مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 28 | أ.د علي جمعة

مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 28 | أ.د علي جمعة - إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين. ما زلنا نقرأ في كتاب العلم الذي قدمه على
سائر الكتب لأن العلم هو مفتاح كل خير. ومغلاق كل شر، والعلم لا يكون علماً في لغة القرآن إلا إذا كان موصلاً إلى الله رب العالمين. نقرأ في كتاب العلم: اقرأ يا شيخ محمد، بسم الله الرحمن الرحيم، قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين: فالفقهاء الذين هم زعماء الفقه وقادة الخلق أعني الذين كثر أتباعهم في المذاهب خمسة: الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة وسفيان الثوري رحمهم الله تعالى. وكل واحد منهم كان عابداً وزاهداً وعالماً بعلوم الآخرة
وفقيهاً في مصالح الخلق في الدنيا ومريداً بفقهه وجه الله تعالى. فهذه خمس خصال اتبعهم فقهاء العصر من جملتها على واحدة. وهي التشمير والمبالغة في تفاريع الفقه، لأن الخصال الأربع لا تصلح إلا للآخرة، وهذه الخصلة الواحدة تصلح للدنيا والآخرة. إن أُريد بها الآخرة قلَّ صلاحها للدنيا. شمَّروا لها وادَّعوا بها مشابهة أولئك الأئمة، وهيهات أن تُقاس الملائكة بالحدادين. الإمام الغزالي كان متبعاً للإمام الشافعي محمد بن إدريس الذي وُلد. في سنة مائة
وخمسين من الهجرة، ولذلك ولأنه يحبه ويرى تفوقه على غيره، فإن مَن قلَّد إماماً وأحبه وجعله واسطة بينه وبين الله سبحانه وتعالى يتلقى منه أحكام الله. والواسطة هنا هي واسطة بين الخالق والمخلوق على ميراث النبوة، وهي واسطة محمودة، والإسلام لا يعرف الواسطة التي بين المخلوق والخالق. ولذلك ليس عندنا اعتراف وليس عندنا توسط بهذا المعنى، إنما من الخالق إلى المخلوق يحتاج إلى نبي أو وارث نبي. نحتاج إلى نبي أو وارث نبي، والعلماء ورثة الأنبياء،
ولذلك فهم يوصلون كلمة الله سبحانه وتعالى، فما على الرسول إلا البلاغ، ويجتهدون في استنباط الحكم الشرعي المرعي من أدلته التفصيلية. قدم الإمام الشافعي ثم مالك لأن مالكاً كان أستاذاً للشافعي، وأستاذ أستاذك هو أستاذك، ولذلك قدم مالك. ولم يرَ الشافعي أبا حنيفة، وإنما حصل علمه من أتباعه وتلامذته كمحمد بن الحسن وغيره، وقدمه. وهذه الشافعي ومالك وأحمد، وأحمد تلميذ الشافعي. وأبو حنيفة عد هو إماماً آخر لم يستمر مذهبه وهو
الإمام سفيان الثوري. وهؤلاء جميعاً قد اختلفوا اختلافاً عظيماً في الأصول وفي الفروع، وعلى الرغم من ذلك فإن الإمام الغزالي عدّ الجميع من المجتهدين الأتقياء الأنقياء الذين راعوا الله سبحانه وتعالى وأحبوا رسوله ودينه بما لا مزيد في سيرتهم على بني آدم، حيث يتبعون الرسل فكانوا كالملائكة، وعذر بعضهم بعضاً حتى إن الشافعي رضي الله تعالى عنه وهو يقول بسنية القنوت في الفجر، لما حضر عند قبر أبي حنيفة رحمه الله تعالى ترك القنوت
