لا تلتفت | الحكم العطائية | حـ 20 | أ.د علي جمعة

لا تلتفت | الحكم العطائية | حـ 20 | أ.د علي جمعة - الحكم العطائية, تصوف
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات الحِكَم العطائية. في هذه الحكمة التي معنا اليوم ينبهنا سيدنا ابن عطاء. ينبه السكندري على حقيقة مهمة في الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، هذه الحقيقة تتمثل في أنهم مثّلوا الطريق إلى الله على صورة طريق، وهذا الطريق فيه
أشياء لافتة للنظر، أشياء مبهرة على طرفي الطريق، مثل شارع وفيه محلات، وهذه المحلات تعرض بضائعها الجميلة الفاتنة اللافتة للنظر، والإنسان لا بد عليه أن يسير في هذا الطريق وهناك حقيقتان: الحقيقة الأولى أن الطريق طويل وأن مقصودنا هو الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، وأن الوصول إلى الله لا يمكن أن يتم إلا بالاستمرار في العمل والسير، وليس هناك نهاية معينة لهذا الطريق كما يدعي بعض
الباطلين ويقولون نحن وصلنا إلى الله ولذلك فلا تكلف علينا لأننا أحببنا الله ورأينا الله واتحد الله فينا وحلَّ الله فينا، أشياء من هذا القبيل التي تُعدُّ من قبيل الفلسفة الكافرة التي لا تؤمن بإله وتريد أن تتبع الهوى وأن تتبع الشهوات. هذا الطريق طويل لا نهاية له، ونهايته أن يموت الإنسان حتى يلاقي ربه، تخرج الروح فتذهب. إلى الملأ الأعلى، والملأ الأعلى هو المكان الخاص الجميل الذي يكون في حضرة الله سبحانه وتعالى وفي قدس الله سبحانه وتعالى. ولكن في هذه الحياة الدنيا لا بد من العمل وإن
طال بنا العمر. هذه هي الحقيقة الأولى: أنه لا نهاية لهذا الطريق. الحقيقة الثانية أننا إذا أردنا أن نحصل تحصيلاً جاداً ونسير سيراً يُرضي الله سبحانه وتعالى، ونقطع مسافاتٍ تكون لنا يوم القيامة في ميزان حسناتنا، وتكون لنا يوم القيامة هي الباقيات الصالحات. فينبغي علينا ألا نلتفت إلى هذه الزينة التي على يميننا، وهذه الزينة التي على شمالنا، ومن هنا صاغوا قاعدة فقالوا: ملتفت لا يصل، لا يصل إلى. مراده لا يصل إلى مبتغاه، فإن الوصول إلى الله هو حقيقة الفتح،
وحقيقة أن الله يفتح عليّ فيعلمني حقيقة الدنيا، ويعلمني مراده من كتابه، ويعلمني رضاه عني، ويعلمني توفيقه لي، وهكذا. وهذا هو الوصول إلى الله، وليس الوصول إلى الله هو أن الطريق ينتهي أو أننا نجلس فلا نعمل ولا. نسير ولا أن الوصول إلى الله هو الاتحاد بالله أو شيء من هذه الخرافات. يقول ابن عطاء الله وهو يقرر هذه الحقيقة التي شرحناها: "ما أرادت همة سالك" - السالك يعني السائر في هذا الطريق إلى الله - "أن تقف عندما كشف
لها"، ففي بعض الأحيان يُكشف للسالك بعض الحقائق، يكشف له أشياء مثل الرؤى والمنامات ومثل أحوال القلوب، يحدث له هذا حيث يشعر الإنسان بأشياء غريبة جداً في قلبه وأنوار كأنه يغرق في النور. نعم، هذه نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى. أراد السالك أن يقف عندما كُشف له، إلا أن هواتف الحقيقة نادته: "الحقيقة غير ذلك، الذي تطلبه لا بد عليك أن تستمر في المشي، لماذا توقفت؟ ما زال أمامك طريق طويل. ظننت أن ما رأيته هو الوصول، أبداً. مبتغاك ومقصودك هو الله،
والله أمامك، فلا بد عليك أن تمشي، وهكذا أبداً. فلو مشى مرحلة أخرى ثم حدثت له أحوال وأسرار وأنوار ولكنه يريد. أن يقف ويكتفي ويقول انتهيت أبداً، فإن ما تطلبه أمامك وهكذا أبداً. الحقيقة تنادي هذا الإنسان الذي خُدع وظن أن ما كُشف له إنما هو مراده، أن ما تطلبه أمامك، ولا تكشفت له ظواهر المكنونات، تكشفت وانكشفت. ولذلك يقال المرأة المتبرجة يعني التي لا حجاب عليها، المكشوفة، ولا تكشفت له. ظواهر المكنونات التي هي ماذا؟ إنها ظواهر المكنونات التي
هي الفتن الموجودة على يمين الطريق وعلى يساره، والتي هي المحلات والمعروضات هذه التي تفتن الإنسان. فلو أن الإنسان السائر في الطريق دخل كل محل وتفرَّج عليه ثم خرج منه، فدخل المحل الذي بعده وتفرَّج عليه، فلن يصل إلى هدفه، ولذلك... يقول: ولا تجلَّت له ظواهر المكنونات إلا ونادته حقائقها: "إنما نحن فتنة فلا تكفر". هذه الملهيات والشواغل والمشاغل والفتن هي تناديه أيضاً وتقول له: "للعلم نحن فتنة"، ولذلك ينبغي عليك وأنت تسلك في طريق الله ألا تلتفت إلينا؛ لأن الملتفت لا يصل، وسِرْ في الطريق أبداً حتى تلقى
ربك. هذا المعنى معنى جليل جداً لأنه شرح لنا أولاً معنى الطريق إلى الله وهو هذه الحياة الدنيا التي كلفنا الله فيها بالأوامر والنواهي وشرفنا فيها بأن جعل لنا ثواباً في الآخرة وأسجد لنا ملائكته وكرمنا "ولقد كرمنا بني آدم"، طريق إلى الله وأيضاً تكلم عن السالك في هذا الطريق والنبي. صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً يسّر الله له طريقاً إلى الجنة". إذًا السائر في هذا الطريق، وتحدث عن شرطين أساسيين وهما أن
هذا الطريق لا يعرف النهاية ولا يعرف كلمة "وصلنا" بمعنى أننا انتهينا، وأيضاً لا يعرف الالتفات، فإن ملتفتاً لليمين ولليسار في هذا... الطريق لا يصل إلى مقصوده ولا يصل إلى هدفه. يجب علينا حتى نصل إلى هذه الحالة أن نجعل الله مقصودنا وأن يكون رضاه هو مطلوبنا وأن تكون غايتنا هي أن نلتزم بشرعه الشريف. إذا فعلنا هذا وعمرنا أوقاتنا بالطاعات واستغللنا كل وقت في حياتنا وملأناه
بهذه الطاعات فإننا نكون في... الطريق الصحيح وأن نسير على الصراط المستقيم. فالملتفت لا يصل، ولذلك كان مشايخنا دائماً يحذروننا من الالتفات. والالتفات يأتي بالشواغل، شواغل الدنيا، ويأتي أيضاً بالفتن وانكشاف الأسرار والأنوار. إن انكشاف الأسرار والأنوار ليس هو مقصودنا من العبادة، ولذلك فالأسرار - أي أسرار العبادة وحتى أسرار الحياة - والأنوار التي تحدث كل ذلك
لا يعطلنا أبدا عن السير ولا يكون فتنة لنا. إلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.