لا تستعجل | الحكم العطائية | حـ 19 | أ.د علي جمعة

لا تستعجل | الحكم العطائية | حـ 19 | أ.د علي جمعة - الحكم العطائية, تصوف
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً وسهلاً بكم في حلقة جديدة من حلقات الحكم العطائية. يقول السيد ابن عطاء السكندري في حكمته التاسعة عشرة لا... تطلب منه أن يخرجك من حالٍ لا تطلب منه أن يخرجك من حالة ليستعملك فيما سواها فلو أرادك لاستعملك
من غير إخراج. التسليم والرضا والقيام بما أقامك الله فيه هو هذه الحكمة. كثير من الناس يشكو حاله إذا كان مصلياً ولكنه لا يصوم كثيراً، يريد أن يكون من الصائمين إذا... كان يصوم كثيرًا، يريد أن يكون من القائمين. إذا كان قد أقامه الله سبحانه وتعالى في خدمات الناس في مجال الطب، يريد أن يخدمهم في مجال الفقه والشريعة. إذا أقامه الله سبحانه وتعالى في عمارة الدنيا وفي عمل من أعمال الهندسة، فإنه يتبرم من ذلك ويريد أن يساهم
في عمل. من أعمال الزراعة كثير من الناس يشكو مقامه الذي أقامه الله فيه ويسأل الله سبحانه وتعالى إما أن يضم إليه عملاً آخر وإما أن ينتقل من هذا العمل الذي هو فيه إلى عمل آخر سواء كان هذا العمل دينياً أو دنيوياً، ونحن أمام صنفين من الناس صنف أقامه الله في سنة متبعة أو في فريضة عادلة أو في حالة طيبة، أي عمله حلال ومقامه حلال وعبادته شرعية، فهذا القسم هو الذي نتحدث عنه الآن. لا نريده أن يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يغير حالته، ونقول
له إن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يستعملك فيما أنت تطلبه وتتطلع إليه. لأستعملك من غير طلب ولكن التفت إلى مقام الله لك، التفت إلى ما أنت فيه، أتقن عملك وأتقن ما تقوم به سواء من الأعمال الدنيوية أو الأعمال الدينية. الصنف الثاني هو صنف قام في معصية أو قام في عمل هو لا يطمئن إليه، ولذلك هذا الذي يطلب من الله سبحانه. وتعالى أن يمنَّ عليه بالانتقال من المعصية إلى الطاعة، بالانتقال من القصور والتقصير إلى حال التمام والكمال. نعم، هذا الذي يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يرحمه وأن يكرمه وأن ينقله من هذا الحال إلى
حالٍ أحسن. أما الذي أقامه الله سبحانه وتعالى في مسألة دينية أو دنيوية فعليه أن يتقنها وإلا يتبرم منها. وصف الشاعر لهذه الحالة يقول: كل من في الكون يشكو حظه، ليت شعري هذه الدنيا لمن؟ فنرى الطبيب متبرماً، ونرى المعلم متبرماً، ونرى رجل الأعمال متبرماً، وكل من في الكون يشكو حظه. هذا الكلام منسوب إلى أبي العلاء المعري، يعني هناك في القرن الثالث والرابع الهجري. إذا فنحن في هذه الحكمة يوجهنا ابن عطاء الله إلى قضية الرضا وقضية التسليم وقضية فهم مراد
الله وقضية الوعي الذي يسبق السعي، ودائماً لا بد أن يسبق الوعي السعي لأن السعي لا بد أن يُبنى على وعي صحيح حتى يكون سعياً مقبولاً ومشكوراً، الوعي بالحقيقة وهو أن لا يكون في الكون إلا ما أراد الله وأن الله حكيم يدبر هذا الكون، فهمك لهذه القضية يجعلك لا تطلب تحويل حالك، لأنه يجب عليك أن تلتفت إلى حالك وأن تتقنه. يا ليت لو أن الطبيب اهتم بطبه وأن المصلي اهتم بصلاته، سواء كان العمل دنيوياً أو عبادة، لأن هذا سيترتب...
