مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 24 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع إحياء علوم الدين لإمام الأئمة وبدر التتمة حجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين. ومع
كتاب العلم وفيما ذكره حول علوم المعاملة فقد قسم العلوم. قبل ذلك إلى مكاشفة ومعاملة وقال إن المكاشفة لا تقدر عليها اللغة ولا تستطيعها ولذلك لا نجدها مدونة في الكتب وإنما يتفاهم من ذاقها ووصل إليها بعضهم مع بعض أما الذي ذُكِر في الكتب وهو أيضاً من علم التصوف وهو أيضاً من درجة الإحسان في المقابل هو علم المعاملة ونقرأ الآن ما ذكره إمام الأئمة عن علم المعاملة، اقرأ يا شيخ محمد: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: "وأما القسم الثاني وهو علم المعاملة، فهو علم
أحوال القلب. أما ما يُحمد منها فكالصبر والشكر والخوف والرجاء والرضا والزهد والتقوى والقناعة والسخاء ومعرفة المنة لله". تعالى في جميع الأحوال والإحسان وحسن الظن وحسن الخلق وحسن المعاشرة والصدق والإخلاص، فمعرفة حقائق هذه الأحوال وحدودها وأسبابها التي بها تُكتسب وثمراتها وعلاماتها ومعالجة ما ضعف منها حتى يقوى وما زال حتى يعود من علم الآخرة. وأما ما يُذم فخوف الفقر وسخط المقدور والغل والحقد والحسد والغش وطلب العلو. وحب الثناء وحب طول البقاء في الدنيا
للتمتع والكبر والرياء والغضب والأنفة والعداوة والبغضاء والطمع والبخل والرغبة والبذخ والأشر والبطر وتعظيم الأغنياء والاستهانة بالفقراء والفخر والخيلاء والتنافس والمباهاة والاستكبار عن الحق والخوض فيما لا يعني وحب كثرة الكلام والصلف والتزين للخلق والمداهنة والعجب والاشتغال عن عيوب النفس بعيوب الناس وزوال الحزن من القلب وخروج الخشية منه وشدة الانتصار للنفس إذا نالها الذل وضعف الانتصار للحق واتخاذ إخوان العلانية على عداوة السر والأمن من مكر الله تعالى في سلب ما أعطى والاتكال على الطاعة والمكر والخيانة
والمخادعة وطول الأمل والقسوة والفظاظة والفرح بالدنيا والأسف على فواتها والأنس بالمخلوقين والوحشة لفراقهم والجفاء. والطيش والعجلة وقلة الحياء وقلة الرحمة، فهذه وأمثالها من صفات القلب مغارس الفواحش ومنابت الأعمال المحظورة، وأضدادها وهي الأخلاق المحمودة منبع الطاعات والقربات. فالعلم بحدود هذه الأمور وحقائقها وأسبابها وثمراتها وعلاجها هو علم الآخرة، وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة، فالمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة كما. إن المعرض عن الأعمال
الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا بحكم فتوى فقهاء الدنيا، فنظر الفقهاء في فروض العين بالإضافة إلى صلاح الدنيا، وهذا بالإضافة إلى صلاح الآخرة. ولو سُئل فقيه عن معنى من هذه المعاني، حتى عن الإخلاص مثلاً، أو عن التوكل، أو عن وجه الاحتراز عن الرياء، لتوقف فيه. مع أنه فرض عين الذي في إهماله هلاكه في الآخرة، ولو سألته عن اللعان والظهار والسبق والرمي لسرد عليك مجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء منها، وإن احتيج إليها لم تخلُ البلد ممن يقوم بها ويكفيه
مؤونة التعب فيها، فلا يزال يتعب فيها ليلاً ونهاراً وفي... حفظه ودرسه ويغفل عما هو مهم لنفسه في الدين أو يغفل عما هو مهم لنفسه في الدين، وإذا رُوجع فيه قال: اشتغلت به لأنه علم الدين وفرض كفاية، ويُلبِّس على نفسه وعلى غيره في تعلُّمه. والفطن يعلم أنه لو كان غرضه أداء حق الأمر في فرض الكفاية لقدَّم عليه فرض. العين بل قدّم عليه كثيراً من فروض الكفايات، فكم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة، ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الفقه، ثم لا نرى أحداً يشتغل به، ويتهافتون
على علم الفقه، لا سيما الخلافيات والجدليات، والبلد مشحون من الفقهاء بمن يشتغل بالفتوى والجواب. عن الوقائع فليت شعري كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به. هل لهذا سبب إلا أن الطب ليس يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأقران والتسلط به على الأعداء؟ هيهات! هيهات قد اندرس علم الدين بتلبيس علماء السوء، فالله تعالى المستعان وإليه الملاذ في أن يعيدنا من هذا الغرور الذي يُسخط الرحمن ويُضحك الشيطان. إذاً
فالأصل هو عبادة الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نعبده، وذلك من خلال أمرين: الأمر الأول هو عمارة الدنيا، والأمر الثاني هو تزكية. أما عمارة الدنيا فقد قام بها الفقهاء وفصّلوا أمرها تفصيلاً وقسّموا أقسامها وبيّنوها بكل دقة، وهو يسميهم هنا علماء الدنيا، وهذا لا بد منه لإصلاح حال الدنيا وعمارتها. إلا أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أيضاً بتزكية النفس، وتزكية النفس تتأتى بالتخلية والتحلية، فمن تخلى ثم تحلى حدث له تجلٍ للأنوار.