في الفجر إعظاماً وإجلالاً للإمام أبي حنيفة. وعندما ترك القنوت في الفجر، أراد أن يبين للناس أن هناك فارقاً بين القطعي والظني، فإذا كان الأمر قطعياً اتبعناه وأجمعت عليه الأمة. ولا نرى خلافاً بين أحد من المسلمين فيه، لكن إذا كان ظنياً فإن هذا الظن يستوجب النظر، والنظر يستوجب الاختلاف طبقاً لعلم ودرجة وفقه كل واحد منا، وأن هذا الاختلاف إنما هو اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد، ولذلك أحب بعضهم بعضاً وعظم بعضهم بعضاً وسار الأمر على هذا المنوال إلى يوم الناس هذا حتى نبتت النابتة، فلما
نبتت النابتة قلبوا كل موازين الدين. أصبح الخلاف مذموماً باعتبار أنه خلاف تضاد وليس اختلاف تنوع. اختلاف التنوع معناه أن هناك ثراءً في الفكر، معناه أن هناك رحمة، معناه أن هناك تعدداً، ولكن لا يجب حمل الناس على رأي واحد. ثم إنهم اكتشفوا أنه لا يمكن أن يكون هناك رأي واحد، فانفصلوا وانقسموا وحارب بعضهم بعضاً، حتى إنه في بلد صغير كمصر أصبح هناك أكثر من خمسة وعشرين طائفة في النابتة ينقض بعضهم بعضاً ويحارب بعضهم بعضاً، وهذا ليس بسديد. وإنما
عاش العلماء عبر القرون قوماً يأكلون سوياً ويدرسون سوياً ويقول له عندنا مولانا، عندنا يعني في مذهبنا وكلمة "في مذهبنا" معناها أنها مبنية على أدلة ومناقشات وترجيحات وأصول وقواعد ولغة، أن لمس المرأة ينقض الوضوء. فيرد عليه الشيخ ببساطة، وهم ذاهبون ليأكلوا الفول المدمس مع بعضهم، هذا عندنا ينقض، هكذا، ليست مشاجرة يعني". وهكذا، "هو عندكم ماذا في هذه المسألة؟" يقول له: "عندنا كذا"، فيقول له. نحن عندنا كذا، يا شيخ، يتسمون بالحلاوة والطيبة والسماحة وهكذا. أما
الشخص الآخر فتجد أنه كشّر لك عن أنيابه وقال لك: "أعوذ بالله"، وينتفض هكذا كانتفاضة المحموم. لماذا تفعل ذلك؟ لأنك لا تفعل ما يفعله فقط لا غير. أعوذ بالله، ليس هذا هو الإسلام الذي تركه لنا سيدنا صلى الله عليه وسلم. الإسلام الذي تركه لنا سيدنا كله سماحة وحلاوة، وكله فيه صياغة بهذه الطريقة. وترى عندما يكتبون في أول الصفحة ما يتناقض مع آخر الصفحة، والصفحة التي بعدها تنقض الاثنتين. فينقلون مثل هذا مثلاً عن الإمام الغزالي وعن السلف الصالح، ثم يشتمون أبا حنيفة، إنا لله وإنا إليه راجعون، ويتهمون أبا حنيفة بدلاً من ذلك. ما كان يقول الشافعي في شأنه: "الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة". يقول هذا: "ضعيف في
الحديث"، يعني هو الذي هو قوي في الحديث هو وأبوه والذين خلفوه؟! ما هذا؟! نحن في حمق وجهالة لا يعلم بها إلا ربنا. إمام الأئمة، الإمام الأعظم، أليس عارفاً شيئاً في الحديث وأنت يا من لا تساوي شيئا في سوق الرجال. إذا جئت أو عُرضت في سوق الرجال، هل انت من يعرف؟ هذا كلام لا يحتاج إلى رد، إنما يُظهر لك سواد القلب. هو مقتنع في قلبه أنه ما دام عرف شيئاً أو معلومة فإنه يكون أعلم من أبي حنيفة أنه لا يعرفها هكذا سريعًا، فهذه من المصائب التي