عليه ثواب كبير عند الله سبحانه وتعالى بدلاً من أن يشغل نفسه بالتبرم وبالطلب وبتوسيع الدائرة عليه، أن يتقن ما أقامه الله فيه سبحانه وتعالى، وأن يتعلم من أجل هذا النوع من الأعمال، وأن يطبق هذا العلم، فالطبيب الذي يطلع على كل جديد وعلى كل بحث وعلى كل تجربة. وعلى كل دواء مخترع وعلى كل شيء يكون بنية خدمة المرضى واعتبارهم أنهم بشر يخفف عنهم الآلام، يكون أولى من أن يضع عينيه على مجال آخر يترك فيه الطب ويعمل فيه بأمر آخر. لا
تطلب منه أن يخرجك من حالة أنت فيها ما دامت هذه الحالة مرضية وما دامت هذه... الحالة سنية وما دامت هذه الحالة على أمر شرعي سواء كانت دنيوية أو كانت دينية ليستعملك فيما سواها إما بالانتقال وإما بالإضافة، يعني تريد أن تضيف لنفسك فيكون في ذلك طلب لعبء جديد أو تريد أن تتحول تحولاً تاماً وتترك ما أنت عليه، وهنا تذكرنا هذه الحكمة بقولهم الخيرة فيما. اختار الله سبحانه وتعالى لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع. كل هذه معنى
من معاني التسليم والرضا، ومعنى من معاني "لا حول ولا قوة إلا بالله". كلمة "لا حول ولا قوة إلا بالله" فإنها تنفي الحول والقوة عن نفسه وعن الآخرين وتثبتها لله رب العالمين، ومن أجل ذلك فهو لا... يعترض على مراد الله ولا على قدر الله ولا على إقامة الله له، ولكنه يتوكل على الله ويتقن عمله. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"، فمطلوب منه الديمومة. ويقول: "إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه"، فيطلب منه الإتقان بالعلم ويقول طلب العلم فريضة
على كل مسلم حتى لا يتحدث الإنسان بما لا يعرف، ويطلبه بالأمانة ويقول المستشار مؤتمن، كل هذا في الأعمال الدينية والأعمال الدنيوية من أجل عبادة الله وعمارة الأرض وتزكية النفس، فلو أرادك لاستعملك من غير إخراج، لو أرادك الله سبحانه وتعالى لأضاف لك من عنده. ما يطلبه منك ويطلب منك القيام به ويطلب منك إتقانه ويطلب منك نفع الناس به ونفع نفسك أيضاً من غير أن يخرجك مما أنت فيه، ولذلك فإننا نرى هذا المعنى، قد أكرم الله سبحانه وتعالى مثلاً شيخ
مشايخنا الشيخ أبا اليسر عابدين، أبا اليسر عابدين كان مفتي الشام وكان من كبارُ العلماءِ وهو مِن نسلِ سيدنا ابنِ عابدين صاحبِ الحاشيةِ الماتعةِ حاشيةِ الشامي، وكان طبيبًا جراحًا، جمعَ اللهُ له بينَ علومِ الشريعةِ وعلومِ الطبِ من غيرِ عناءٍ ولا تطلُّعٍ للانتقالِ من هنا أو من هناك، بل إنه خرجَ في بيتِ علمٍ وتقوى وتعلُّمٍ وتخصُّصٍ، وهكذا نجدُ كثيرًا من إخواننا الأطباءِ. وقد درسوا في الشريعة فاستعملهم الله سبحانه وتعالى في مراده دون أن يخرجهم من دائرتهم الأولى. لا تطلب منه أن يُخرجك من حالةٍ ليستعملك فيما سواها،
فلو أرادك لاستعملك من غير إخراجٍ إلى لقاءٍ آخر. أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.