قواعد الفقه الإسلامي | تعارض الأصل والظاهر | ح27 | أ.د. علي جمعة

مع قاعدة أخرى نلقي عليها مزيداً من الضوء ونفرع عليها الفروع. قاعدتنا اليوم هي قاعدة تعارض الأصل والظاهر. قلنا فيما مضى إن اليقين لا يزول بالشك، وذكرنا مرة أن الأصل براءة الذمة، والأصل إبقاء ما كان على ما كان، والأصل هو العدم، والأصل عدم التكليف. كل هذا يفسر لنا ما الأصل ثم هناك ظاهر، والظاهر معناه الطرف الراجح إذا ما تردد
الإنسان بين أمرين وكان أحدهما راجحاً، أي أنه قد وقع بنسبة تفوق الخمسين في المائة، فهو يرجح عنده شيئاً معيناً، فهذا الراجح نسميه ظاهراً. إذا تعارض الأصل والظاهر فأيهما نرجح؟ لنضرب على ذلك مثلاً يوضح الحال ثم بعد... ذلك نشرح في شرح القاعدة والتوضيح عليها: هناك إناء فيه ماء. هذا الماء هو ماء طاهر. رأيتُ كلباً قد أتى من قبل هذا
الإناء وفمه مبتل وهو يجري في الاتجاه المضاد للماء. أنا في الحقيقة لم أره وهو يشرب من هذا الماء. معروف أن لعاب الكلب نجس وأنه إذا... وضع فمه في إناء ماء يشرب منه تنجس هذا الماء، بل هذه النجاسة نجاسة غليظة، بمعنى أننا إذا أردنا أن نطهر الإناء الذي ولغ فيه الكلب وشرب منه أو أكل فيه لا بد من غسله سبع مرات إحداهن بالتراب كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبان. بعد ذلك تبين العلم الحديث حكمة ذلك، وهي
أن هناك جراثيم في لعاب الكلب لا تتفتت إلا بالتراب، فسبحان الذي أرسله رحمة للعالمين. فالكلب شدة نجاسته أتت من هذا الحديث: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً، إحداهن بالتراب". لقد رأيت الكلب وهو يجري في اتجاهي هكذا وأنا قادم ولم أره يشرب منه. الأصل بقاء ما كان على ما كان، والأصل أن الماء الطاهر يبقى طاهراً، والأصل أن هذا الماء طاهر. والظاهر الراجح عندي من حالة الكلب وجريه ورطوبة فمه أنه شرب من هذا الإناء. هذا
يترجح عندي، ولكن ليس بنسبة مائة في المائة، ليس بنسبة اليقين، بل بنسبة... يبدو أنه أصبح هناك تردد لدي بين الأصل والظاهر، الأصل طهارة الماء والظاهر نجاسة الماء، فأيهما نقدم: الأصل أو الظاهر؟ في هذه الحالة نقدم الأصل ونحكم بطهارة الماء، ونحكم على هذا الماء بأنه طاهر تقديماً للأصل على الظاهر. ولكن ليس في كل الفروع هذا شأن المسألة، وأغلب تعارضات الأصل مع... يظهر في الفقه أن فيها قولين؛ بعضهم ذهب إلى ترجيح الظاهر، وبعضهم
ذهب إلى ترجيح الأصل. نضرب مثالاً آخر: رجل وكّل رجلاً آخر في تزويج ابنته. كل تصرف للإنسان يجوز له أن يقوم به، يجوز أن يوكل غيره فيه، فيجوز أن أوكل غيري في بيع، في شراء، في وصية، في وفي التطليق أيضاً أوكل غيري أن يطلق زوجتي أو أوكل غيري أن يزوجني أو أوكل غيري أن يزوج ابنتي. أنا وليها فأنا الذي أزوجها بنفسي، ولكن يجوز لي - ما دام هذا بيدي وفي طاقتي - أن أوكل غيري فيه. وكلت غيري وهذا الغير
الوكيل أتم زواج ابنتي على واحد الناس ثم بلغهم خبر وفاته، خبر وفاة الموكل، ولم يعرفوا متى مات. نعرف أن الوكالة عقد ينتهي بموت أحد الطرفين، لو مات الموكل انتهى عقد الوكالة. فهنا الأصل بقاء حياته، والظاهر أنه مات قبل العقد، فأيهما نقدم؟ قال بعض العلماء: نقدم الأصل، فقالوا: الأصل بقاء حياته، فيستمر التوكيل، فتزوج هذا. الوكيل للبنت
تزوج صحيح وقع في موقعه ولا بأس به وصحح العقد، والآخر قال: لا، الظاهر أن هذا الرجل مات قبل العقد، والراجح عندنا هذا، ونحن نسير هنا مع الظاهر، وعلى ذلك نبطل صحة العقد، ولذلك نجد ابن الصلاح رحمه الله تعالى وهو من كبار فقهاء الشافعية يقول إن على... الفقيه عندما تُعرض عليه مسألة فيها تعارض الأصل والظاهر عليه أن يتأنى وأن ينظر وأن يرى كيف يرجح، فقد يرجح الأصل في بعض المسائل وقد يرجح الظاهر في مسائل أخرى، وقد
يجزم بتقديم الأصل وقد يجزم بتقديم الظاهر. فهذه القاعدة كأن تحتها أربعة أقسام: قسم نقدم فيه الأصل قطعاً وقسم نقدم فيه الظاهر قطعاً وجزماً، وقسم نقدم فيه الأصل غالباً أو على الصحيح أو على الأصح، وقسم نقدم فيه الظاهر على الصحيح أو على الأصح أو غالباً. فعلى الفقيه أن يتأنى في هذه المسألة لأنها تسمى بقاعدة القولين، لأن غالب الفروع المندرجة تحت هذه القاعدة تحيّر فيها العلماء أو اختلفوا. فيها على قولين، ولكن
بعض هذه الأقوال أقوى من بعض طبقاً لتحصيل المصالح، وطبقاً للالتزام بالنصوص الشرعية الواردة، وطبقاً لإعمال كلام الناس وعدم إهماله، وطبقاً لتحقيق مقاصد المكلفين، ولتحقيق مقاصد الخلق وهكذا. إذاً فهي قاعدة دقيقة ولكنها قاعدة عظيمة، فروعها كثيرة جداً ومتشعبة، وفيها من الفقه والصناعة الفقهية ما يظهر مثل هذه القواعد الدقيقة إلى حلقة أخرى. أستودعكم الله أيها الإخوة المشاهدون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.