مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 20 | أ.د علي جمعة

مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 20 | أ.د علي جمعة - إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين لإمام الأئمة وبدر التتمة حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين. نقرأ وما زلنا نقرأ في كتاب
العلم، والعلم شرفه فوق كل شرف ومن... ذاق عرف ومن عرف اغترف، والعلم مفتاح كل الخير، ولذلك قدَّمه على ما سواه من أقسامه الأربعة: العبادات والمعاملات والمهلكات والمنجيات. نجّانا الله سبحانه وتعالى من كل المهلكات وقبلنا عنده بقبول حسن. اقرأ يا شيخ محمد: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن... محمد بن محمد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين، هو يتحدث عما يكون من العلم فرض كفاية، وكما أن سياسة الخلق بالسلطنة ليست
من علم الدين في الدرجة الأولى، بل هو معين على ما لا يتم الدين إلا به، فكذلك معرفة طريق السياسة، فمعلوم أن الحج لا يتم إلا بحراسة تحمي من العرب في الطريق، ولكن الحج شيء وسلوك الطريق إلى الحج شيء آخر، والقيام بالحراسة التي لا يتم الحج إلا بها شيء ثالث، ومعرفة طرق الحراسة وحيلها وقوانينها شيء رابع. وخلاصة فن الفقه هي معرفة طرق السياسة والحراسة، ويدل على ذلك ما روي مسنداً. يُفتي الناس إلا ثلاثة: أمير أو مأمور أو متكلف. الأمير هو الإمام، وقد كانوا هم المفتين، والمأمور نائبه،
والمتكلف غيرهما وهو الذي يتقلد تلك العهدة من غير حاجة. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحترزون عن الفتوى حتى كان يُحيل كل واحد منهم على صاحبه، وكانوا لا يحترزون إذا سُئلوا. عن علم القرآن وطريق الآخرة، وفي بعض الروايات بدل المتكلف المرائي، فإن من تقلد خطر الفتوى وهو غير متعين للحاجة فلا يقصد به إلا طلب الجاه والمكانة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولو عرف المتصدرون الآن من تلك النابتة ما في ذلك الأمر من خطر لما أقدموا عليه، نعم فإن... قلتُ هذا إنْ استقام لك في أحكام الجراحات والحدود والغرامات
وفصل الخصومات، فلا يستقيم فيما يشتمل عليه ربع العبادات من الصيام والصلاة، ولا فيما يشتمل عليه ربع العادات من المعاملات من بيان الحلال والحرام. فاعلم أن أقرب ما يتكلم الفقيه فيه من الأعمال التي هي أعمال الآخرة ثلاثة: الإسلام والصلاة. والزكاة والحلال والحرام، فإذا تأملت منتهى نظر الفقيه فيها علمت أنه لا يتجاوز حدود الدنيا إلى الآخرة. وإذا عرفت هذا في هذه الثلاثة فهو في غيرها أظهر. أما الإسلام فيتكلم الفقيه فيما يصح منه وفيما يفسد وفي شروطه، وليس يلتفت فيه إلا
إلى اللسان، وأما القلب فخارج عن ولاية الفقيه. لعزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرباب السيوف والسلطنة عنه حيث قال "هلا شققت عن قلبه" للذي قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذراً بأنه قال ذلك من خوف السيف، بل يحكم الفقيه بصحة الإسلام تحت ظلال السيوف مع أنه يعلم أن السيف لم يكشف له عن نيته ولم. يدفع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة ولكنه مشير على صاحب السيف، فإن السيف ممتد إلى رقبته واليد ممتدة إلى ماله، وهذه الكلمة باللسان تعصم رقبته وماله ما دامت له رقبة ومال، وذلك
في الدنيا، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا". الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم، جعل أثر ذلك في الدم والمال، وأما الآخرة فلا تنفع فيها الأموال، بل أنوار القلوب وأسرارها وإخلاصها، وليس ذلك من فن الفقه، وإن خاض الفقيه فيه كان كما لو خاض في الكلام والطب وكان خارجاً عن فنه، وأما الصلاة فالفقيه يفتي بالصحة. إذا أتى بصورة الأعمال مع ظاهر الشروط وإن كان غافلاً في جميع صلاته من أولها إلى آخرها مشغولاً بالتفكر
في حساب معاملاته في السوق إلا عند التكبير، فهذه الصلاة لا تنفع في الآخرة كما أن القول باللسان في الإسلام لا ينفع، ولكن الفقيه يفتي بالصحة أي أن ما فعله حصل. به امتثال صيغة الأمر وانقطع به عنه القتل والتعزير، وأما الخشوع وإحضار القلب الذي هو عمل الآخرة وبه ينفع العمل الظاهر فلا يتعرض له الفقيه، ولو تعرض له لكان خارجاً عن فنه. وأما الزكاة فالفقيه ينظر إلى ما يقطع به مطالبة السلطان حتى إذا امتنع عن أدائها فأخذها السلطان قهراً. حُكِمَ بأنه برِئَت ذمته، وحُكِيَ أن
