قواعد الفقه الإسلامي | الواجب لا يترك إلا لواجب | ح23 | أ.د. علي جمعة

قواعد الفقه الإسلامي | الواجب لا يترك إلا لواجب | ح23 | أ.د. علي جمعة - فقه, قواعد الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، مرحباً بكم أيها الإخوة المشاهدون مجدداً في تلك الحلقة من حلقات قواعد الفقه الإسلامي، ومع قاعدة جديدة نحاول أن نلقي عليها مزيداً من الضوء ليُقبل منها ثراء الفقه الإسلامي العظيم وتنوعه، قاعدتنا اليوم تقول الواجب لا يترك إلا لواجب. نعم، يزيل الشرع دائماً عن الناس التعارض والتناقض، فالشرع واضح ومحدد ولا
يسمح بتناقض شيء مع شيء آخر، كما أنه يرتب الأولويات. فإذا ما تعارض واجب مع واجب نظرنا إلى أيهما أولى بالتطبيق وإلى ما هو أقرب بمنظور الشرع ومصلحة جماعة المسلمين ومصلحة الأمة ومصلحة... الناس فرادى وجماعات ننظر إلى ما هو أولى وأديب بالتطبيق فنطبقه ونترك الواجب الآخر يسقط إذا الواجب لا يترك إلا لواجب هو أولى منه. الواجب لا يترك إلا لواجب. الواجب
لو ترك لغير واجب لكان ذلك حراماً. تعريف الواجب هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، فالواجب كالصلاة والصيام والحج والزكاة. وكذا إلى آخره من الواجبات فرضٌ لا بد منه لازم، إذا فعلته أُثبت من رحمة الله، وإذا تركته عُوقبت بتركك إياه. فلا يمكن أن تترك الواجب إلا في حالة واحدة: أن تكون مشتغلاً بواجب آخر، فمن أجل انشغالك في هذا الواجب الآخر تركت الواجب الأول. هذه فروع كثيرة جداً. منها مسألة الحدود
قطع يد السارق، هذا لو لم يجب لكان حراماً. أنا تركت الواجب وهو سلامة العدل، يجب عليَّ ألا أعتدي على الإنسان، ممنوع الاعتداء على الإنسان، الاعتداء، ترك الاعتداء على الإنسان واجب. هذا الواجب تركته لواجب آخر وهو إقامة الحد، فإقامة الحد واجبة وترك الاعتداء واجب، ولكن لما... كانت إقامة الحد في هذه الصورة ستعود على المجتمع بالاستقرار والأمن لأن هذه الحدود زواجر تردع المجرمين وتمنعهم عن أن يشيع الفساد
وتشيع المعصية ويشيع الإفساد في الأرض. جعلها الله سبحانه وتعالى نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين، جعلها الله سبحانه وتعالى رادعة للمجرمين، إذاً فلم يعد هناك. مجال للاعتبار سبحان الله، قطع اليد لو لم يفرضه الله سبحانه وتعالى لكان حراماً بأصل التكريم "ولقد كرمنا بني آدم" ومنع الاعتداء "ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، لكن هذه الواجبات سقطت لإقامة الحد لما في إقامة الحد من خير عميم، مثلاً وجوب أكل الميتة للمضطر، الميتة
حرام فالواجب. ترك أكل الميتة، والواجب أيضاً أن يحافظ الإنسان على نفسه ومهجته - المهجة هي الروح والنفس - "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة". أمرنا ربنا سبحانه وتعالى أن نحافظ على أنفسنا، وحرم علينا الانتحار. فلما أن أمرنا بذلك وحرم علينا الانتحار، وحرم علينا قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، تعارض الواجبات أما أن... امتنع عن أكل الميتة وأموت، وإما أن آكل وأحافظ على مهجتي. يقولون: "يسد رمقه"، والرمق هو الروح، وسد الرمق كأن الروح تخرج
من الفم فتأتي اللقمة أو يأتي الطعام ويسدها، يسد عليها منفذ الخروج، فهذا هو سد الرمق. إذاً أنا أمام أمرين متعارضين: إما أن أحافظ على نفسي وآكل المحرم. وأما أن أبتعد وأتنزه عن المحرم فأموت، فحل هذا من أجل هذا، فإن الواجب وهو ترك المحرم الميتة لا يترك إلا بواجب آخر وهو واجب الحفاظ على النفس. منها أيضاً الختان خاصة الذكور، ختان الذكور واجب لأنه يزيل قطعة من اللحم يجب وصول الماء في الاغتسال من الجنابة إليها،
فلو كانت موجودة هذه القطعة من اللحم التي تسمى القلفة تمنع من وصول الماء إلى الجسم، ولذلك لو أصبح الإنسان بعد بلوغه جنبًا وجاء يغتسل فاغتساله غير صحيح، فالختان واجب. ما هو الختان؟ قطع جزء من الجسم. هل يجوز الاعتداء على الإنسان وعلى جسمه بالقطع؟ هل يجوز قطع إصبع من الأصابع؟ هل يجوز قطع أذن من الأذان من الأذنين؟ لا، لا يجوز قطع أي جزء من الإنسان، هذا واجب، والاعتداء على الإنسان كما قلنا واجب الترك، ولكننا فعلنا هذا حتى لا نقع فيما
هو أشد من ذلك وهو فساد العبادات، ولذلك الواجب لا يترك إلا للواجب، الواجب المطلوب علي من الامتناع. من الاعتداء على جسم الإنسان تركته واعتديت في حدود محددة وهي إزالة هذه القطع من اللحم من جسم الإنسان وهي كأنها زائدة مثلما يزيل الطبيب اللوزتين أو يزيل الطبيب المصران الأعور عند الحاجة إلى ذلك، فالحاجة هنا جاءت حاجة شرعية، فالحاجة في اللوزتين وغيرها تأتي حاجة طبية لكنها أشياء. عند زوالها لا يتأثر الإنسان بل يصح ويسير في حياته بأفضل مما كان، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف
الخبير. فالواجب أيها الإخوة الأعزاء لا يُترك إلا بواجب. هناك صور أخرى كثيرة، منها لو الإنسان نسي التحيات الوسطى وقام إلى الثالثة فإنه لا يعود مرة ثانية إلى التحيات الوسطى، لماذا؟ التحيات الوسطى ليست واجبة، بل هي سنة، والواجب هو الركعة الثالثة التي يؤديها الإنسان الآن. لا يُترك الواجب إلا لواجب. هل التحيات كانت واجبة؟ الإجابة: لا، ليست واجبة. إذاً فليستمر، لأن الواجب لا يُترك إلا لواجب. قاعدة لطيفة، إلى لقاء قريب مع قاعدة
أخرى، فأستودعكم الله.