قواعد الفقه الإسلامي | العادة محكمة | ح17 | أ.د. علي جمعة

والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها المشاهدون الأعزاء، مع قاعدة أخرى من قواعد الفقه الإسلامي يقول فيها الفقهاء: "العادة محكمة". الأخذ بالعرف هو أحد مصادر تشريع الإسلام، "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين". وحتى نأخذ بالعادة المحكمة، ينبغي ألا تخالف الشرع الشريف، فلو اتفق... الناس جميعاً على المعصية لا يحل هذا الحرام ولا نستطيع أن نأخذ بما اتفقوا عليه في المعصية أو بما شاع فيهم من فساد ونقول إن العادة محكمة. العادة التي تحكم هي العادة
الصحيحة، وحتى تكون العادة صحيحة ينبغي ألا تخالف الشرع الشريف في شيء مما ثبت في الكتاب أو السنة. عادةً أيْ أنَّ هناك تكراراً فيها. العادة محكَّمة أيْ أننا نجعلها حَكماً بين الناس، ولذلك قال الفقهاء إنه ينبغي على القاضي إذا ما نزل بلداً أن
يعرف عاداتِ أهلها، أن يعرف عاداتهم وتقاليدهم، أن يعرف ألفاظهم التي يتعاملون بها؛ لأن العادة محكَّمة. قد يتفق الحكم ولكن تختلف الصور. فيختلف الحكم لاختلاف الصورة وهو في الحقيقة لم يختلف في نظر الشرع. أعطي لذلك مثالاً واقعياً: معروف في الريف أن الناس تحفظ بهائمها بالليل وأن البهائم تخرج في الصباح مع أصحابها، ويمكن أن ترعى
ويمكن أن تنزل حقلاً معيناً وتفسد الزرع وتأكل الزرع. إذاً هذا ما جرى عليه الناس في... من عادة أهل هذه البلدة أنهم يحفظون بهائمهم بالليل وأنهم يتركونها في النهار ترعى وتسرح. وبناءً على ذلك، فإنني كفقيه أُكلِّف أهل هذه البلدة أن يكونوا مسؤولين عن بهائمهم ليلاً، وأُكلِّف أصحاب الزرع أن يكونوا مسؤولين عن حراسة زروعهم نهاراً. فلو أن بهيمة من البهائم أكلت وأفسدت زرع إنسان معين لا
يضمن ولا يدفع ثمن ما أفسدته هذه البهيمة لأنه ليس مقصراً ليس متعدياً، بل المقصر هو صاحب الزرع الذي قصر في حراسته. كذلك لو أنني وجدت أن البهيمة قد اعتدت على ذلك الزرع ليلاً، فإنني آخذ الضمان وثمن المتلف من صاحب البهيمة الذي قصر في حفظها وتركها تخرج لتفسد. الزرع الذي لا حراسة عليه، لو تغير هذا العرف في بلد ما أو تغير في زمن ما، فأصبح الناس لظروفهم المعيشية ليس عندهم أماكن لحفظ البهائم ليلاً، إنما هم يرعونها ويمسكون بها نهاراً،
ينعكس الحكم في الصورة لكنه لا ينعكس عند الشرع، لأن الشرع يرتب المسؤولية على المقصر أو على المتعدي وتختلف هنا الصورة فقط لاختلاف العرف، فلو أنه كان الأمر كذلك في بلد ما أو في زمن ما، وكان الحفظ إنما هو للبهائم في النهار بعكس الصورة الأولى التي كان الحفظ فيها بالليل، والحفظ هنا بالنهار، وأفسدت هذه البهيمة شيئاً وهي في النهار، ضَمِن صاحبها، أو كان في الليل. لا يضمن عكس الحكم الأول عكس الحكم الأول في الصورة فقط، لكن في الحقيقة الحكم واحد وهو أن المقصر أو المتعدي عليه أن يضمن ما أتلفته بهيمته. هذا معنى تغير الأحكام بتغير الزمان
أو المكان أو الأشخاص أو الأحوال. الأحكام في الحقيقة لا تتغير، إنما الذي يتغير هو ما كان. مبنيًا منها على الوفاء أي الصور الخارجية، أما الشرع فالشرع ثابت والشرع لا يتغير، الذي يتغير هو كيفية تطبيق ذلك الشرع على الواقع. في تطبيق الشرع على الواقع سنراعي النص، سنراعي المقاصد الشرعية الخمسة التي طالما ذكرناها وهي: حفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ الدين، وحفظ العرض أو كرامة الإنسان، وحفظ. المال أو الملك هذه الخمسة ينبغي على المكلف أن يراعي حفظها في كل مستوياتها. الفقيه عندما يريد أن يفتي وأن يطبق الشرع الشريف في واقع الناس فإنه
ينظر إلى أمرين: إلى النص حتى لا يخالفه لأنه لا اجتهاد مع النص، وإلى المقاصد الشرعية حتى لا يكر عليها بالإبطال. لا يفتي. فتوى وإذ به يضيع بها المقاصد الشرعية لأن ذلك فيه تضييع لأصل الدين وفيه تضييع للمصالح، والدين إنما جاء لحماية المصالح ولحماية وحفظ هذه المقاصد من أجل عبادة الله وعمارة الدنيا. العادة محكمة كلمة لا بد من فهمها الفهم الصحيح وهي من أصول القواعد الخمس التي دائماً ينبغي أن نرددها. وأن نحفظها ضرر يُزال، الضرر يُزال، والعادة قد حُكِّمت، وكذلك
المشقة تجلب التيسير، والشك لا يُرفع به متيقن، وخلوص النية إن أردت أجوراً. هذه الخمسة هي الخمس الكبار التي ينبغي دائماً أن نهتم بها لأنه قد تولد منها ما لا يُحصى من الفوائد، وتفرع عن هذه القواعد ما لا يُحصى. من الفروع التي ذكرنا قبل ذلك أنها وصلت إلى أكثر من مليون فرع - مليون ومائتي ألف فرع فقهي في الفقه الإسلامي - تعالج كل أفعال الإنسان في يومه كله وتراعي تطبيق الشريعة وتغير الصور من أجل المحافظة على المقاصد ومن أجل الوصول إلى تطبيق واعٍ حكيم للشريعة في
حياة محكمة إلى لقاء قريب. أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.