مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 29 | أ.د علي جمعة

مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 29 | أ.د علي جمعة - إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين للإمام الأئمة وبدر التتمة الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين. يقول
في كتاب العلم قراءة محمد: قال رحمه الله تعالى فلنورد الآن. من أحوالهم ما يدل على هذه الخصال الأربع فإن معرفتهم بالفقه ظاهرة، أما الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فيدل على أنه كان عابداً ما روي أنه كان يقسم الليل ثلاثة أجزاء: ثلثاً للعلم، وثلثاً للعبادة، وثلثاً للنوم. قال الربيع: كان الشافعي رحمه الله يختم القرآن في رمضان ستين مرة، كل ذلك في الصلاة، وكان البويطي أحد أصحابه يختم القرآن في رمضان في كل يوم مرة، وقال الحسن الكرابيسي: بت
مع الشافعي غير ليلة، فكان يصلي نحواً من ثلث الليل، فما رأيته يزيد على خمسين آية، فإذا أكثر فمائة آية، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله تعالى لنفسه ولجميع المسلمين والمؤمنين ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ فيها وسأل النجاة لنفسه وللمؤمنين وكأنما جُمع له الرجاء والخوف معاً، يعني هذه حال من تعلق قلبه بالله أنه يجمع له الرجاء والخوف معاً، وهذه الأحوال ليست متناقضة، وهو كان يحب أن يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله. عليه وسلم لم يختم القرآن في ليلة ولا في ركعة ولا في
اليوم مرتين، ولكن كانت صلاته في نحو خمسين آية. وتمسك الشافعي بذلك الظاهر التماساً لبركة النبي صلى الله عليه وسلم وللأسرار التي تتولد من تقليد النبي، لأن الإنسان إذا قلّد نبياً تولدت في قلبه أسرار لا يعرفها إلا... بالتذوق وكلها أمان في أمان، لا ليس فيها مخوف، ليس فيها أمر نخاف فيه الانحراف أو الغلو أو الضلالة، لأنه هو المثال الكامل صلى الله عليه وسلم. فالالتزام بظاهر السنة أمر لا بد منه، ولذلك يقول الإمام القرطبي المالكي: "وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع على كل". قال: "فالنبي
صلى الله عليه وسلم مثلاً أمرنا أنه إذا أتينا الصلاة نأتيها بتؤدة. قال: فراكب الفرس وراكب مرسيدس يجوز له أن يسرع لأنه بتؤدة في مكانها، لكن لا تلهث. يقول: أنا راكب فرس، لن ألهث. الفرس هو الذي يجري. وأنا راكب سيارة مرسيدس وأجري بها، فأنا لن ألهث، فلأسرع. قال له: لا، حتى..." إذا كنتَ في السيارة تسير ببطء، لماذا تتنهد؟ عندما يجري الديك ينهج، وعندما يجري هذا لا ينهج، فينبغي أن يجري. قال له: لا، فهناك سمتٌ معين في الأناه ربما يؤثر في النفس، فسنة رسول الله أولى بالاتباع على كل حال، فيها فوائد قد تدرك فائدة منها وتضيع
منك بقية الفوائد، ولذلك... عندما تتبعها في كل حال ستحصل على فوائدها العاجلة والآجلة النفسية والمادية وهكذا، فهكذا كان تفكيره أن يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء. فكذلك الإمام الشافعي كان يقرأ في ظاهر الصلاة بخمسين آية مثل شأن سيدنا صلى الله عليه وسلم، لكن هناك وضع آخر وهو وضع التمكن من الحفظ والاسترجاع، وهنا كان الشافعي رضي الله تعالى عنه يمر بقلبه على القرآن، وهذا لم ينفرد به الشافعي بل كان ديدن الحفاظ الكبار في عرض
القرآن على أنفسهم هكذا، لأن القرآن بالتلاوة إذا أعطينا لكل حرف حقه الذي يستحقه سيستغرق عشرين ساعة، فلا يمكن تلاوته في اليوم مرتين مع وجود وقت النوم وغيره. الأيام وغير مشاغل الحياة، ولو أنه بالحذر وليس بالترتيل يأخذ له عشر ساعات، يعني يقرأ فيه هكذا ويهذر به هذراً، سيأخذ عشر ساعات لستة وستين ألف كلمة، ولكن إذا مرره على قلبه، نعم يمكن أن ينهيه في مرتين في اليوم، يعني هو أمامه هكذا، أمامه يجري، وهذا شأن كثير جداً من... الحافظ رأيناه كان الشيخ الهمداني رحمه الله
