ما الموقف الصحيح عند أهل السنة تجاه الشيخ الأكبر ابن عربي | أ.د علي جمعة

يسأل أحدهم قائلاً: ما الموقف الصحيح عند أهل السنة تجاه الشيخ الأكبر ابن العربي، لا سيما فيما نُسب إليه من كلام فلسفي متناقض مع العقل وأصول أهل السنة؟ فهل هو مدسوس عليه؟ وقد قيل إنه لا تأويل لكلام غير المعصوم أصلاً، كما أن المعصوم هو سيدنا. الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو معصوم لأنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وكل أحد كما قال الإمام مالك يؤخذ من قوله ويرد، وهو يتكلم على قدر ما عرف، ذلك
مبلغه من العلم، فعندما يرى شيئاً ويفهمه. خطأ فإنه لا يؤخذ منه إذا تبين خطأ سيدي محي الدين أو غيره من العلماء والأولياء والأتقياء. من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، هكذا هو يخطئ ويصيب. أما قضية الدس فالدس اشتهر ممن لم يتحمل عقله القول المخالف، فدسوا على كبار العلماء عبر التاريخ. وهم يدسون عليهم، وبعض الناس لا يدس وإنما يشتم ويسب،
والعَم وهذه حجة الضعيف. هناك مذاهب إسلامية كثيرة، ومن ضمن هذه المذاهب المذهب الظاهري، وهو لا يرى القياس، ويرى أنه يمكن إلحاق المستجدات بالنص عن طريق إجراء النص على أفراده وليس عن طريق إلحاق فرع بأصل لاشتراكهما في علة الحكم عند. المثبت وهو مذهب كان عليه داود الأصبهاني وكان عليه ابن حزم الظاهري، ولكن جمهور أهل السنة والجماعة على الإقرار بالقياس وأنه هو
عين الاجتهاد وأنه أولى وأبر، وأنه آلية منضبطة محكمة للوصول إلى الحكم الشرعي الفرعي من الدليل التفصيلي. سيدي محيي الدين كان ظاهرياً لأنه تربى ونشأ في الأندلس ولم لم يكن على مذهب أحد من الأئمة الأربعة بل كان ظاهرياً، وهذه الظاهرية أثرت فيه كما أثرت في الحنابلة، فنحا في كثير من مسائل العقيدة إلى ما عليه الحنابلة، وهذا يخالف الأشاعرة لكنه لا يخرج عنهم بالكلية،
إنما كما قال الأصبهاني: "ماذا أفعل في رجل كلما ضاقت عليه العبارة قال بالقول". الثاني لأبي الحسن، فهؤلاء الحنابلة خاصة أولئك الأكابر كابن الجوزي وكسيدي محيي الدين وغيرهم في العقيدة، أي أنهم ذهبوا إلى المذهب الثاني للأشاعرة وليس المذهب الشائع الذي اختاره ابن فورك والباقلاني والرازي والبيضاوي وغيرهم من أكابر الأئمة. وعلى ذلك فهو بين الصواب والخطأ وليس بين الحق والباطل كما أنه أقام. نفسه
للدفاع عن الإسلام وتبليغه في العالمين، فقرأ كتب فلاسفة الأقدمين والمحدثين إلى عصره، ورد على المخالفين. وهذا ما لا يطيقه كثير من المؤمنين؛ لأنهم لا يشغلون أنفسهم بما يقوله الغير ويقوله الآخر. فالمؤمن يعيش في إيمانه وليس في حاجة إلى كل هذا، ولذلك أنكر بعض الناس على محيي الدين، ولكن... الأكابر من العلماء الذين تعمقوا وقرؤوا وفهموا عرفوا أن الرجل يستحق أن يكون الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر. الكبريت الأزرق والكبريت الأحمر نادر، فيقولون عليه هكذا: الشيخ الأكبر والكبريت
الأحمر. فيجب علينا أن نفهم هذا، أما من ذهب إلى تكفيره فهم قلة ممن لم يفهموا العبارة أو قد يكون قد دُسَّ عليهم. عليه ففهموا ما دُسَّ عليه، إلا أن الرجل نفسه عالٍ، ولم يقتصر فقط على الجانب النظري، بل كانت له تجربة روحية عالية، ودليلها الظاهري كتابه الماتع "الفتوحات". انظر إلى "الكلمة المكية"، وهو قد جاور في الحرم، فحدثت له فتوحات وإشراقات كثيرة، دافع فيها عن دين الله
بإزاء الفلسفات المختلفة والأديان المتعددة. التي بلغت خمسة آلاف دين على وجه الأرض، فهو درس كل ذلك. ألَّف الإمام السيوطي بعدما أحاط بما فعله ابن العربي، ألَّف كتاب "تنبيه الغبي في تبرئة ابن عربي". ولام العلماء السيوطي أنه استعمل لفظاً في عنوان الكتاب يُعَدّ تعريضاً بالقارئ، يعني الذي سيقرأه سيكون ماذا؟ سيكون غبياً. والذي أوقع... ذكر السيوطي في هذا أنَّ هناك مَن ألَّف "تنبيه الغبي في كفر ابن عربي"،
فردَّ عليه السيوطي بمثل العنوان على سبيل المناقضة، قائلاً له: "لا، بل نحن سننبه الغبي على ماذا؟ إذا كان الغبي الذي قرأ كتابك قد كفَّر ابن عربي، فأنا سأجعله يعود مرة ثانية ليعرف أن ابن عربي ليس [كافراً]". كافر فهذا جملة ما هنالك، ولذلك قالوا كتبنا حرام على غيرنا، يعني لا بد من أن تقرأ هذه الكتب إذا أردت أن تخوض فيها على شيخ حتى يبين لك ما فيها، ولا تضل بفكرك عنها، ولا تستنبط منها ما ليس منها، ولذلك فإن ابن العربي ألف مقدمة واسعة وافية شاملة للفتوحات. المكية وقال:
إذا أشكل عليك شيء من الكتاب فارجع إليها. ذكر فيها عقيدة أهل السنة والجماعة وجعلها هي الضابط المعرفي الذي يضبط الفهم لأي عبارة قد لا تفهم معناها. وما سبب ذلك أن يرد على السنة هؤلاء الأكابر وأقلامهم ما لا تفهمه؟ السبب منه تكاثر المعارف على قلب العارف، فهناك... من المعارف ما ينكشف عند العبادة تُعَدُّ معارفاً خاصة على سبيل "من ذاق عرف، ومن عرف اغترف"، واللغة
غير مهيأة لذلك، فيلجأ المرء للخروج من مقتضيات دلالات الألفاظ إلى الرمز. فحضرتك تضل تماماً إذا لم تقرأ إلا عند الشيخ الذي يفهم هذا الرمز وكيف يفكه، وكان الشيخ المراغي يقول ذلك كثيراً. أنا لا أفهم ابن عربي، فكان السيد محمد عبد الوهاب القصري يقول فليأتني ليدرسه ويدرس شيخ الإسلام، ولم يحدث لا هذا درس هذا ولا شيء.