لا تعتمد على عملك | الحكم العطائية | حـ 1 | أ.د علي جمعة

لا تعتمد على عملك | الحكم العطائية | حـ 1 | أ.د علي جمعة - الحكم العطائية, تصوف
كان ابن عطاء الله السكندري قد تتلمذ على السيد المرسي أبي العباس وهو مدفون بالإسكندرية، مزاره معروف إلى الآن. والمرسي أبو العباس هو أحد تلامذة أبي الحسن الشاذلي رحمهم الله جميعاً. وأبو الحسن توفي أثناء توجهه إلى الحج فدُفن في صحراء عيذاب في مكان يسمى بحميثرة قريب من ساحل البحر. الأحمر وهو في مقابلة محافظة قنا بصائد مصر ابن عطاء الله السكندري، ألف
كتباً كثيرة ولكن من أهم ما ترك لنا ما يسمى بالحكم العطائية. والحكم العطائية مجموعة من النصائح ومن الجمل التي لخص فيها ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى تجربته السلوكية في الطريق إلى الله سبحانه وتعالى. ولذلك ففيها نوع من أنواع الأخلاق العالية الراقية الفائقة التي تخلص القلب من شوائبه، فيها نوع من أعمال القلوب، فيها نوع من أنواع الإخلاص، فيها نوع من أنواع التطهير، فيها نوع من أنواع الرقي بالأخلاق.
كثير من الناس في عصرنا الحاضر يحتاج إلى معرفة هذا الجانب الروحي في الإنسان وكيف يصل إليه وكيف يكون سالكاً في طريق الله سبحانه وتعالى. كثير منا يقرأ القرآن ولكنه لا يجد لذة هذه القراءة في قلبه، لا تهزه هزة، ويسأل عن سبب ذلك. وسبب ذلك هو أنه لم يدخل في نطاق تصفية القلب حتى يصبح ذلك القلب قادراً على التفاعل والتعامل وقابلاً لأن يقشعر. من ذكر الله ومن تلاوة القرآن، الحكم العطائية رسم
للطريق السالكين إلى الله. الحكم العطائية مائتان وأربع وستون حكمة، نحاول في لقاءاتنا اليومية أن نتحدث عن حكمة واحدة، وعسى الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على تفسير هذه الحكم وأن نبين كيفيتها وكيف نحولها إلى برنامج يومي نعيش به. فيه أهل هذا الفن، فن الرقائق، دائمًا يقولون طريقنا مقيد بالكتاب والسنة، ويقولون إن أي شيء يرد إلينا وأي فتح يحدث لنا وأي معنى يخطر في أذهاننا فإننا لا
نقبله إلا بشاهدي عدل: الكتاب هذا شاهد أول، والسنة وهذا شاهد ثان، فمع الحِكَم العطائية نعيش هذه الأيام المباركة ونحاول أن أن نتفهمها وأن نبين كيف هي في دين الله وكيف هي تحرر العلاقة بين العبد وربه، وذلك تفسيراً لحديث جبريل الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين، قال عمر: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علينا رجل
شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يعرفه أحد منا وليس عليه أثر للسفر فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل ركبتيه عند ركبتيه وجعل يديه على فخذيه يعني على جلسة المؤدب المتعلم الذي يرجو أن يتعلم من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإسلام وسأله عن الإيمان وسأله عن الإحسان فأجاب في الحديث الطويل الذي تعرفونه كلكم وبعد ما انصرف قال: "أتدرون من هذا؟ هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم" وفيه أنه عندما سأله عن الإسلام قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإقام" الصلاة
وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، وعن الإيمان قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ولما سأله عن الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك، وذلك أن عبادتك لله سبحانه وتعالى على سبيل المعاينة. فإنك سوف تستحضر كما يقول الإمام النووي كل أنواع الخشوع والخضوع والأدب، ولا يمكن وأنت تتخيل نفسك في حضرة الله سبحانه وتعالى وأنك تراه لا يمكن أن يخطر على بالك المعصية، ولا أن يخطر على بالك التفلت، ولا أن يخطر على بالك شيء من هذا، ولذلك أخذ العلماء وحموا
جانب الإسلام وألّفوا الفقه كله، والفقه في مليون ومائتي ألف فرع فقهي خدموا بها الإسلام: العبادات والمعاملات والقضاء والشهادات والعلاقات الدولية والاجتماعية والاقتصادية، خدموا هذا الجانب. وقام علماء التوحيد من أجل خدمة الجانب الآخر وهو الإيمان، وقام علماء الأخلاق والتصوف من أجل خدمة مقام الإحسان. والحِكَم العطائية التي سنتناولها إنما هي... تخدم هذا المعنى الثالث هذا التقسيم الإسلام والإيمان والإحسان يعني تقسيم من أجل التفهيم ولكن في الحقيقة الإنسان واحد والإيمان
واحد ولذلك فإننا سنستمر في هذه القضية. أول حكمة كتبها في خدمة السلوك وخدمة قضية الإحسان سيدنا ابن عطاء الله السكندري يقول فيها: "من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء". عند وجود الزلل ينبغي للإنسان أن يتبرأ من عمله وأن لا يعتمد عليه وأن يعلم أن كل ما في هذا الكون إنما هو من عند الله. كلام راقٍ جداً. تخيل أنك تراقب نفسك، فإذا أتيت بطاعة فلا تغتر بها ولا تتعالى بها على إخوانك ولا تنظر إليهم نظرة أنهم متفلتون وأنهم عصاة
وأنهم أقل منك، هذا كِبْرٌ لا يُقبل من عند الله. تخيل أنك دائماً تذكر ربك، ولذلك فإذا ما وقعت في معصية فإنه لا ينقص أبداً رجاؤك في رحمة الله سبحانه وتعالى، وتتوب منها سريعاً لأنك استحضرت ربك في قلبك، وترجع سريعاً من هذا الخلل وتعود مرة أخرى. وكأنك لم ترتكب ذنباً، ولذلك تمكث مدة طويلة من غير ذنوب لأنك طاهر الصفحة وأبيض الصفحة. كلام الحقيقة يُوجَّه لناس أكابر، وتلك البداية القوية في الحكم كانت سر انجذاب الناس إليها. هذا الكلام قد لا يناسب بعض
الشباب في بداية الطريق، وقد لا يناسب من هو متعثر وما زال فلا. لا بد عليه أن يستعظم الذنب وأن يبتعد عنه خاصةً في عصور الفتن التي نحياها، ولكن لمّا بدأ ابن عطاء بالقوي فإنه سيظل قوياً حتى مع الذين بدؤوا أو مع المتوسطين أو مع النهاية. لا تعتمد على عملك. إلى لقاءٍ آخر، أستودعكم الله، ومع هذه النورانيات من حِكَم ابن عطاء أقول. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    لا تعتمد على عملك | الحكم العطائية | حـ 1 | أ.د علي جمعة | نور الدين والدنيا