مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 26 | أ.د علي جمعة

مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 26 | أ.د علي جمعة - إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين. وهو يشرح لنا حال
الأولين من الفقهاء المجتهدين والأئمة المتبوعين وهم يعظمون أهل الله بالرغم من أنهم هؤلاء. المجتهدون أكثر علمًا من أولئك، وهذا يجعل الإنسان يتعجب من تواضعهم، ويتعجب أيضًا من عقلهم الذي يريد أن يستفيد من كل أحد، ويريد ألا يحتقر وألا يتعالى على أي أحد. فالناس جميعًا خير مني وأحسن مني، ولذلك قالوا: أخفى الله ثمانية في ثمانية، ومنها أخفى ولي الله في الناس، فلعل. هَذا الذي قَد احتَقَروهُ هو وليٌّ للهِ، فأكونُ قد ضَيَّعتُ على نفسي بَرَكَةَ دُعائِهِ لي أو بَرَكَةَ الاستِفادَةِ مِن
أدَبِهِ مَعَ اللهِ بِهَذِهِ العَنجَهِيَّةِ التي لا سَبَبَ لَها والغَطرَسَةِ التي لا مَعنى لَها. وَلِذلِكَ اعتَبِر كُلَّ النَّاسِ أفضَلَ مِنكَ، فأنتَ المُقَصِّرُ دائِماً في حَقِّ نَفسِكَ، فَهَذا تَعليمُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. فكان الأئمة وهم قد فهموا الدين وعرفوه وتمسكوا به وطبقوه فهموا هذا، ولذلك تراهم مع أهل الله سبحانه وتعالى بسكينة، حتى أنهم لو اعترضوا على أهل الله فإنهم يعترضون عليهم لله وليس للتشفي ولا للتكبر ولا نحو ذلك، وحُكِيَ أنه قد سُئِلَ أحمد بن حنبل وهو إمام أهل السنة والجماعة.
عن الحارث المحاسبي فقال: "ماذا يقول؟ لا بد أن أسمعه". فلما جاء على سطح بيت وسمع الحارث المحاسبي، دخل في البكاء واشتد عليه البكاء جداً من موعظة الحارث المحاسبي. وكان الحارث رقيق القلب، وكانت موعظته مؤثرة تصل إلى القلب. وكما قالوا: "ما خرج من القلب وصل إلى القلب"، يقولون هكذا. ما خرج من الجنان وصل إلى الجنان، وما خرج من اللسان يقف عند الآذان.
تسمعه وانتهى الأمر ولا يهمك ولا تفعل شيئاً، أما الشيء الذي يدخل قلبك فهو الشيء الذي يخرج من القلب. فالإمام أحمد حصل له هذا الحال ودخل في دور البكاء عندما سمع الحارس وهو يتكلم في علم الكلام وتفاصيله وما شابه ذلك. إلى آخره ويجعل هذا ويربطه ربطاً قوياً بعلوم الآخرة. خاف على الناس من جهة الكلام لكنه حال بينهم وبين ذلك بالبكاء من جهة الحال، من جهة الأخلاق والمعاملة. وكان ابنه معه، فهو له ابن اسمه صالح وابن اسمه عبد الله،
وهكذا هو أبو عبد الله. فلما انتهى ظن ابنه أنه سلم للحارث. لكنه قال: انصحوا الناس ألا يحضروا مجلساً له، لأن كلامه أعلى من مستوى هؤلاء الناس وأرفع منهم، ولأنه يتكلم فيرد على جميع الطوائف بما فيها المتكلمين في عصرهم، وهذا أمر مغلق لا ينبغي للعوام أن ينشغلوا به. ولذلك عندما عرف الحارث أن أحمد يقول هكذا، امتثل لأحمد، فأهل الله مع... أهل العلم وانظروا أهل العلم مع أهل الله فامتثل له فاختفى ولم يظهر
ولم يعلم أحد عنه شيئاً. خلاص، ما دام أن الفقه يقول أنني لا أصلح، فمع السلامة، لأنني أحتاج الماء لابد لي من إناء، والإناء يقول لي أنني لا أصلح، فمع السلامة خلاص، لا في هواء ولا. ليس فيه عناد ولا فيه منافرة أبداً، لأن هذا نصح لله وهذا فعل لله. نريد أن نصل مع بعضنا لله، وليست المسألة خصاماً. فهذا هو الذي حدث بينهم إذ يروي الشيخ الإمام رواية الشافعي مع شيبان، وأحمد بن حنبل مع معروف
