قواعد الفقه الإسلامي | لا ينسب لساكت قول | ح38 | أ.د. علي جمعة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مرحبًا بكم في حلقة جديدة من حلقات قواعد الفقه الإسلامي، نلقي فيها ضوءًا على إحدى القواعد الفقهية التي صاغها الفقهاء ليجمعوا بها شتات الفروع. اليوم معنا قاعدة لا ينسب. للساكت قول ويُعبِّر عنها غالباً "لا يُنسب لساكت قول" وهي هي، وهذا كلام الشافعي رضي الله تعالى عنه. ومن فروع هذه القاعدة الجليلة التي
تُقِرُّ حرية الإرادة وتُقِرُّ أن الإنسان لا يمكن أن يُؤخذ من غير أن يُعبِّر عن نفسه وأن يُعبِّر عما بداخله، لأنه لو أخذنا الإنسان بسكوته فقد... يكون سكوته هذا عن تفكرٍ، عن تدبرٍ، عن خجلٍ، عن رهبةٍ، عن حكمةٍ، لا عن موافقةٍ وعن رضا. فلا يمكن أن نستنبط منه الرضا، ولذلك لو جاء أحدهم وقال لأخيه: اشتريت منك هذا بكذا، فسكت، لا يُعدُّ سكوته هذا قبولاً لهذا
السعر، ولا يجوز لصاحبنا الأول الذي عرض هذا السعر. فسكت صاحبه، سكت صاحب السلعة، لا يجوز أن يُستدل بسكوته هذا على أنه قد وافق، لأنه لا يُنسب لساكت قول. ولو جاء اثنان يتخاصمان عند القاضي، فادعى أحدهما على الآخر أن في ذمته ألف درهم أو ألف دينار أو ألف جنيه، فسكت الآخر أمام القاضي ولم يعترف بقوله: "نعم في لم يقل هذا، سكت، فلا يجوز للقاضي أن يأخذ من سكوته هذا أنه قد أقر بالدين، بل لا بد أن يسأله سؤالاً صريحاً، ولابد أن يجيب هذا الخصم إجابة صريحة واضحة، لأنه
لا يُنسب لساكتٍ قول. كذلك لو رأى السيد عبده يُتلِف مالاً وهو ساكت، هنا سيتغير الحكم لأنه سكت. في موطنٍ يُمكن فيه أن يتكلم وأن يمنع من هو مسؤول عنه، فكان سكوته هنا ينزل بمنزلة الرضا منه، ولذلك هذه القاعدة أغلبية وليست كلية، ومن هنا فإن هذا السيد يضمن، مثله الأب الذي يرى ابنه يُفسد في شيء ويتركه يُفسد، فالترك هنا في حقيقته من غير أن يتكلم ويقول. أنا راضٍ بأن يفسد ابني
هذا، وهذا الترك يحمله مسؤولية الضمان، وكان الترك هنا مع الرؤية تركاً عن قصد، وقد خرج هذا عن حد السكوت الذي نتحدث عنه، ولكن هناك فروع أخرى ينبغي علينا أن نقيسها مع هذه القاعدة، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطى الفتيات. حرية اختيار الزوج وراعى ما قد يعتريهن من خجل. فالبنت إذا لم ترد الزوج فإنها تنكر هذا وتصرح جهاراً بأنها لا تريده، ولكنها إن أرادته وكانت بكراً فقد تسكت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الثيب
تُستأذن والبكر إذنها صماتها". إذاً، فالبنت التي لم تتزوج من قبل نستأذنها في الزواج. ونقول لها: هل توافقين على هذا الزوج؟ فإن سكتت، فشأن الفتيات أن يسكتن في هذا الموقف، فنأخذ من سكوتها رضاها، وذلك لأنه جرت العادة في الفتيات أنها إذا كانت رافضة صرّحت برفضها، وإذا كانت موافقة فقد ينتابها شيء من الخجل راعاه الشرع، فقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذنها صمتها، أي صمتها هو إذن لها. إذا البكر خرجت عن القاعدة، وعندنا هنا ساكت نسبنا إليه قولاً كأنها قالت: "نعم، أرضى به". هذا
أمر مستثنى، هذا أمر قليل، ولكن المرأة التي سبق لها الزواج والتي نسميها بالثيب لا بد أن تصرح، فإذا سكتت قلنا لها: "هل توافقين على فلان؟" فسكتت فسكوتها هذا إعراض بعكس البكر، سكوتها هذا لا يمكن أن نأخذ منه موافقة، لأنها بسكوتها قد تكون لا تريده، بل في الغالب أنها لا تريده ولا تريد المناقشة في هذا الموضوع فتسكت. هي قادرة إذًا على الموافقة صراحة وعلى الرفض صراحة، ومن هنا لا يُنسب لساكت قول، حتى هذا. طردوه في العلم. أثناء العلم نأتي
بالكتاب ونقرأ فيه على المشايخ، أنا أقرأ والشيخ يستمع وهو ساكت، لكن هنا ينزل بمنزلة الرضا كأنه يرضى عن قراءتي ويرضى عن أن فعلاً هذا الكتاب يشتمل على هذه الأحاديث أو على هذه الأشعار أو على هذه الكلمات في اللغة مثلاً إلى... آخره حسب الكتاب الذي أقرأه عليه، فسكوت الشيخ أثناء استماع الطالب الذي جاء يطلب العلم، جاء ليتعلم، سكوت الشيخ ينزل بمنزلة قوله ولا ينزل بمنزلة الساكت الذي لا ننسب إليه قولاً. مسألة أخرى مثلاً حتى نراها هل
هي تتبع القاعدة أم لا، مثلاً شخص محرم بالحج، المحرم يحرم عليه قص. وتقصير وحلق شعره يحرم عليه التصرف في كل شعر جسمه، لكنه جلس هكذا، فإذا بشخص آخر يمسك الموس أو الماكينة ويأخذ شيئاً من شعره، وهو قادر على أن يصد، وعلى أن يدفعه، وعلى أن يعترض، وعلى أن يمنعه، لكنه لم يفعل، سكت والآخر قص شعره، فهل نقول في هذا الشأن. أنه لا يُنسب للساكت قول، قالوا: لا في هذه الحالة عليه الفدية لأنه كأنه رضي بذلك. من أين أخذنا الرضا؟ من القدرة،
من القدرة والترك عن قصد. هو يعلم أن هذا سوف يأخذ شيئًا من شعره، لم يأمره ولكنه يعلم وهو قادر على صده ودفعه، ولكنه لم يمنع في. هذه الحالة عليها الفدية لأنها لا تدخل تحت هذه القاعدة التي معنا وهي لا يُنسب للساكت قول. إذًا فهي قاعدة دقيقة قد يتخيل الإنسان في بادئ الأمر أن فروعًا منها، ولكن بالتأمل وتتبع كتب الفقه يظهر أنها قد خرجت عنها وأنها ليست منها. ولكن القاعدة في مجملها قاعدة صحيحة عند. التدبُّر والتأمل يُعلِّماننا اليوم شيئاً جديداً وهو أن القواعد الفقهية قواعد أغلبية وليست كلية، وهي أنه يجب
علينا الدقة في تأمل الفروع وعلاقتها بالقاعدة. إلى حلقة أخرى، أستودعكم الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.