أبا يوسف القاضي كان يهب ماله لزوجته آخر الحول ويستوهب مالها إسقاطاً للزكاة. وحُكِيَ ذلك لأبي حنيفة رحمه الله، فقال: "ذلك من فقهه". وصدق، فإن ذلك من فقه الدنيا، ولكن مضرته في الآخرة أعظم من كل جناية. ومثل هذا هو العلم الضار. وأما الحلال... والحرام فالورع عن الحرام من الدين ولكن الورع له أربع مراتب: الأولى الورع الذي يُشترط في عدالة الشهادة، وهو الذي يخرج بتركه الإنسان عن أهلية الشهادة والقضاء والولاية، وهو الاحتراز عن الحرام الظاهر. الثانية ورع الصالحين، وهو
التوقي من الشبهات التي تتقابل فيها الاحتمالات. قال صلى الله عليه وآله وسلم. دَعْ ما يُريبُكَ إلى ما لا يُريبُكَ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "الإثمُ حزازُ القلوب". الثالثة: ورعُ المتقين، وهو تركُ الحلالِ المحضِ الذي يُخاف منه أداؤه إلى الحرام. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يكونُ الرجلُ من المتقين حتى يدعَ ما لا بأسَ به مخافةَ مما به بأس". وذلك مثل التورع عن التحدث بأحوال الناس خشية الانجرار إلى الغيبة، والتورع عن أكل الشهوات خشية هيجان النشاط والبطر المؤدي
إلى مقارفة المحظورات. الرابعة: ورع الصديقين، وهو الإعراض عما سوى الله تعالى خوفاً من صرف ساعة من العمر إلى ما لا. يفيد زيادة القرب عند الله عز وجل وإن كان يعلم ويتحقق أنه لا يفضي إلى حرام، فهذه الدرجات كلها خارجة عن نظر الفقيه إلا الدرجة الأولى وهو ورع الشهود والقضاة وما يقدح في العدالة، والقيام بذلك لا ينفي الإثم في الآخرة. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لوابصة. استفتِ قلبَك وإن أفتوك وإن أفتوك وإن أفتوك، والفقيه
لا يتكلم في حزازات القلوب وكيفية العمل بها، بل فيما يقدح في العدالة فقط. فإذًا، جميع نظر الفقيه مرتبطٌ بالدنيا التي بها صلاح طريق الآخرة، فإن تكلم في شيءٍ من صفات القلب وأحكام الآخرة، فذلك يدخل في كلامه على سبيل التطفل. كما قد يدخل في كلامه شيء من الطب والحساب والنجوم وعلم الكلام وكما تدخل الحكمة في النحو والشعر، وكان سفيان الثوري وهو إمام في علم الظاهر يقول إن طلب هذا ليس من زاد الآخرة، كيف وقد اتفقوا على أن الشرف في العلم العمل به، ومن تعلم هذه الأمور
ليتقرب بها. إلى الله تعالى فهو مجنون، وإنما العمل بالقلب والجوارح في الطاعات، والشرف هو تلك الأعمال. إذ الإمام الغزالي رحمه الله تعالى يبين لنا قضية الكوب والماء، فالفقه هو الكوب الذي لا بد منه، ولا يحدث أن نحفظ الماء إلا به، ولذلك فهو يحافظ على الظاهر، والظاهر مهم وهو من الدين. إلا أنه متعلق بالدنيا، والماء هو الذي يروي ويُحدِث الري كما ذكرنا، فهو يتكلم أن الفقه إنما يتناول ما هو موجود في الدنيا ويضبط حركة الناس وسلوكهم على مقتضى الشرع الشريف، وهذا أمر مهم، إلا
أنه لا يكفي في الآخرة، وقسَّم حتى يصل إلى هذه النتيجة بتفصيل فقال إن... الفقيه يهتم بالإسلام وبالصلاة وبالزكاة وبالحلال والحرام، واهتمامه بهذه الأشياء اهتمام بالظاهر، اهتمام بالدنيا. ولذلك قالوا إنك لا تبلغ مبلغ الفقيه حتى تدرس التاريخ، ولا تبلغ مبلغ المؤرخ حتى تدرس الفقه. فالمؤرخ يروي أحداثاً، ومن ضمن هذه الأحداث أن مالكاً قال كذا، وأن الشافعي قال كذا، وهو من ضمن... الأحداث هكذا، وهذا هو التاريخ، فسيظل يحتاج إلى روح، يحتاج إلى
أمر آخر ليس موجوداً في الفقه. هذا الأمر هو علم التصوف، ولذلك يظهر لنا هذا مدى خطورة الداعين الآن إلى هدم التصوف، فإنهم يدعون الأمة إلى التفريط في الماء وإبقاء الكوب نظيفاً جميلاً، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا. وهم عن الآخرة هم غافلون، فانظر إلى أي جريمة يجرون إليها تحت عنوان الكتاب والسنة، والكتاب والسنة الحمد لله منهما براء. فضُرب ذلك في الإسلام، والإسلام الشهادة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فالفقيه إذا سمعها
بأذنه من أحدهم حكم عليه بالإسلام حتى لو كان منافقًا. وهذا أمر جيد لأننا لا نشق عن قلوب الناس، لكن هذا وحده - التلفظ بالشهادتين وحده باللسان وحده - لا يكفي في الآخرة. يكفي في الدنيا ويدرأ عن صاحبه الوصف بغير الإسلام، وإذا قاله لا نستطيع أن نكفره بعد ذلك إلا إذا شققنا عن قلبه كما ورد في الحديث، فهو يكفي في الدنيا ولكن لا يكفي في الآخرة. يكفي في الآخرة هذا هو المثال الأول من المربع الذي أراده الإمام الغزالي ونستكمل في حلقة قادمة فالسلام عليكم ورحمة
الله وبركاته. سأعود بعد فاصل.