قواعد الفقه الإسلامي | لا ضرر ولا ضرار | ح29 | أ.د. علي جمعة

والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. نلتقي اليوم مع قاعدة من قواعد الفقه الإسلامي التي بُني عليها ذلك الفقه، ورأيناها في كل أبوابه، قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، ويُعبَّر عنها فيقال: "الضرر يُزال". "لا ضرر ولا ضرار" نص الحديث النبوي الشريف، والنبي صلى الله عليه وسلم في... شريعته كلها تُعلّم المسلمين أن الشرك بالله والإضرار بالناس وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وأن الإضرار بالناس وإيقاع
الضرر في هذا الكون منهي عنه، ليس في آية واحدة من كتاب الله ولا في حديث واحد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الشريعة بأكملها تدعو الناس إلى تجنب والأذية والمفسدة والشر فلا ضرر ولا ضرار أو الضرر يزال قاعدة أم أساسية تكون عقلية الفقيه وهي إحدى المكونات لعقلية المجتهد. نرى في "الضرر يزال" هذا أن الضرورات تبيح المحظورات. حرم الله سبحانه وتعالى علينا الخمر وحرم علينا
أكل الميتة وحرم علينا أشياء نص عليها ثم بعد ذلك قال إلا... مَنِ اضطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثمَ عليه، الضرورةُ تجعلُ الإنسانَ في ضررٍ يوقِعُهُ في ضررٍ. الإنسانُ في تناولِهِ للأشياءِ على خمسِ مراتبَ: الأولى هي مرتبةُ الضرورةِ، والثانيةُ هي مرتبةُ الحاجةِ، والثالثةُ هي مرتبةُ المنفعةِ، والرابعةُ هي مرتبةُ الزينةِ، والخامسةُ هي مرتبةُ الفضولِ. في مرتبةِ الضرورةِ إذا لم يتناولْها. الإنسان يهلك أو يقارب على الهلاك إذا
لم يُجرِ العملية الجراحية التي تزيل ما عنده من ضرر، أو إذا لم يتناول الطعام أو لم يتناول الشراب أو لم يقضِ حاجته. فسبحان الله، لا يستطيع المعيشة ولا يبقى مع هذا الضرر، ولذلك الضرورة هنا هي التي إذا لم يفعلها الإنسان. أو يتناولها الإنسان فإنه يهلك أو يقارب على الهلاك. أقل منها الحاجة ليست كالأكل والشرب والعملية الجراحية، ولكن إذا لم يتناولها الإنسان أصابته مشقة. هذه هي مرتبة الحاجة، مرتبة الحاجة الحقيقية
مثل السكن. فإذا تصور الإنسان أنه ليس عنده مكان يأوي إليه ولا يذهب إليه في نهاية يومه فماذا؟ سيكون الأمر فيه مشقة بالغة إذا تصورنا مثلاً أن الشريعة قد حرمت الإيجار مثلاً. لا يمكن أن نتصور هذا لأن الناس تحتاج إلى إيجار البيوت والسكن فيها احتياجاً قد يصل عند التفكر إلى مرتبة الضرورة. لكن في الحقيقة لا يهلك الإنسان إذا ما بات في الصحراء أو في... الشارع لا يهلك لكنه تصيبه مشقة بالغة جداً، ومن هنا فإن المرتبة الثانية هي مرتبة الحاجة،
والقاعدة الفقهية التي لاحظها الفقهاء بعد تفريعهم للفروع أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، وسنحاول أن نفرد لهذه القاعدة وهي قضية الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة لقاءً خاصاً منفرداً. الثالثة في مرتبة التعامل مع هذا هي مرتبة المنفعة، والمنفعة بالضبط كشأن التفكه، أن الإنسان إذا لم يتناولها، إذا لم يتناول اللحم مثلاً أو لم يتناول الفاكهة، فما الذي يضره؟ أنه يصيبه شيء من الضيق، لكنه ليس كالمشقة التي تصيبه من جراء عدم
الأكل للمدة الطويلة أو من جراء عدم. السكنى مثلاً، فالمنفعة هي أقل من الحاجة. يقول: وهي الزيادة والإسراف. هذا الإسراف قد يؤدي بالإنسان - وهو مباح - لكنه قد يؤدي بالإنسان إلى مشارف الحرام. هو مباح، لم يقع في الحرام بعد، إنما هو يأكل أكلاً كثيراً ويشرب شرباً كثيراً ويسرف في مأكله وفي مشربه، والله سبحانه وتعالى عن الإسراف "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين"، ينهانا عن التطرف في طرفي الأمر كله في هذه الخصلة وفي غيرها من الخصال. فالفضول فيه نوع من الإسراف،
والإسراف وإن كان في نفسه مباحاً - فهو لم يأكل شيئاً من المحرمات - إلا أنه يجعل الإنسان على مشارف الحرام هي الضرورة والحاجة التي تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يحافظ الإنسان على نفسه ثم على عقله ثم على دينه ثم على عرضه ثم على ملكه، وهذه التي تسمى بمقاصد المكلفين. هذه المقاصد حتى تُحفظ فإنها تُحفظ في أساسها في الضرورة التي تحفظ علينا. هذه الخمسة وأيضاً في مرتبة الحاجة وأيضاً في مرتبة ثالثة يسمونها مرتبة التحسين. الذي
يبيح الحرام هو الضرورة والحاجة التي تنزل منزلة الضرورة حتى نحافظ على تلك الخمس. ولكن المنفعة والفضل والزينة إذا تخلى عنها الإنسان خوفاً من الوقوع في الحرام فإن ذلك من باب الورع، وكانت الصحابة الكرام. تترك سبعين باباً من أبواب الخير من أبواب المباح الذي لا حرمة فيه، تترك سبعين باباً من أبواب المباح خشية أن تقع في باب من أبواب الحرام.