لا تسع إلى الشهرة | الحكم العطائية | حـ 11 | أ.د علي جمعة

لا تسع إلى الشهرة | الحكم العطائية | حـ 11 | أ.د علي جمعة - الحكم العطائية, تصوف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأهلاً وسهلاً بكم في حلقة جديدة من حلقات الحكم العطائية لسيدنا ابن عطاء الله السكندري ابن عطاء توفي في سنة سبع مائة وتسعة من الهجرة أي في أول القرن الثامن الهجري كان رحمه الله تعالى إماماً في التقوى، ترك لنا هذه الحكم من أجل أن ترسم لنا الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، تنفيذاً لمقولة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل
وهو يجيبه عن الإحسان: "ما الإحسان؟" قال: "أن تعبد الله". كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك. يقول ابن عطاء في إحدى حِكَمِه: "ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يُدفن لا يتم نتاجه". هذه الحكمة قد تكون صادمة لبعض الناس، وقد تمكنت المادية في قلوبهم. أصبحت هناك قيم أتت لنا من الغرب تقدس الشهرة وتعتبرها أنها هي المحرك للإنسان، ونحن على عكس
ذلك نريد الإخلاص لله وحده، نريد أن نتوجه بأفعالنا لغير البشر، لا نريد أن نُذكر بأمجاد بعد أن نموت. كثير من الناس في الحياة غير الإسلامية لا يجد دافعاً يدفعه لفعل الخير، ما الذي يدفعه لفعل الخير؟ فتأتي مسألة الشهرة وتأتي مسألة... المجد قضية تتعلق بما بعد وفاته، أما الشهرة فتتعلق بحياته. ولذلك يحرص أحدهم أن يجعل اسمه على مؤسسة خيرية أو على مدرسة أو على جامعة أو يكون
اسمه على مَحنفية، لماذا؟ طلباً للمجد. فهناك طلب الشهرة، وتكون هذه الشهرة في الحياة الدنيا. هناك فرق بين أن يشتهر. الإنسان وبين أن يسعى إلى الشهرة كلمة "يسعى إلى الشهرة" معناها أنه يريد أن يدفع مقابلاً من شرفه أو من ماله أو من حركته وحراكه في المجتمع من أجل أن يحصل على الشهرة. والشهرة كثيراً ما أعمت عيون الناس، والشهرة عندما يسعى إليها تشغل البال وتشوش
الخاطر، ثم إنها تتمكن في القلب وإذ به يترك كل شيء من أجل هذه الشهرة ولا يلتفت إلى قضية طاعة أو قضية معصية أو قضية خير أو قضية شر أو قضية حق أو قضية باطل، أبداً لا يلتفت إلى ذلك ما دام قد تمكن منه حب الشهرة أو السعي إلى الشهرة، إذاً فهناك فارق كبير. بين أن يكون الإنسان مشهورًا وبين أن يكون الإنسان يسعى إلى الشهرة ومعناها أنه يضحي من أجل الشهرة بكل غالٍ ورخيص بحيث يعمى قلبه وبصيرته عن التفريق بين الحق والباطل والتفريق بين الخير والشر والتفريق بين المعصية وبين الطاعة. الذي
تصيبه الشهرة من عند الله هكذا هذا أمر محمود. وأيضاً يجعل على الإنسان واجبات، هذه الواجبات تتمثل في الانسحاب قلبياً وفكرياً من استدراج هذه الشهرة. الشهرة عندما تأتي إلى الإنسان فإنها وهي شيء من نعم الله سبحانه وتعالى، إذا أدى الإنسان حق هذه الشهرة فإنه ينشغل بغير مشغل، فيحاول ويقاوم نفسه ويكون عليه عبء زيادة أنه لا بد من أن ينسحب من الاستدراج لهذه الشهرة وأن يلتفت بكل
