قواعد الفقه الإسلامي | الدفع أقوى من الرفع | ح10 | أ.د. علي جمعة

وسهلًا في حلقة جديدة من حلقات قواعد الفقه الإسلامي ومع قاعدة أخرى نلقي عليها الضوء، قاعدة يصوغها الفقهاء في قولهم: "الدفع أقوى من الرفع". قد نستطيع الدفع ولكننا بعد الحدوث لا نستطيع الرفع فنترك الشيء على ما هو عليه لأننا بذلك نحقق المصلحة، وفروع هذه القاعدة متعددة تظهر معنى في باب الطهارة، النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إذا بلغ الماء قلتين لم
ينجس"، ومعنى هذا أن الماء إذا بلغ مقداراً معيناً وكماً محدداً، وقد قدّروه بخمسمائة رطل بغدادي من الماء، وقدّره علماء العصر بنحو مائة وستة وتسعين لتراً. وحتى تحفظ كم القلتين، والقِلّة مثل القربة ولكنها كبيرة، احفظ. مائتا لتر من الماء فالمائتان من لترات الماء تساوي قلتين.
إذا بلغ الماء هذا المقدار ووقعت فيه نجاسة ولم تغيره، لم تغير رائحته، لم تغير لونه، لم تغير طعمه، فإنه لا ينجس. فلو كان هناك حمام سباحة صغير ووقعت فيه نقطة بول فإنه لا ينجس ويجوز التطهر به. لينجس الماء الكثير. ما معنى الماء الكثير أكثر من قلتين أكثر من مائتي لتر إلا إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت أحد أوصافه الثلاثة: اللون، الطعم، الرائحة. وما دام طاهراً فهو طاهر طهور، ولذلك يجوز أن تتوضأ منه، فلو غمس أحد الناس نفسه في حمام السباحة الصغير الذي هو أكثر
من مائتي لتر ونوى. رفع الحدث عن نفسه، نوى رفع الجنابة، نوى رفع حدث الوضوء، فإنه يرتفع. خرج من الحمام، الماء، ماء الحمام هذا لم يعد مستعملاً؟ لا، هو ما زال طاهراً طهوراً. لماذا؟ لأنه أكثر من قلتين، ولأن الماء يدفع عن نفسه النجاسة، ويدفع عن نفسه الاستعمال. إذاً هذا معنى الدفع، الدفع أقوى. من الرفع بمعنى أنني لو جمعت ماءً مستعملاً وجمعته لتراً لتراً عشرة لتر
عشرة لتر إلى أن صار عندي مائتي لتر، فهل يصير بذلك طاهراً طهوراً لأنه أصبح فوق القلتين أو أكثر من القلتين أو قلتين فزيادة؟ فيه اختلاف بين العلماء. وسبب هذا الاختلاف هنا وعدم الاختلاف في الصورة الأولى بالرغم أن هذا مائتي لتر وهذا مائتي لتر، هذا قد تم استعماله وهذا قد تم استعماله، فما الفرق بينهما؟ قالوا: الفرق أن الدفع أي صد الاستعمال من البداية أقوى من الرفع، وهو الاستعمال في أثناء جمع الماء لتراً لتراً أو عشرة عشرة وهكذا، فالدفع أقوى من الرفع. هيا بنا إلى فرع. آخر يتضح به المعنى أكثر، فمثلاً
عندنا الزوج في المذهب الشافعي خلافاً للمذهب الحنفي يجوز له أن يمنع زوجته من حج الفرض، لأن الشافعية ترى أن الحج ليس على الفور بل على التراخي، إذا لم نفعله هذه السنة نفعله السنة التي بعدها. فالزوج يستطيع أن يمنع زوجته ويقول لها: أنا لا آذن. لك أن تسافري هذا العام. سافري العام القادم. هو ليس له أن يمنعها مطلقاً، لكن له أن يؤجلها. الحنفية قالوا لا يجوز له أن يؤجلها وليس له هذا الحق. خلاف بين الشافعية والحنفية. سنسير الآن مع الشافعية ونرى الشافعية يقولون أنه له أن يمنع زوجته من حج الفرد،
بمعنى أنها. لم تحج من قبل وإذ بهم يختلفون فيما لو شرعت بالإحرام الزوجة لم تطعه وذهبت وأحرمت وشرعت في الدخول في الحج فهل له أن يفرض عليها الخروج من الحج ويحللها ويعيدها إلى بيتها أو ليس له ذلك فالذين قالوا أن له منعها في الابتداء قالوا ولكن إذا أحرمت فليس له. منعها خلاص دخلت في نطاق الحج، وما دامت قد دخلت في نطاق الحج فليس له ولا يستطيع أن يخرجها. لماذا؟ لأن الدفع أسهل وأقوى من الرفع. يمكن أن تفعل هذا في الابتداء، لكن لا يمكن أن تفعل هذا أثناء
وجودك. دخلت المرأة في الحج، فأثناء وجود المرأة في الحج... لا يجوز لك أن تخرجها في أحكام للتيمم. وجود الماء قبل الصلاة للمتيمم - إذا تيممت وقبل الصلاة وجدت الماء - يمنع الدخول فيها، فلا بد إذا حضر الماء بطل التيمم، فلا بد أن أتوضأ. فإذا انقطع الماء في البيت واضطررت إلى أنني أتيمم، وقبل الدخول في الصلاة جاء الماء، أذهب فأتوضأ. الماء منع ودفع قدرتي على استعمال التيمم للصلاة، ولكن لو أنني دخلت في الصلاة بالتيمم
ثم سمعت أن الماء قد جاء أو رأيت وأنا في الصلاة أن الماء قد جاء، لا تبطل الصلاة ولا أخرج منها ولا يمنعني هذا المجيء من الصلاة. إذاً مجيء الماء يمنع قبل الصلاة ولا يمنع أثناءها. أثناء الصلاة، ما الفرق أن الدفع أقوى من الرفع؟ كان يمكن لهذا الدفع أن يمنع دخولي في الصلاة، لكنني أثناء الصلاة فإنه لا يستطيع أن يرفع حكم هذه الصلاة. فروع كثيرة جداً حول مبدأ "الدفع أقوى من الرفع"، وهذا يبين لنا أن القاعدة الواحدة تسري في أبواب متعددة ترتبط ببعضها. الفقه الإسلامي كله، وتمكن من إلحاق ما
يستجد من فروع بها. إلى حلقة أخرى، أستودعكم الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.