كيف نتعامل مع التراث الإسلامي؟ أ.د/ علي جمعة | أفيقوا يرحمكم الله |

تراثنا التراث بعدما حددنا معناه وبينَّا مبناه، التعامل معه هو أولاً أنه يجب علينا أن نستفيد من مناهجهم وألا نقف عند مسائلهم. يجب أن نستفيد من مناهجهم، كيف كانوا يفكرون، المناهج، مناهج التعامل الذي كانوا يفعلونه، نأخذها منه ولا نقف عند مسائلهم المرتبطة بالزمان. ثانياً لا بد علينا أن ندرك. قضية واجب
الوقت هؤلاء الأئمة الأعلام قاموا بواجب وقتهم، فلو خالفناهم لتغير الزمان وتغير تحصيل المصالح وتنفيذ المقاصد وإدراك المآلات وإدراك الواقع وكيفية تطبيق النص عليه، فإننا نبجلهم ونجلهم ونعظمهم لأنهم قاموا بواجب وقتهم حتى لو خالفناهم، لأن مخالفتنا في الحقيقة اتباع لهم في مناهجهم دون مسائلهم، فلو كانت المسألة كانت قد ظهرت لزمان ما ونحن نأتي الآن نخالفها لكن لا نقدح فيهم
ولا نسبهم ونشتمهم ونحتقرهم، فإن هلاك هذه الأمة إذا ما احتقر آخرها أولها. فلو فعلنا ذلك ضعنا وضاع تراثنا وضاعت هويتنا ولم يبق لنا في الحياة شيء، وكأننا نبدأ من الأول. أما التراث فإنه يشعرنا بأننا أغنياء معنا. تراث ليس موجوداً في الأمم وهو تراث إنساني فيه الود والحب والرحمة والإنسانية. إذاً، أولاً المناهج لا المسائل، وثانياً إدراك قضية واجب الوقت. واجب الوقت يجب أن نفهمه، سيترتب من هذا من
واجب الوقت أننا غالباً ما نقوم بالتجديد وقليلاً ما نقوم بالإصلاح. إذن لدينا منهجان للتعامل: التجديد، أنت تعترف بأهمية... الماضي وتغييره لأجل المتغيرات الحادثة والإصلاح لا تقول في الماضي كان فيه خطأ وقصور وتقصير وتعدي، فالفرق بين التجديد والإصلاح أن التجديد يفترض علو شأن الماضي، والإصلاح يفترض أن خطأً قد وقع في الماضي، فالإصلاح يصحح والتجديد يبني
من جديد لكنه لا يصحح لأنه كان صحيحاً إنما يكمل المسيرة وغالباً. شغلنا في الحقيقة هو على التجديد والقليل القليل هو في الإصلاح، إذا كان ثمة خطأ قد فعلوه. من هذا الخطأ الذي نراه في بلاد المسلمين أنهم لم يهتموا الاهتمام الكافي بالتعليم، فرأينا التعليم موجوداً لكنه ليس منتشراً. كان من المفروض أن تكون هذه الأمة أمة علماء ولم يحدث، إذاً فهناك خلل نعترف به ونصححه محاولين
ذلك، لكن المنهج الذي وضعوه كان منهجاً عالياً كفانا إلى يوم الناس هذا، راقياً رائقاً فائقاً، وقل فيه ما شئت. ولذلك يتعجب الناس لماذا نتمسك بهذا التراث؟ نتمسك لأنه قد بُني ولا بناء الأهرام، وبُذلت فيه المُهج، وبُذل فيه تضافر العقول وتضرع القلوب حتى وصلنا. إلى هذا الحال كان عندنا أحد كبار النحاة في الأزهر الشريف وهو الشيخ خالد الأزهري. الشيخ خالد،
كيف أصبح الشيخ خالد هكذا عالماً؟ الشيخ خالد في الحقيقة كان يعمل مشعلاً. ما هو المشعل؟ هذا السراج كان قبل الكهرباء بالشمعة أو بالزيت، فهو يملأ الزيت في السراج ويوقده حتى ينير للطلبة. وظيفة خادم مسجد، لكن خادم المسجد كان يأخذ في الشهر ثمانية دراهم، وعنده أسرة وعائلة،
والطالب يأخذ أربعة دراهم، إذاً هو يأخذ أكثر من الطالب. فهو يضع الزيت، مسكين، في السراج، ووقعت نقاط زيت على كتاب أحد الطلاب، وكان ما زال يكتب فيه، ففسدت الصفحة. هذه الصفحة عليَّ أن أكتبها. مجهود كبير وفي يوم من الأيام أشرح لكم كيف يكتبون هذه الصفحة. كان هذا عملنا، فعندما سقطت نقاط الزيت وفسدت الصفحة،