ما آتاه الله سبحانه وتعالى من قوة فيما أقامه الله سبحانه وتعالى فيه، ولذلك يفكر ليس في الشهرة بل يفكر كيف ينفع الناس، كيف يطيع الله، كيف يصدع بالحق، وهكذا ادفن وجودك في أرض الخمول. شبه الإنسان هو في تعامله مع نفسه بالفسيلة والفسيلة التي هي يعني النبتة تحتاج إلى أن تُدفن في الأرض من أجل أن تنبت فادفن نفسك، ادفن نفسك. هذه كلمة تجعل أن نفسك ما زالت تحتاج إلى رعاية وتحتاج إلى عناية وتحتاج منك إلى التفات
وتحتاج منك إلى أن تعرف كيف تنمو. ادفن نفسك في أرض الخمول. وليس في أرض الشهر اسحب نفسك، وسنرى مرة في إحدى الحِكَم عن عزلة القلب وعن قضية الفكرة إلى آخره. اعتزال، ادفن نفسك في أرض الخمول، لأن هذا سيلفتك إلى... سيلفتك إلى أن نفسك تحتاج إلى رعاية وعناية. الفسيلة عندما نضعها في الأرض، النبتة تحتاج إلى أن نرويها، تحتاج في بعض... تحتاج في بعض الأحيان إلى أن ننزع الحشائش من حولها، وتحتاج في بعض الأحيان إلى أن نسندها بدعامة. بعض النباتات هكذا تحتاج في بعض الأحيان إلى
أن نعلق فيها حبلاً لكي تستقيم بدلاً من أن تنزل على الأرض وتدوسها الأقدام. تحتاج في بعض الأحيان إلى تقليم وتهذيب وتشذيب. كل هذه الأشياء معناها... الرعاية والعناية. فلما شبه النفس بالنبتة، يجب علينا أن نرى ماذا يحدث في هذه النبتة. أولاً، النباتات مختلفة، فمنها ما يطلع ساقاً، ومنها ما يطلع شجرة، ومنها ما يكون على سطح الأرض كالنجيل، ومنها ما يحتاج إلى رعايات مختلفة: السماد، الري، التقليم، والتهذيب، والتشذيب، التدعيم، البسط، المد... أشياء كثيرة. كثيرة تحتاجها الزراعة فانتبه إلى أن نفسك أيضًا تحتاج مثل هذه، ويختلف الأمر
من شخص إلى آخر. ولكن عندما تدفن نفسك في أرض الخمول وليس في أرض الشهرة، بمعنى السعي إلى الشهرة وليس حدوث الشهرة، فهناك فرق كبير بينهما. فما نبت مما لم يُدفن لا يتم نتاجه، فإذا تركنا النبات على سطح... الأرض فإننا لا نرى له ثمرة، لا نرى له نمواً مناسباً. الذي لا يُدفن لا يحصل له إنتاج، ولا يخرج منه شيء مفيد، في حين أن غرض الزرع هو الإنتاج. هذا الإنتاج هو الذي تأكل منه الطير وتأكل منه البهائم ويأكل منه الإنسان، وعندما نزرع فلنا ثواب في هذه الزراعة. وعندما
نراعي أنفسنا فلنا ثواب في هذه الرعاية وهذه التربية، ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الإنسان كلما ربّى نفسه فإن هذا يؤثر في ولده، والتي يُسمّونها الآن الصفات الجينية. يبدو أن تربية الإنسان لنفسه تؤثر في جيناته فتنتقل مع المورثات إلى الأولاد، وعندما يترك نفسه هكذا من غير التربية فإن الجينات تتحول في صفاتها إلى الشر وإلى الكفر، ونجد أنه ينقل هذا أيضًا إلى الأجيال القادمة. "إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا
إلا فاجرًا كفارًا"، أي إن هناك جينات ومورثات تجعل الصلاح ينتقل وتجعل الفساد ينتقل. ادفن وجودك في أرض الخمول ولا تسعَ إلى الشهرة فتعمى بصيرتك. وبصرك فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه، وإلى لقاء آخر أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.