تعالى ونحن نقرأ عليه، قال لي: "يا أبا فلان، ما نظرت في المصحف منذ أربعين سنة". هذا رجل جالس وكان يستمع لأربعة أشخاص في الوقت نفسه، هذا يقرأ في سورة الملك، وهذا في البقرة، وهذا في الأعراف، وهذا في الكهف، ويصحح لهم. لكن قلت له... يعني ماذا! لقد بقيت في هذا المصحف لمدة أربعين سنة. قال: والله إن القرآن صفحة واحدة أمامي، واختبرني، قل لي هكذا: في القرآن "غفور رحيم" كم مرة، "عزيز حكيم" كم مرة، وأنا أقول لك وأقول لك أين هما. قل لي أي شيء، اختبرني. قلت له: لا يصلح، مكتوب في الكتب إياك والشيخ لو قال لك اختبرني، إياك أن تختبره. قل له: "العفو يا مولانا،
أصدقك يا مولانا". فقلت له: "العفو يا مولانا، أصدقك يا مولانا". ففهمها وقال لي: "فتح الله عليك، تعال". أما هذا الرجل عندما دخل، لم تكن معه الشهادات. إنما يحفظ القرآن حفظاً جيداً ويحفظ معه الشاطبية والطيبة، وكان وهو يذهب إلى بيته بعد الدراسة يقرأ الطيبة، وهو في الصباح قادم يقرأ الشاطبية، وكان بيته بجوار الأزهر. فأمثال هؤلاء نحن رأيناهم، رأينا هذا البشر، ومكتوب في الكتب أن الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى كان القرآن كأنه سطر واحد في الاستدلال وشدة
الحفظ والاسترجاع واردة ومعروفة، ومن أمثلتها الإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة، فقد كان القرآن كسطر واحد أمامهم، يأخذون منه استدلالاً أو يقرؤونه. فتجد الإمام الشافعي مثلاً، حتى يصل إلى دليل للإجماع من القرآن، قرأ القرآن ستين مرة. قد يستعظم المرء ذلك ويقول: ستين مرة؟ نعم، كيف وصل إليه وكأنه سطر واحد؟ لأن القراءة كانت بالقلب. هذا الاستعراض، يسمونه الاستعراض، تستعرض القرآن هكذا، أي بطريقة معينة يعرفها الحافظ. لن تتصورها حتى تجربها، فتجد أن هذا يقوي الحفظ، ثم إنه يعين على الاستدلال الذي هو في أشد الحاجة إليه، ثم إنه في الوقت نفسه علاقة عبادة
بينه وبين الذكر الحكيم. هكذا كان هؤلاء. الناس ولذلك لا تناقض بين كونهم قد انتهى عرضًا مرتين في اليوم يقرأ القرآن في رمضان ستين مرة يعني عرضًا وبين أنه كان لا يزيد على الخمسين آية وأنه يدعو في وسطها على ما كانت هيئة النبي صلى الله عليه وسلم. الإمام أحمد متبع للسنة أيضًا كالإمام الشافعي، فكان النبي عليه الصلاة والسلام عندما تكلم عن ختم القرآن أرشد إلى أنه لا يزيد عن ثلاثة أيام يعني ألا نزيد في اليوم عن عشرة أجزاء. فكان الإمام أحمد يرى في نفسه قوة
بقراءة القرآن أكثر، فكان يلجأ إلى حيلة، هذه الحيلة حتى لا يخرج عن أمر النبي، فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع في كل حال، فكان يقرأ عشرة أجزاء في الصباح ويقرأها مرة أخرى بالليل، يقرأ عشرة أجزاء في الصباح وبعد ذلك مرة أخرى بالليل يقرأها هي نفسها، ففي خلال الثلاثة أيام يكون قد ختم القرآن مرتين، لكنه لم يزد عن الختمة في الثلاثة أيام، ذكاء أيضاً، وكل هذا من شدة تعلقهم وحبهم لسيدنا. صلى الله عليه وسلم ولشدة تعلقهم بالقرآن وشدة ارتباطهم بالقرآن يا جماعة له لذة إذا تمكنت في قلب أحدهم لا يمكن
أن تخرج، وتجده حتى إن أهل القرآن لهم كرامة مدخرة، وأهل القرآن مع قليل من العمل تجد الأنوار تظهر على وجوههم بطريقة ملحوظة مفهومة لا ينكرها إلا... أعلم أنَّ هذا سيدنا الشافعي فعل ماذا بعد ذلك. انظر كيف يدل اقتصاره على خمسين آية على تبحّره في أسرار القرآن وتدبره فيها. نعم، وقال الشافعي رحمه الله: "ما شبعت منذ ست عشرة سنة، لأن الشبع يُثقل البدن، ويقسي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة". فالنبي قال عليه الصلاة والسلام: "بحسب ابن آدم لقيمات