شاعت في عصرنا وذاعت، والناس استسلمت لها. لماذا؟ لأنهم لم يجدوا إلا هذه النابتة تكلمهم في دين الله - والعياذ بالله - وقصّر كثير من أهل العلم عندما رأوا هذا الجهل فاشيًا وضاقت أنفسهم، قصّروا في الوقوف أمام هذا الطوفان، فإنا لله وإنا إليه راجعون. رجع فاجتمع على الناس بليّتان: بليّة المحرّفين وبليّة المنهزمين، سيهزم الجمع ويولّون الأدبار. وسنظل حتى يتوفانا الله ندعو الناس إلى أن يعودوا إلى الأمر الأول، وإلى أن يعظّموا علماء الأمة، وإلى أن يقفوا عندهم، وأن يأخذوا مناهجهم، وأن
يتبعوهم اتباع المحبين، فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. تكلم الشيخ الغزالي أيضاً فيما سمعناه من أن هؤلاء كانوا، وهو يتكلم الآن في القرن السادس، حيث أنه توفي سنة خمسمائة وخمسة، أي أنه دخل في القرن السادس. هو عاش في القرن الخامس، نعم، لكنه دخل في القرن السادس. توفي سنة خمسمائة وخمسة. يتحدث عن أن فقهاء عصره قد أخذوا خصلة. واحدة من خمس خصال من الأئمة الكبار خصلة هي التبحر في التفريع والتدقيق في العلم، وهي خصلة محمودة لكنها قد يُراد بها الدنيا، وإنما الأعمال بالنيات، وقد يُراد
بها الآخرة، وإنما الأعمال بالنيات. الظاهر يحتمل أن يكون للدنيا أو للآخرة، إلا أن الأوائل كانوا يفعلون هذا وقلوبهم معلقة بالله وهناك. ذكر لله ولذلك كانوا على وعي، لم ينظروا أبداً إلى الكم وإنما نظروا إلى الكيف، وبذلوا كل قوتهم وكل اجتهادهم. ويُروى مما يُحكى في هذا الشأن، من أجل أن تصل إلى مناهج أولئك الأولين، أن أحمد بن حنبل كان يُكثر من تعظيم الشافعي، فجاءه مرة ونزل ببيته ضيفاً، ومن كثرة ما
ذكر أحمد فضل الشافعي وعلو مكانته وكعبه ومقامه، فإن ابنة الإمام أحمد ترصدته في الليل لترى عبادته حتى تفعل مثله أيضاً، وقالت: "الشافعي نزل عندنا وقام كذا وكذا من الليل". وقالت: "إنني سأسهر الليلة لأراقب هذا الإمام الكبير لأعرف كيف يفعل"، فوجدته قد نام ثم استيقظ قبل الفجر وصلى. ركعتين، وبعد ذلك ذهبوا للصلاة. فقالت البنت لأبيها والشافعي يسمع: "يعني أنت تُعظِّم هذا الرجل كثيراً، والرجل نام بالليل ولم يقم ولم يصلِّ ولم يفعل شيئاً! كنتُ أظن أنه سيقوم ثلث الليل ثم ينام سدساً ثم يقوم سدساً ثم
ينام ثلثه مثلا أو هكذا يعني... قُمِ الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً، يعني هناك تشكيلة وكان لا بد من برنامج، فسمعها الشافعي وقال: يا بنيتي، لقد فكرت وحللت ستين مشكلة للمسلمين أثناء هذه الليلة ولم أنم ولم تغمض عيني، ما هذا القلب الذي يرى أن حل الستين مشكلة للمسلمين عبادة؟ ما هذا القلب! وهذا العقل الذي يعرف أن ذلك من عمارة الأرض، ما هذا الإنسان الذي يجعل هذا لله ويفهم وفاهم واضحة الحكاية أمامه. ما هذا! يعني عندما تأتي لتبحث في