يتجلى إذاً في التحلي والتخلي والتجلي. أما التخلي فهو التخلي من كل قبيح، وضرب الإمام مثلاً لذلك بالأخلاق الرديئة كالكبر والحقد والحسد والأنفة والبغضاء وحب الدنيا وهكذا. وضرب أيضاً مثلاً للتحلي بالتواضع لله والحب لله والهدوء النفسي والشفافية وكل ما سرده مما سوف يذكره تفصيلاً في كتابي أو ربعي. المهلكات والمنجيات بالتفصيل، لكنه يرسم لك الخريطة أن علم المعاملة إنما هو علم الآخرة،
وفي مقابله علم الدنيا. علم الدنيا من باب فرض الكفاية، وفرض الكفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وعلم الآخرة هو من باب فرض العين، فكل واحد منا لا بد أن يُخلي قلبه من القبيح وأن يزينه بالصحيح، ولذلك يتعجب من أولئك الذين يبادرون لتعلم الفقه ولكنهم يغفلون تمام الغفلة عن تعلم الأخلاق والسلوك إلى ملك الملوك، ويتعجب ويقول: كيف هذا؟ إذا رأيت هذا فرضاً فلتعلم أنه فرض كفاية، فكيف قدمته على فرض العين؟ وفرض العين مقدم بلا شك على فرض الكفاية، وقال رسول الله صلى.
الله عليه وسلم ابدأ بنفسك ثم بمن تعول، ابدأ بنفسك ثم بمن يليك. وقال صلى الله عليه وسلم: أترى القذاة في عين أخيك وتدع جذع النخلة في عينك؟ فلا بد للإنسان أن يبدأ بنفسه. وقال صلى الله عليه وسلم: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا. ولذلك فالإنسان العاقل إنما هو خصيم. نفسه وليبدأ بنفسه وليُربِّ نفسه، ولذلك كان فرض العين مقدماً على فرض الكفاية، لكن الناس عكسوا ذلك. قال: "وإذا كنتم تذهبون إلى الفقه وتتركون الطب في أيدي غير ، فما هذا الذي تفعلونه؟ ولمَ فعلتم هذا؟
إنكم فعلتموه للدنيا". فيريد أن يحرر قلب... من تصدر للفقه ومن تمثل أمام الناس به ولكنه لا يفعل ذلك لله إنما لشهرة أو زعامة أو أموال أو لغير ذلك من الأمور التي نراها ولا نزال نراها في عصرنا الحاضر وكأنه يكتب لنا، يترك الطب ويترك تخصصه الذي نحن في أشد الحاجة إليه ليزاحم الفقهاء ثم إنه لا يتقن ذلك ولا يسير سير السير المعتبر في هذا، لا ترى له شيخًا ولا تسمع له مذهبًا ولا تعلم له أستاذًا ولا أي شيء. ظهر هكذا
كنبتة من النباتات، لم يرد هذا وأراد هذا على سبيل الهوى. وإنما كان ذلك لأنه التف حوله أناس كالتفاف الذباب على القمامة، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وهذا لا يُرضي الله وفيه التفات عن الآخرة، ولا بد علينا مرة بعد أخرى أن نعود إلى الالتفات إلى الآخرة وإلى علوم الآخرة. هذا الوصف الذي وصفه الإمام في علم المعاملة من التخلية ثم التحلية من أجل أن تحدث التجلية، هذا أشعر فيه بما يسمى ب سمت النبوة الهيئة هكذا رجل هادئ الطبع لا ينازع الناس الدنيا صادق
شفاف لا يحقد على أحد، قلبه مملوء بالحب، والحب عطاء، فهو يعطي الناس، وتراه رفيقاً شفيقاً أنيقاً، هذا شيء جميل، إنه سمت النبوة، يعني عندما ترى هذه الأخلاق التي تحدث عنها الإمام، ترى أنه يريد بك أن تصل إلى سمت النبوة وخيركم من إذا رآه الناس ذكروا الله، يعني عندما تراه تقول لا إله إلا الله. هذا الرجل طيب، هذا الرجل من أهل الله، يذكرك بالله. أما الثاني الذي يذكرك بجهنم أو يذكرك بمجموعة من الشياطين أو يذكرك بشيء من هذا العجاج
الذي يعيش فيه البشر فإنا لله وإنا راجعون. كان شيخنا رحمه الله، يقول: "يا أخي، كان المرء في شبابه يرى شيطاناً أو اثنين يمشيان في الشارع، أما الآن فقد كثروا، وهناك كثير من الناس يشبهون الشياطين، أي أن مظهرهم يذكرك بالشياطين ولا يذكرك بالرحمن". ولذلك فهناك فرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. فالغرض من علم المعاملة أن تكون على سَمْت النبوة. وأن تكون وردة يشمّها الناس، وأن تكون قد اتخذت أسوة حسنة لك سيدنا صلى الله عليه وسلم. لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وهو الذي قال:
"إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق". والأخلاق عنده صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن، وكان قرآناً يمشي على الأرض. اللهم صلِّ وسلِّم على سيدنا محمد وآله واحشرنا معهم يا أرحم الراحمين تحت لوائه يوم القيامة وأدخلنا الجنة من غير حساب ولا سابقة عقاب ولا عتاب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.