لا تستغرب وقوع الأكدار | الحكم العطائية | حـ 24 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات الحِكَم العطائية. يقول ابن عطاء وهو يبين لنا حقيقة الدنيا وأنها لها صفات، وهذه الصفات... منها أنها حادثة، ومنها أنها إلى زوال، ومنها أنها لم تصفُ لأحد من قبل، ومنها أنها سُميت الدنيا لأنها دنيئة، ومنها أنها
قد اختلطت فيها المصالح بالمفاسد واللذات بالآلام. ولذلك فليس فيها مصلحة مطلقة، وليس فيها لذة تامة، وليس فيها مفسدة مطلقة، وليس فيها ألم تام، لكنها في الحقيقة أُحيطت. بشيءٍ كبيرٍ من الكدر، من المشاغل، من الهموم، من المصائب، من الكوارث، من الأزمات، ولذلك ينبهنا إلى أننا ينبغي علينا ألا نستغرب وقوع الأكدار. كثيرٌ من الناس عندما يحدث له شيء فإنه يظن أن الله قد غضب عليه. ينبهنا ابن عطاء إلى قضية مهمة
جداً وهي أن هذه هي طبيعة الدنيا التي خلقها الله سبحانه وتعالى، الله خلق الأشياء وقدّر لها أقدارها، خلق النار وجعلها محرقة، وجعل الإنسان يطلب منها الدفء، جعلنا إذا وضعنا فيها اللحم يحدث شيٌ للحم، جعلها ذات طاقة وحرارة. خلق الله سبحانه وتعالى الشمس وهي مضيئة، وهذه الإضاءة تسبب النهار، خلق سبحانه وتعالى البحر وأوجد... في الماء يحدث البلل، أي إذا ألقى المرء نفسه في البحر فسوف يبتل. فلا ينبغي أن يتعجب إذا ألقى نفسه في البحر فابتل، ولا يقول: لماذا
قدَّر الله عليَّ البلل؟ وهل هذا غضب من عنده؟ وهل فعلتُ شيئاً؟ ويبدأ أولاً في التبرم، ثانياً في الحيرة والتردد، ثالثاً في عدم... الثقة لا بالنفس ولا بالله، يريد أن يزيل عنا هذا التوهم ويبين أن أصل الدنيا فيها القدر، ولذلك يقول: لا تستغرب وقوع الأكدار، لا تستغرب الدنيا، إذ ما دامت الدنيا وهذه صفتها فإن الأكدار جزء لا يتجزأ من حقيقتها. ما دمت في هذه الدار، إذاً فما دمت في الدنيا فلا. تستغرب وقوع الأقدار
والأكدار، فإنها ما أبرزت إلا ما هو مستحق وصفها وواجب نعتها. يعني هي الدنيا، ولأنها دنيئة ومن الدنو ومن الدناءة، الدنيا أبرزت الأقدار وأبرزت المصائب والشواغل والهموم والأزمات والكوارث والأمراض. ما هو هذا مستحق وصفها، ما هو كيف تكون إذا من الدناءة، كيف تكون إذا، أو يجوز. لك أن تنعتها بهذه النعوت القبيحة، ولأنها كذلك فهي لا يُستغرب أبداً منها
أن تبرز وأن تُظهر الأكدار. هذه الحقيقة وهذه الحكمة البليغة تجعل معك ميزاناً للتعامل ولقياس التعامل مع الدنيا. عندما تأتي المصائب تعرف حقيقة أن هكذا هي الدنيا. ما الذي يفيدك هذا الشعور؟ إنك أنت أتيتَ. ما هو من معدنه لا يُستغرب، فعندما تأتي الأقدار والمصائب من الدنيا، فهذا شيء متوقع. وهذا التوقع ما الذي يفيده؟ يُفيد المساعدة
على الصبر، لأن الصبر مرٌّ والصبر صعب والصبر فيه معالجة للنفس وكبح لهذه النفس. فكيف تستعين على الصبر؟ تستعين على الصبر بأنك مهيأ وفاهم أن هذا أمر عادي إذا فهمت هذا أمر يعني أصابك أنت وحدك وأن هذا الأمر فريد في نوعه وكيف يحدث هذا تصيب الحيرة ولكن فوق هذا تصيب الجزع، ولذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم هذه المرأة التي
مات لها ابنها وهي تبكي وتولول وتلطم وجهها فقال لها: "اصبري"، قالت له: "إليك عني" يعني ما ليس لك شأن به ولم تكن تعرف أن الذي يكلمها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة حزنها واستغراقها في الحزن وانشغالها في هذا الجزع. وأخبروها: "هذا رسول الله"، فقامت تجري وراءه وقالت: "يا رسول الله، إنني لم أعرفك"، فقال لها: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، كيف يأتي. الصبر عند الصدمة الأولى بالمعرفة المسبقة بالتربية بالفهم بأن نتحقق بهذه الحكمة: لا تستغرب وقوع الأكدار
ما دمت في هذه الدار. هذه كلمة جميلة نحفظها: لا تستغرب وقوع الأكدار ما دمت في هذه الدار. عندما تأتيني الواقعة والحادثة والنازلة تجدني وأنا مستحضر هذه الحقيقة، تساعدني على الصبر وعدم الجزع. تساعدني بذلك ما دامت سأصبر، ما الذي يحدث بعد الصبر؟ ما نتيجة الصبر؟ التسليم والرضا بقضاء الله. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول ما يغضب الله"، لأنه في تربية سابقة وفي مفاهيم سابقة مستقرة في... النفس البشرية، ولذلك
إذا ما تحققنا بهذه الحكمة فإنها تساعدنا كثيراً على إنشاء هذه النفس المتخلقة بالأخلاق النبوية المصطفوية عليه الصلاة والسلام. الدنيا والهوى والشيطان والنفس، هذه الأربعة هي ضد الإنسان. وأيضاً هناك أفعال تكلمنا عنها تمثل أركاناً للطريق في التعامل مع الدنيا والتعامل أيضاً مع الأكدار قالوا عنها. إنها قلة الكلام وقلة الطعام
وقلة المنام وقلة الأنام، وبعضها أصعب من بعض لأنه قد يستطيع الإنسان أن يكف نفسه عن شيء ما في عزلة في الخلوة، لكن قضية قلة المنام تحتاج إلى تدريب وإلى مزاولة لهذا التدريب وإلا سقط الجسد، ولذلك فينبغي أن نفعل هذه الأربعة بشيء من التدرج المُنْبَتُّ لا أرضاً قَطَعَ ولا ظَهْراً أبْقَى. هذه الأربعة تساعد الإنسان على أن يتعامل مع هذه الأكدار في هذه الدار. إلى لقاءٍ آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.