غضب الولد وقال له: "لو أنك كنت متعلماً لعرفت المجهود الذي أفسدته عليّ بهذه النقاط وبإهمالك في ضبط يدك يا جاهل". الشيخ خالد عمره ستة وثلاثون سنة ولا يعرف. القراءة والكتابة يعمل في هذه الشهادة فبكى بكاءً من كلمات الطالب وقال: هل تعيّرني بجهلي؟ قال: نعم، أعيّرك بجهلي. فذهب إلى قيّم المسجد (مدير
المسجد) وطلب منه رفع اسمه من العمال إلى الطلاب. فقال له: يا بني، أنت تأخذ ثمانية دراهم، هكذا ستأخذ أربعة فقط. قال: إذاً آخذ الأربعة. لكن لا بُدَّ أن أتعلم، وبدأ الشيخ خالد يتعلم الأبجدية وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وتطور سريعاً وانتقل في الدروس وحفظ حتى صار سيبويه العصر. الشيخ خالد الأزهري حاشيته ما زالت تُدرس إلى الآن في الأزهر الشريف. إذا بُذلت
مجهودات ضخمة لبناء هذا التراث ضخمة، وهناك أناس آثرت العزوبة على... الزواج من أجل أن يتفرغوا، منهم سيدنا الإمام النووي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، حتى قال أحدهم: "لقيت خيراً يا نوى ووُقيت من ألم النوى، فلقد نشأ بك عالم لله أخلص ما نوى، وعلى علاه وفضله فضل الحبوب على النوى". والإمام النووي كان شيئاً يُحكى، هذا التراث بُذل فيه الشيء. الكثير والكبير، ولذلك عندما وصل إلينا حدث لنا انبهار
بهذا التدقيق والتحقيق. ويقول الإمام الباجوري: "بالتدقيق والتحقيق والترقيق والتنميق والتزويق"، خمسة أمور: التحقيق والتدقيق والترقيق والتنميق والتزويق. ما هذه الخمسة؟ يقول لك: التحقيق أن تسوق الأمر بدليله، تقول: قال تعالى، قال رسول الله. والتدقيق أن تسوقه بدليل آخر، بدليل آخر. غير الكتاب والسنة: الترقيق أن تجعل هذا الحكم أو المعنى بعبارة
رقيقة. التنميق أن تُدخل فيه شيئاً من المحسنات البديعية. التزويق أن تجعله موزوناً. كلام كهذا، هل انتبهت؟ هل العبرة بالمعاني أم بالمباني؟ هكذا هو يريد أن يقول: العبرة بالصيغة أم بالمفهوم؟ صيغة ومفهوم حسناً، لكن إذا أردت التنميق فإنه... هل العبرة بالمعاني أم المباني؟ والترجيح يختلف في الفروع. كلام النووي هكذا، فالثاني يريد أن
يزينها. هذه منمقة فقط، فيقول: هل العبرة بالألفاظ والمباني أو بالصيغ والمعاني؟ فأصبحت موزونة: "هل العبرة بالألفاظ والمباني أو بالصيغ والمعاني؟" في حين أنها في البداية كانت: "العبرة بالصيغة أم بكذا" يعني. من غير تنميق أو ترقيق أو تزويق، يبقى إذا هذا التراث بُذل فيه الكثير حقيقةً، يعني بُذل فيه الكثير من الجهد ومن الضراعة إلى الله. كان الناس يعبدون الله
في ذات المسجد، يقومون بالصلاة وكذا. أدركنا المشايخ، أنا أدركت المشايخ وهو يصلي عند هذه السارية مثلاً في الأزهر، هذه السارية، فيقول. هذه يصلي عليها الشيخ عبد الرحمن الشربيني، الله أكبر. هذه يصلي عندها الشيخ فلان، الله! وهناك بعض الأشياء في الأصل يقول لك: هذا، هذه محراب الدردير. فإذا كان محراب الدردير يصلي فيه الشيخ الدردير، ارتبطت قلوبهم بمن مضى إجلالاً وإعزازاً وتقديراً وبركة موروثة وسند متصل، ومن هنا كانت سر قوة. هذا الأزهر السند المتصل والبركة الموروثة، أمران: السند المتصل والبركة
الموروثة. تعال الآن لنرى النابتة أين سندهم؟ لا يوجد سند، بل إن كبيرهم أنكر وجود الأسانيد وقال: ماذا نفعل بها؟ وذهب إلى الشيخ راغب الطباخ صاحب تاريخ حلب الشهباء، فأعطاه سنداً فأخذه، ثم تذكر أن عنده في البيت سنداً والعياذ. بالله فمزقه كما يحكي عن نفسه، لا سند متصل. عندما ألهم الله المسلمين بوجود الأسانيد للقرآن وللسنة المشرفة، ألهمهم كذلك أن يضعوا الأسانيد للدفاتر وللعلوم
