لا تنتظر فراغ الأغيار | الحكم العطائية | حـ 23 | أ.د علي جمعة

لا تنتظر فراغ الأغيار | الحكم العطائية | حـ 23 | أ.د علي جمعة - الحكم العطائية, تصوف
هذا القلب له بابان، باب على الخلق وباب على الحق سبحانه وتعالى. فتصوروا أن هناك قلباً وأن هذا القلب له باب، وأن هذا الباب مفتوح على الخلق، على الكائنات، على العالم، على هذه الصور المحيطة بنا، وأن له باباً آخر مفتوحاً على وحي الله عند الأنبياء، وحي الله عند الموفقين. كما موسى والسيدة مريم والإلهام كأولياء الله الصالحين، والأنوار وانكشاف الأسرار، كل هذه الأشياء تدخل
قلب الإنسان من باب الحق. ولذلك فإن الإنسان كلما ذكر ربه وتأمل في هذا الذكر وأخلص فيه واستدعاه واستحضره وكان حاضر القلب فيه، فإن باب الحق ينفتح، وعندما ينفتح باب الحق تدخل منه أنوار شديدة. فإنها يمكن أن تغلق هذه الأنوار باب الخَلق، ومعنى إغلاق باب الخَلق أنني أكون سائماً ومالاً ومتضايقاً ولا أطيق ما حولي من هذه الكائنات. أريد أن أخلو بربي، أريد أن أقطع العلائق.
ربنا عندما خلقني خلقني من أجل العبادة ومن أجل عمارة الكون، "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" يعني طلب. منكم عمارها، وعندما قال للملائكة: "إني جاعل في الأرض خليفة"، إذاً هو استعمرنا في هذه الأرض وطلب منا عمارها. فأحد الأسباب الأساسية لهذا الخلق هو عمارة الدنيا. طلب منا تزكية النفس أيضاً، ولذلك فعندما تُغلق الأنوار باب الخلق فإننا نُصاب بهذه الحالة من حب العزلة وبهذه الحالة من اليأس. من الخلق أو كراهية الاتصال بهم وهذا يحدث خللا في العمارة ولذلك فإن الكمال هو
أن ينفتح باب الخلق وباب الحق معا فيكون الإنسان منفتحا على هذا العالم متصلا به عاملا على عمارته من خلال تلقيه هذه الأوامر الإلهية وهذه الأنوار الإلهية وهذه حالة الكمال وإذا انسد باب الحق فإن الإنسان يشعر بأنه قد توغل في الدنيا وأصبحت صور الكائنات منطبعة في قلبه وأصبح هناك حجاب يحجبه عن الله سبحانه وتعالى. فكرة طيبة وتصور طيب، قضية أن للقلب بابين: باب للخلق وباب للحق. وهذا الكلام ورد على
لسان أبي الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه، حيث استشكل حديثاً في صحيح مسلم وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة. الغين والغيم متقاربان في معنى سحابة تأتي على قلبي، ولذلك أنا أستغفر ربنا سبعين مرة. يعني أبو الحسن الشاذلي تعجب من هذا الحديث، سيدنا رسول الله وهو سيد الخلق غفل عن ربه. أو هناك محاولة تأتي باعتبار البشرية تجعله غافلاً عن الله فيستغفر
الله ويتذكر سبعين مرة، أو أن الحديث له معنى آخر، فرأى في المنام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: "يا علي أبا الحسن" - وكان اسمه علياً وكنيته أبا الحسن - "يا علي، غين أنوار لا غين". أغيار ومن هنا فَهِمَ أبو الحسن رضي الله تعالى عنه أن الأنوار كانت تتوالى على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسد باب الخلق وليس باب الحق. هو لم يغفل عن ربه أبدًا، بل إن الملائكة وصفته فقالت: تنام عيناه ولا ينام قلبه، فهو أبدًا لم يتخلف عن ذكر.
الله والتعلق بالله، إنما لما دخلت الأنوار وأُغلقت أو كادت أن تُغلق باب الخلق، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُكلف بالاتصال بالخلق ومُكلف بألا ينعزل عنهم ومُكلف بأن يبلغهم الرسالة على أحسن ما يكون، فإنه كان يستغفر الله من أجل أن ينفتح باب الخلق، من أجل أن يتمم الرسالة وليس هذا من باب الغفلة التي تصيب أحدنا وتسد باب الحق، ولذلك لا تترقب فراغ الأغيار. بعض الناس يقول: حسناً، لا بد لي من هذه الحالة إذاً أن الأنوار تدخل والأغيار تنتفي تماماً. لن يحدث ذلك لأن هذه الأغيار
هي الكون الذي هو محيط بنا، فإن ذلك يقطعك عن وجود المراقبة له عندما تقول إنني أحتاج أن تنتفي الأغيار، يعني أنك تقول إنك تحتاج أن يُغلق باب الخلق، وهذا خطأ. وهذا يجعلك تنتظر حالة نادرة، ومعنى ذلك أنك بهذا الانتظار وباب الخلق غير راضٍ أن يُغلق، فإنك تضيع وقتك ويضيع عليك مراقبة نفسك لربك فيما هو مقيمك فيه أنت الآن قد أقامك. الله وفتح باب خلقه، يجب أن تعمل مع الخلق لله، فتراقبه وتتذكره وتجعل هذا العمل لله رب
العالمين، ولا تنس أنه إنما الأعمال بالنيات، ولكنك غفلت عما أقامك الله فيه، فتح باب الخلق فإذا بك تريد أن تغلقه، ووارب باب الحق فإذا بك تريد أن تجعله هو وحده. المفتوح وهكذا غين أنوار لا غين أغيار، ولذلك قالوا: يا سائل عن رسول الله كيف سها والسهو من كل قلب غافل؟ الله رد عليه وقال له: قد غاب عن كل شيء سره، فسها عما سوى الله، فالتعظيم لله. فلما سها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة كان سهوه هذا. كان نوعاً من أنواع التعليم للأمة وفي نفس الوقت الانشغال بالله سبحانه وتعالى حتى عن رسوم الصلاة وعن أركانها، فإن قلبه صلى
الله عليه وسلم وهو في قمة الأنبياء والأولياء والصالحين والصديقين والشهداء وهو المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم لم يُغلق أبداً، فلا بد علينا أن لا نترقب فراغاً. الاغيار بل علينا أن نحترم ما أقامنا الله فيه كحكمة ابن عطاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته