قواعد الفقه الإسلامي | الضرورة تقدر بقدرها | ح13 | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، مرحباً بكم وأهلاً وسهلاً في حلقة جديدة من حلقات قواعد الفقه الإسلامي مع قاعدة أخرى. قاعدة اليوم تقول: ما أُبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها. هذه القاعدة في الحقيقة متفرعة من... القاعدة الكبيرة: "الضرر يُزال". الضرر يُزال، أُخِذت من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، أي لا تضر نفسك ولا تضر غيرك. وما أُبيح للضرورة ينبغي أن يكون على قدر الضرورة، فلا نتوسع فيه
لأنه أُبيح على غير الأصل، أُبيح تيسيراً وتخفيفاً، أُبيح فينبغي ألا نزيد في هذه. الإباحة فوق حد الضرورة، فالضرورات إذا ما أبيحت تُقدر بقدرها. يُؤخذ من هذا أن المضطر الذي أجزنا له أكل الميتة في الحقيقة لا يأكل توسعاً، أي يكتفي بسد الرمق فقط، ولكن لا يأتي بالحيوان الميت ويجلس يشوي ويأكل ويمتلئ أبداً. هو يأكل على قدر الحاجة فقط لأن هذا الذي... يأكله حرام وما زال
موصوفاً بالحرام، إلا أننا قد أجزنا له الهجوم عليه من أجل الضرورة، من أجل أن هناك ما هو أعظم من ذلك، فعليه أن يتبين مواقع قدمه. كذلك قلنا في الجبيرة: الجبيرة تستر جزءاً من مواطن الوضوء، اليد المكسورة أو الرجل المكسورة، ينبغي أن تكون الجبيرة على قدر الاستمساك أي على قدر الحاجة، فلو كان جرح بسيط أو كان كسر بسيط يستلزم أن نضع جبيرة عشرة سنتيمترات، فنحن جعلناها خمسة عشر سنتيمترًا، كان هذا أكثر من الحاجة، ولذلك يجب أن
نتوضأ وأن نتيمم وأن نعيد الصلاة مرة ثانية بعد فك الجبيرة. لماذا؟ لأنها كانت أكثر من قدر الاستمساك أكثر من قدر الحاجة لأن الضرورة وهي المسح على الكبيرة من أجل المرض وكسر الرجل أو اليد أو العضو تُقدر بقدرها. ومثلاً قالوا إنه يُعفى عن الحشرات إذا وقعت في الطعام وقعت اتفاقاً، ولكن إذا أوقعها إنسان فما الحاجة إلى ذلك؟ أعني أنني أعلم أن هناك شخصاً فقيراً. لديه طعام فسقطت فيه حشرة، فحتى لا أُفسد عليه
هذا الطعام وحتى أُيسر عليه الأمر، فإن الشريعة أجازت أن يأخذ هذه الذبابة التي وقعت في ذلك الطعام ويطرحها ويأكل. هو في الأصل هذه الذبابة نجسة لأنها تقف على النجاسات، والأصل عندما تقع نجاسة في الطعام أنه ينجس هو الآخر. فلماذا لا ننجسه على الناس؟ النبي صلى الله عليه وسلم شرع لنا رحمة للأمة أنه إذا وقعت مثل هذه الحشرات التي لا يمكن الاحتراز منها في الطعام، فإن الطعام طاهر، ولا نكلف الناس ما لا طاقة لهم به. ولكن كيف آتي ببعض النمل الميت أو الحي وأضعه في الطعام؟ ما الحاجة إلى ذلك؟
الضرورة تُقدّر بقدرها. لو فعلتُ هذا، فإن الطعام يتنجس. يصبح الطعام نجساً لا يجوز أكله. ولو حدث هذا وحده من غير فعلٍ مني، فإنه يجوز أكله. لماذا؟ لأن الضرورة، وهي إباحة الطعام بعد وقوع هذه الحشرات فيه، تُقدّر بقدرها ولا تزيد عليه. ومثلاً، يجوز اقتناء الكلب. للصيد وللحراسة، ويكره كراهةً شديدةً اقتناء الكلب لغير ذلك، خاصةً في المساكن الضيقة في أيامنا هذه، لأن لعاب الكلب نجس، وإذا خالط ثيابنا فإن ذلك يستدعي تطهيرها
سبع مرات إحداهن بالتراب، كما أنه ثبت في صحيح البخاري أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب أو صورة. تمثال هذا الكلب أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيد وفي الحراسة، وهناك أيضاً في المعاونة للرعي ومعاونة للزراعة. إذاً يُقدَّر بقدر لأن هذا الحيوان مفيد، نستفيد منه في الحدود التي نستطيع أن نستفيد به فيها، فيجوز للصيد والحراسة، ولا تجوز تربيته في البيت من غير حاجة. إليه الأماكن المتسعة التي
يُخشى عليها من اللصوص أو من الاعتداء أو ما شابه ذلك، يجوز اقتناء الكلاب ولكن الضرورة تُقدر بقدرها. هناك فروع في الحقيقة خرجت عن هذا، فمثلاً كان هناك ما يُسمى بالعرايا. العرايا هذه هي أن عندي نخلة فيها بلح رطب والفقير عنده بلح قديم، فجاءني وقال اشترِ البلح الذي في هذه النخلة بالبلح هذا القديم. النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الأقوات بالأقوات حتى تستقر الأسعار، لكن لما سألوه عن العراية، عن هذه الصورة التي فيها
نوع من أنواع الرحمة بالفقيه وبأبنائه حتى يأكلوا الرطب، يأكلوا البلح وهو في موسمه الجديد، فإنه أجاز التبادل. الذي منعه في الأصل فأصبحت العَرايا مستثناة للرحمة بالفقير، وأصبحت العَرايا كأنها ضرورة، فينبغي أن تُقدَّر بقدرها. فهذه الحكمة كانت تستدعي منا أن نقول إن العرايا لا تتم إلا بين فقير وغني، لكن كل الفقهاء أجازوها بين الأغنياء، فإذاً هذه المسألة خرجت عن القاعدة، ومن هنا نتعلم أن هناك بعض المسائل تكون في القاعدة وتُستثنى
من القاعدة، إذاً فالقواعد الفقهية قواعد أغلبية وليست قواعد كلية، أي أن هناك غالباً ما تسير القاعدة ثم تأتي فروع تُستثنى وتخرج من القاعدة. كم سألت العراية في قاعدتنا هذه، قاعدة مهمة "ما أُبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها". إلى لقاء آخر، أستودعكم الله والسلام. عليكم السلام ورحمة الله