القصة تجدها عجيبة غريبة في بناء هذه الشخصية وهذا الإنسان الذي اسمه الإمام الشافعي، ويخرج الإمام الشافعي هذا ولم يصل كثيرا في الليلة، لكنه عمل شيئاً كبيراً جداً، ولذلك انبهر الناس بأمثال هؤلاء الأئمة. كيف الانبهار؟ كلما تعمقوا في مقولة إمام من الأئمة وجدوها مبنية على قاعدة، ووجدوا القاعدة تناسب هذا الفرع، بحيث أنه لو فرّع عليه فرعاً آخر أو قولاً آخر وخرج عليه شيئاً آخر، فإن ما ذهب إليه الإمام يكون أقوى وأقرب، لماذا؟
أقرب إلى النص وأقرب إلى المصالح وأقرب إلى المقاصد وأقرب إلى مراعاة المآلات وأقرب إلى النسق الذهني المتسق. عندما يرون هذا ينبهرون، حصل لهم انبهار بهؤلاء الناس. كلما فتشوا في كل كلمة وجدوا أن وراءها فكراً، أن وراءها فكراً عميقاً تركه الإيمان، ولذلك انبهروا. واستسلموا حتى وصل الحال ببعضهم إلى أن يعتقدوا أن هذه العقليات الجبارة لا يمكن أن تتكرر، وشعروا بالعجز، فبعضهم قال: "يا جماعة، دعوا الاجتهاد جانباً، دعوا الخلاف، فالعلماء الكبار
قد ماتوا، فلم يعد هناك مجال للاجتهاد"، ودعوا إلى عدم تصدر الناس للاجتهاد. كيف لا يفهمون هذا الفهم العميق الذي فهمه الأئمة المتبعون؟ فدعوا إلى ما يُسمى أو عُرف في التاريخ بإغلاق باب الاجتهاد، وباب الاجتهاد لم يُغلق. هو خوف انتاب أولئك المُنبهرين بعبقرية أولئك المجتهدين والشعور بالعجز في أنفسهم، بالإضافة إلى ما قاله الإمام الغزالي هنا وهو أنه يشعر بأن هؤلاء الناس كانوا أتقى منه وأورع منه وأعلم منه، فخاف حدث له خوفٌ، وهذا الخوف حدث من تقواه ومن علمه، فدعا
إلى التقليد، ولم يتغير الحال، فالدنيا كما هي، ولذلك لم يكن هناك دافع لهم للاجتهاد. عمر بن الخطاب يريد أن يزور شخصاً في مكة، يجلس عشرة أيام ريثما يذهب إلى مكة. الإمام الباجوري، هذا الإمام الباجوري توفي سنة ألف ومائتين وسبعة وسبعين. كان هناك في القرن الأول عندما يريد أحدهم أن يقطع نفس المسافة، كان يستغرق عشرة أيام أيضًا، فكانت الحالة لم تتغير بعد ذلك. ثم تغير الحال وأصبحنا نذهب إلى
الإسكندرية في ساعتين، وفي ربع ساعة بالطائرة. تغيرت الأحوال، وأصبحنا نتصل ببعضنا البعض بالهاتف المحمول، فتصلنا الأخبار من كل مكان، عرفنا ما يحدث في أمريكا وفي اليابان في التو واللحظة لم يكن الأمر كذلك سابقاً، فقد تغيرت الحال وتغيرت العلاقات، فاحتجنا إلى اجتهاد جديد ولابد منه. فقام بعضهم من غير وعي لهذه الحقائق وقال: لا، الاجتهاد أُغلق ولا داعي له. وقام بعضهم وادعى الاجتهاد دون آلة. الاجتهاد يريد أن تبذل بذل الوسع والجهد في قراءة المغني على السرير أربعين يوماً، فهؤلاء يقولون:
ها هي النتيجة، وهؤلاء يدعون الجمود في هؤلاء، وإنا لله وإنا إليه راجعون. الأمر ليس كذلك، والله أعلم بما هناك. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. شكراً.