قواعد الفقه الإسلامي | الخروج من الخلاف مستحب | ح9 | أ.د. علي جمعة

قواعد الفقه الإسلامي | الخروج من الخلاف مستحب | ح9 | أ.د. علي جمعة - فقه, قواعد الفقه الإسلامي
وسهلًا في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات قواعد الفقه الإسلامي، ومع قاعدةٍ أخرى نلقي عليها الضوء، قاعدةٌ يصوغها الفقهاء في قولهم: "الخروج من الخلاف مستحب". وهذه القاعدة في أساسها تتفرع عن قاعدةٍ أخرى وهي قولهم في صيغة السؤال: "هل الاحتياط واجب؟" فما معنى هذا؟ نذكر أننا في حلقةٍ أخرى تكلمنا عن الشُّبَه الثلاث: شبهة الفاعل، وشبهة المحل، وشبهة الطريق أو المذهب. شبهة الفاعل كما قلنا
هي شبهة تقوم في عقل الإنسان فيعتقد شيئاً على خلاف الواقع، يعتقد أن هذا الطعام حلال ثم يظهر له بعد ذلك حرمته، أو يعتقد أن هذا التصرف جائز ثم يظهر له بعد ذلك عدم جوازه، ولا... يمكن للإنسان أن يحتاط أو يتحوط من شبهة الفاعل لأنه يكون متلبساً بهذا، إلا أن شبهة المحل هي شبهة يتردد فيها الإنسان أمام شيء بعينه: هل هو من الجائز أو من غير الجائز؟ هل هذا الطعام الذي أمامه أو
اللحم الذي أمامه مذبوح ذبحاً شرعياً أو أنه ميتة؟ هل هو حلال أو هو خنزير، هل هو عصير أو هو خمر، هو يتردد فيه وهنا فإن الاحتياط واجب. ينبغي عليه إذا قامت به شبهة المحل أن ينزه نفسه شرعاً عن تناول كل من الشيئين اللذين أمامه اللذين اختلطا سوياً، أو الشيء الذي تردد هو فيه. وإذا هجم عليه من... مَن غيَّر تفكيره وشرب ما ظنه عصيراً ولم يكن خمراً، فإنه آثم. وقبل ذلك تحدثنا عن أنه لا عبرة بالظن البيّن خطؤه. ولأنه
لا عبرة بالظن البيّن خطؤه، فإنه يُحاسب على هذا التجرؤ. هذا الذي فعله فيه نوع تجرؤ على الشرع وتجرؤ على الحرام لأنه كان يظن أن هذا حرام على الرغم من ذلك هجم عليه وأخذ في الاحتياط، فالاحتياط في جانب شبهة المحل واجب، وهذا هو الذي شاع في كلام كثير من عموم الناس "الاحتياط واجب". فالاحتياط واجب إنما هو في شبهة المحل. نأتي مع قاعدتنا اليوم وهي قولهم "الخروج من الخلاف مستحب"، هذا يتحقق في شبهة المذهب التي شبهة الطريق، المذاهب تختلف، فيرى مثلاً الشافعية
أن حقيقة الغسل الذي أُمرنا به في الوضوء هو سيلان الماء على أعضاء الوضوء، أن ينتقل الماء من مكان إلى مكان فقط. ولكن المالكية يرون أنه لا بد من الدلك حتى تتحقق حقيقة الغسل. حتى نخرج من هذا الخلاف، إذاً يُستحب حتى للشافعية. أن يدلك أعضاءه في الوضوء وفي الاغتسال ليخرج من خلاف الشافعية والمالكية في حقيقة الغسل، مثلاً استيعاب الرأس بالمسح. رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ورد عنه كان يُقبل
ويُدبر، ومعنى يُقبل ويُدبر أنه يضع يده الشريفة على رأسه فيُدبر بها ثم يُقبل بها لمقدمة رأسه، وهذا استعمال عربي. لطيف يُقبِل ويُدبِر. بالرغم من أن الذي يصنعه الإنسان هو أنه يُدبِر أولاً ثم يُقبِل، ولكن العرب تُركِّب أشياءً من هذا القبيل وتسير عليها، فتقول: "يراه صباحَ مساءَ"، لا تقول العرب "مساءَ صباحَ" بالرغم من أنه جائز. "صيفَ شتاءَ" لا تقول "شتاءَ صيفَ". فكذلك هنا في الحديث يقول: "يُقبِل ويُدبِر" يُدبر ويُقبل، لكن تركيبة العرب هكذا. فكان يمسح رأسه كلها. الشافعية يقولون إن الفرض هو مسح بعض الرأس، والمالكية
يقولون إن الفرض هو مسح كل الرأس. المكلف يفعل ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الخروج من الخلاف مستحب، وهذا خلاف وقع في المذهب. يختلف العلماء هل... المني طاهر، فيقول الشافعية إن المني طاهر، ويقول غيرهم إن المني ليس بطاهر فيجب غسله. فللخروج من هذا الخلاف يجوز للإنسان أن يخرج منه بأن يغسله. هناك قاعدة أخرى ترتبط بهذا تكمل الصورة وهي أن من ابتلي بشيء مما وقع فيه الخلاف فإنه يجب عليه أن يقلد من أجاز
إذا. حفظت هذه القواعد أجبت على كثير جداً من الأسئلة التي يصادفها الإنسان في حياته: الاحتياط واجب في شبهة المحل، والخروج من الخلاف مستحب في شبهة المذهب، ومن ابتلي بشيء فيه خلاف فليقلد من أجاز، لأنك قد لا تستطيع أن تخرج من الخلاف دائماً، وقد يُفرض عليك أن تفعل شيئاً. لظروف أحاطت بك فإذا هجمت على هذا الشيء فاهجم عليه وأنت تعتقد حله تقليداً لمن أجاز ذلك من الفقهاء ومن العلماء. الخروج من الخلاف مستحب في
الحقيقة، ولها فروع كثيرة جداً، ولكن ينبغي أن تقيد بشروط. من هذه الشروط أن يكون الخلاف قوياً، ولذلك اختلف داود الأصبهاني وهو من... المجتهدون مع الشافعية في مسألة هل الصوم أفضل، فالشافعية يقولون: نعم، الصوم وأنت مسافر أفضل. استدلوا بقوله تعالى: "وأن تصوموا خير لكم". فالصوم أفضل. داود الأصبهاني يقول: لا يصح الصوم. هذا قول شاذ جداً لم يقله غيره من العلماء، ولذلك لا يستحب الخروج من الخلاف ونفطر مثلاً، لأن
الخلاف هنا. خلاف شاذ جداً فلا بد أن يكون الخلاف له وجه وأن لا يؤدي الخروج من الخلاف إلى خلاف آخر. احفظ هذه القاعدة ففيها من الخير الكثير. الخروج من الخلاف مستحب. إلى لقاء آخر في حلقة أخرى، أستودعكم الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.