أن هذا المال مالُه، ولم يأخذه بنية السرقة، ولم يقصد العدوان على مال الغير، إلا أنه قد أخطأ وتبين له فيما بعد أن هذا المال ليس له وإنما هو لغيره. شبهة الفاعل لا يمكن الاحتياط منها، شبهة المحل. يمكن الاحتياط فيها لأنه سيكون أمامي الشيئان: الشيء أعلم أنه حلال والشيء الآخر أعلم أنه حرام، واشتبه الحلال بالحرام. فلو
أمامي مثلاً ذبيحتان لا أعرف أيهما الحلال من الحرام، فهذه شبهة، محل شبهة قامت في المحل الذي أمامي وهو هذا الأكل، لأنه لو كان هذا الأكل مذبوحاً لكان حلالاً أو... كان ميتاً لكان حراماً. هذه المرأة التي أمامي، هل هي زوجتي أم هي توأمها؟ لا أعرف، إذاً فهذه شبهة محل. موقف الإنسان في شبهة المحل أن يكف عن هذا المحل، فلا يأكل من هذا الطعام ولا يقرب هذه المرأة حتى يتبين له أن هذا. حلال أو أن هذه المرأة وليست امرأة غريبة عنه. الشبهة الثالثة أنه
هل هذا الفعل حلال أو أنه حرام؟ اختلف العلماء فيه أو في أثره، فيكون هذا فيما يسمى بشبهة المذهب. الشافعية يقولون إن لمس المرأة ينقض الوضوء، والحنفية يقولون إن لمس المرأة لا ينقض الوضوء. فلمست امرأة، فهل أتوضأ؟ أو لا أتوضأ. الشبهة هي شبهة جاءت في المذهب. كل هذه الشبهة تدرأ الحد. إذاً، فقولنا "الحدود تُسقط بالشبهات" نقصد بها شبهة الفاعل وشبهة المحل وشبهة الطريق والمدى. فلو أن أي شبهة كانت معترضة لإقامة الحد فإننا نقدم الشبهة. هذا مبني على أن
الحدود زواجر، وأن الحدود ليس الهدف منها إقامة الحد وقطع أيدي الناس وجلدهم وقتلهم ليس هو المراد، بل المراد أن تكون هذه الحدود زواجر تمنع الناس عن فعل المعصية. وفي الأثر عن عثمان، بل إنه مرفوع إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يأتيه السارق فيسأله: "أسرقت؟"، قل: "لا"، يعني يلقنه أن يقول: "لا". حتى لا يُقام عليه الحد، اشتُهر في الفقه الإسلامي ما يُسمى باللص الظريف. واللص الظريف هو ذلك الذي درس بعض الفقه ويعلم هذه القاعدة، فعندما سرق وأتى أمام القاضي، وحتى لا يقطع القاضي يده، يقول
له: "حضرة القاضي، هذا المال مالي". فيقول له: "كيف؟". يقول: "هو مالي". فيقول: "أنت أخذته". من هذا الرجل ومن بيته وبالليل يقول نعم ولكنه مالي، أنظر أيها القاضي ماذا ستفعل. يضطر القاضي إلى عدم قطع يده لأنه ادعى دعوى ولو كانت ظاهرة البطلان، إلا أنه بظرفه هذا قد خرج إلى حد الشبهة. وهذه الدعوى تمثل شبهة لأنه يدعي أن هذا المال ماله، فيتحول القاضي إلى دعوة أخرى يقول أنا كانت نيتي هكذا، هذا الكلام في الحقيقة يبيّن لنا موقف الفقه الإسلامي من الحدود وأنها زواجر وأنها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين، وأننا ينبغي علينا أن نقيمها حتى يرتدع
المجرمون، وأن الأمر ليس هو مسألة التشهي أو قسوة على خلق الله أو عدم. احتراماً للإنسان، بل إن الحدود تُدرأ عند القاضي بأقل شبهة وبكل شبهة، ولهذا لا يُحَد مثلاً من سرق مال أبيه أو من سرق مال ابنه لأن هناك شبهة عنده، أو من سرق مال شريك له لا يُحَد. نعم هو يأثم، نعم هذا حرام، نعم قد يُعزَّر، لأن الحدود تُدرأ بالشبهات. ولأن الحدود تسقط بالشبهات لكن التعزير لا يسقط بالشبهات، فمن سرق مال أبيه أو سرق مال ابنه أو سرق مال شريكه ويدعي أن هذا كان يعتقد أنه ماله، نعزره ونضربه لكن لا نقيم عليه حد قطع
اليد. إذاً، أيضاً لو أن فاعلاً قد وطأ امرأة ثم قال: أنا ظننت أنها زوجتي فلا حد عليه بل ويثبت النسب في مثله إذا ما كان هذا وطء الشبهة، هذا مانعًا من إقامة الحد. احفظوا هذه القاعدة: الحدود تسقط بالشبهات، وهو من سعة ورحمة الله علينا، وهو مما يدل على خصائص الفقه الإسلامي. إلى حلقة أخرى، أستودعكم الله دينكم وأماناتكم وخواتيم عملكم، والسلام عليكم. ورحمة الله