بركةً للأمة وحمايةً لدخول الغير في الجماعة العلمية. فلما ظهر هؤلاء النابتة ألغوا السنة، فألغيت البركة، فأصبحوا كوجوه الشياطين، وشاع هذا وذاع في الناس. إياكم! يا أولادي أن تضعوا آذانكم عند هؤلاء النابتة فإنهم كما وصفهم سيدنا يحسنون القيل ويسيئون الفعل. نعم، إذا في التعامل تكلمنا عن المناهج دون المسائل، وتكلمنا عن مفهوم واجب الوقت، وتكلمنا
عن مفهوم التجديد والإصلاح، وكل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وكان سيدنا مالك يشير إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم. رابعاً: كيف نتعامل مع هذا التراث؟ أول شيء أننا نتعامل معه على أنه نتاج بشري، لكن نرغب في تطبيقه. النقطة الرابعة: نرغب في تطبيقه. نتاج بشري صحيح، ولكنه محترم. نرغب في تطبيقه، إذاً لا بد علينا أثناء التطبيق أن نرى هدف هذا الكلام وأن... نرى الواقع الذي نعيشه نحن وأن نرى
كيف سنصل إلى المقاصد والمصالح والمآلات من خلال ذلك التطبيق وكيف نوقع هذا على الدنيا التي تجري وتتغير. هذا هو كيف نتعامل مع هذا التراث. خامساً: فك شفرة التراث، التراث له شفرة، له طريقة لفهمه، وهذا الذي ندرسه في اللغة العربية وفي... أصول الفقه وفي الفقه وفي الأزهر الشريف نتعلم كيف نقرأ كيف نفهم وكان في الأزهر يدرسون الربع الأول الذي هو العبادات ثم يتركونك تجلس في الربع الأول عشر سنوات
عشر سنوات وأنت تدرس الخمس أما ماذا بعد ذلك؟ بسم الله الرحمن الرحيم ستة أشهر شرط ستة أشهر بسم الله الرحمن الرحيم فلما جاء الشيخ محمد عبده من البلد هرب هرب، فذهب إلى خاله، وكان خاله من علماء الأزهر، فقال له: لماذا هربت؟ قال: ستة أشهر يقولون لنا "بسم الله الرحمن الرحيم"، ولا يفعلون بنا شيئاً. أتعلم أنه لو درس هؤلاء النابتة ستة أشهر "بسم الله الرحمن الرحيم" ما فعلوا. ما فعلوا، وكان هناك فيلسوف فرنسي كبير اسمه "رينيه جينو"، وقد أسلم "رينيه جينو" في سنة ألف وتسعمائة واثني عشر، وسمى
نفسه "عبد الواحد يحيى". وكان "رينيه جينو" يبحث عن هذين الأمرين: السند والبركة، فلما وُلِدَ في البروتستانت لم يجد عندهم بركة موروثة مثل الكاثوليك، فانتقل من البروتستانت إلى الكاثوليكية. لكن لم يجد عند الكاثوليك سنداً وهو مشغول بالاطلاع على أديان الهند القديمة بحثاً عن السند، وأن هذا السند لا بد منه. وإذ به يجد السند عند المسلمين، فأسند فأسلم. دخل الإسلام من أجل هذين الأمرين: السند والبركة، وجدهما عند المسلمين، واتخذ طريق
التصوف، وجاء إلى مصر ومكث فيها إلى أنه مات وتزوج من مصر وأنجب أربعة أولاد، ولدين وبنتين، وانتبه أن واحداً منهم مات في حادثة في باريس، أحمد رحمه الله، والباقون هم عبد الواحد وليلى وخديجة. هؤلاء أولاد عبد الواحد يا أحمد رحمه الله الذي هو ريني جونو، ورآه الشيخ عبد الحليم محمود عندما زاره معه رسالة من باريس. فزاره ووجده ولياً من أولياء الله الصالحين بعد أن كان من كبار الفلاسفة رينجنو، ألف عنه أكثر من مائتي رسالة دكتوراة وماجستير في السوربون،
وترك خلفه ثمانية وعشرين كتاباً باللغة الفرنسية يدعو إلى الله سبحانه وتعالى ويبين المصيبة التي تحدث في الغرب من قتل الإنسان معنوياً وتحويله إلى مادة. والتنحي عن قضايا الألوهية وقضايا الدين وفقد الهوية، ثمانية وعشرين كتاباً واستعمل فيها المصطلح الهندي لأنه أقرب للفهم في الفرنسية منه لغير ذلك، وكان يعلم عدة لغات. الشاهد في الكلام أنه - رحمه الله تعالى - أسلم من أجل ما هو موجود في الأزهر، السند والبركة. فمن فهم شرح الله صدره لهذا، فالحمد لله. لله الذي
جعلنا مسلمين