الكرخي ومع الحارث المحاسبي ونحو ذلك، هذه القصص التي أشار إليها. ولم يفصلها، فهي مفصلة في كتب أخرى ومذكورة بالتفصيل. نعم، اقرأ يا شيخ محمد. قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين: "فإن قلت: فلماذا لم تورد في أقسام العلوم الكلام والفلسفة وتبين أنهما مذمومان أم محمودان؟ فاعلم أن حاصل ما..." يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي ينتفع بها، فالقرآن والأخبار مشتملة عليه، وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع كما سيأتي بيانه، وإما مشاغبة بالتعلق
بمناقضات الفرق لها، وتطويل بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع وتمجها الأسماع، وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين. ولم يكن شيء منه مألوفاً في العصر الأول وكان الخوض فيه بالكلية من البدع، ولكن تغير الآن حكمه إذ حدثت البدع الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة، ونبغت جماعة لفقوا لها شبهاً ورتبوا فيها كلاماً مؤلفاً، فصار ذلك المحذور بحكم الضرورة مأذوناً فيه، بل صار من فروض الكفايات وهو القدر الذي يقابل به المبتدع إذا قصد الدعوة
إلى البدعة وذلك إلى حد محدود سنذكره في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى. قال: فإذا الكلام صار من جملة الصناعات الواجبة على الكفاية حراسةً لقلوب العوام عن تخييلات المبتدعة، وإنما حدث ذلك بحدوث البدع كما حدثت حاجة الإنسان إلى استئجار الحراس. في طريق الحج بحدوث ظلم العرب وقطعهم الطريق، ولو ترك العرب عدوانهم لم يكن استئجار الحراس من شروط طريق الحج. فلذلك لو ترك المبتدع هذيانه لما افتقر إلى الزيادة على ما عُهِدَ في عصر الصحابة رضي الله عنهم. فليعلم المتكلم
حدَّه من الدين وأن موقعه منه موقع الحارس في الطريق. الحج فإذا تجرد الحارس للحراسة لم يكن من جملة الحاج، والمتكلم إذا تجرد للمناظرة والمدافعة ولم يسلك طريق الآخرة ولم يشتغل بتعهد القلب وصلاحه لم يكن من جملة علماء الدين أصلاً، وليس عند المتكلم من الدين إلا العقيدة التي يشاركه فيها سائر العوام وهي من جملة أعمال ظاهر القلب واللسان. وإنما يتميز عن العامي بصنعة المجادلة والحراسة، فأما معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله وجميع ما أشرنا إليه في علم
المكاشفة فلا يحصل من علم الكلام، بل يكاد أن يكون الكلام حجاباً عليه ومانعاً عنه، وإنما الوصول إليه بالمجاهدة التي جعلها الله سبحانه مقدمة للهداية حيث قال تعالى: "والذين جاهدوا فينا". لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ. فَإِنْ قُلْتَ فَقَدْ رَدَدْتَ حَدَّ المُتَكَلِّمِ إِلَى حِرَاسَةِ عَقِيدَةِ العَوَامِّ مِنْ تَشْوِيشِ المُبْتَدِعَةِ، كَمَا أَنَّ حَدَّ البَذْرَقَةِ حِرَاسَةُ أَقْمِشَةِ الحُجَّاجِ مِنْ نَهْبِ العَرَبِ. وَرَدَدْتَ حَدَّ الفَقِيهِ إِلَى حِفْظِ القَانُونِ الَّذِي بِهِ يَكُفُّ السُّلْطَانُ شَرَّ بَعْضِ أَهْلِ العُدْوَانِ عَنْ بَعْضٍ. وَهَاتَانِ رُتْبَتَانِ نَازِلَتَانِ بِالإِضَافَةِ إِلَى... علماء الدين وعلماء
الأمة المشهورون بالفضل هم الفقهاء والمتكلمون، وهم أفضل الخلق عند الله تعالى. فكيف تنزل درجاتهم إلى هذه المنزلة السافلة بالإضافة إلى علم الدين؟ والله أعلم. سنشرح ذلك بتفصيل في حلقة قادمة إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. اشتركوا في...
القناة