يقمن صلبه"، وهذا أمر جديد جداً أن يكتفي المرء بلقيمات. وكان أهل الله يأكلون ويتناولون اللوز والبندق والزبيب لكي يمتثلوا هذا الأمر، ولا يأكلون كثيراً. فهذه الأشياء - سبحان الله - لها سعرات حرارية عالية، هذه الأشياء التي هي المكسرات لها سعرات حرارية عالية، فكان يستعملها في عباداته. وذهابه ومجيئه وكذلك وفي نفس الوقت تسد الشعور بالجوع وفي نفس الوقت لا تمتلئ بها البطن لأنها أشياء خفيفة، فيكون قد حقق اللقيمات وحقق عدم الشبع وحقق
أيضاً مصلحة الجسد وبنائه. فكانوا يسمون المكسرات وهذه الأشياء هكذا، ولماذا جعلها المسلمون في رمضان والمصريون هكذا، لأن هذا طعام أهل الله. أكل أهل الله، لكن كان يأكلها وحدها، ليس معها فخذة، ومعها عشرين رغيفاً وأكثر، ثم بعد ذلك الكنافة والقطائف بالمكسرات. لا، لم يكن يفعل هكذا، هو كان يأكلها بمفردها فقط، وإذا ضغط عليه أحد أو شيء من هذا القبيل ليأكل، كان الشيخ محمد أمين البغدادي يأكل نصف وجه الرغيف، ما هو الرغيف... له وجه وله ظهر، فهو يأكل نصف وجه الرغيف، أي ما لا يصل إلى ربع رغيف. فإذا أكل هذا الرغيف بالكامل، فلا يأكل المكسرات بعد ذلك، وعندما يأكل المكسرات، فلا
يأكل الخبز وإدامه والغموس الخاص به. والخل، الخل نحضر منه قليلاً هكذا، نصنع إداماً من الخل، نفعل هكذا وهو يأكل مع الخل. هذا لأنّ الخل حامض جداً، عندما ينزل في البطن فماذا يفعل لها؟ إنه يُسكت وجع البطن ويكتمه. فالإمام الشافعي وهو يمتثل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان الغرض منه صفاء الذهن والتحرك لعمارة الدنيا، ولكن على نهج رسول الله وبأوامره. نعم، فانظر إلى حكمته في ذِكر. آفات الشبع تتجلى في فقدان الجدية في العبادة،
فقد رُفض الشبع لأجلها، وأساس التعبد هو تقليل الطعام. وقال الشافعي رحمه الله: "الطريق إلى الله مرتبط بقلة الطعام وقلة الكلام وقلة مخالطة الناس وقلة النوم". ومن الليل فتهجد به، وكل حاجة لها دليلها في الكتاب، وهنا قلة مخالطة الناس تشير إلى الخلوة التي كان يمارسها في الغار. حراء والاعتكاف وقلة الطعام، الأحاديث الواردة كلها هذه في عدم الشبع وقلة الكلام. "اضمن لي ما بين لحييك وفخذيك أضمن لك الجنة"، و"إذا رأيتم الرجل قد أوتي صمتاً فإنه يلقّن الحكمة"، و"هل يكب الناس على مناخرهم أو على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم".
ونهانا ربنا عن اللغو، اللغو معناه... ما دون ذكر الله والأمر بالمعروف وعمارة يصبح لغواً، يعني هل سنسكت ونبقى هادئين ونكون لطفاء، بمعنى عدم الثرثرة بالكلام. ولذلك أقول لهم: يا جماعة، الحالة التي تمر بها مصر الآن من هذه الضوضاء المزعجة هي اختبار، هذه فرصة لكل شخص أن يمسك لسانه. تقول لم أرَ بعينيك ولا سمعت بأذنيك، لا تفعل هكذا. لكن تقول لبيت شهوة الكلام: ضيّعت الدنيا. حسناً، أنت تظلم الآن. افترض يوم القيامة ظهر أن كل هذا خطأ، ماذا ستفعل؟ قال: أنا متأكد. حسناً، وحينها ماذا ستفعل يا مسكين؟ سينعكس عليك الحال وتصبح
أنت المُدان. كنت مظلوماً بالأمس فصرت ظالماً اليوم. أمسك عليك لسانك وانظر إلى قدرة الله في كونه. لن نبقى صامتين، فهذا لا يصلح يا جماعة. إن هذه المحنة التي نحن فيها الآن من ضياع أمن وغيره هي منحة، فصبر جميل والله المستعان. وبعد ذلك يقول لكم: ما لي أنتم كنتم صامتين؟ لماذا لم تخبرونا؟ إلى الله سنذهب. لكم كل واحد في بيتكم ونقول لكم ونتخاصم معكم ما نحن نقول وجالسون نقول إننا منذ أربعين سنة ولا أحد سمعنا ولا أحد راضٍ أن يسمعنا. هي نفسها كلمتان ومسجلتان على فكرة ولا أحد يسمع ولا أحد راضٍ أن يسمع. كل واحد يظن في نفسه أنه
سلطان فهذا ما يقوله الشيخ وإلى اللقاء. آخراً، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. شكراً لكم.