مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 3 | أ.د علي جمعة

مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 3 | أ.د علي جمعة - إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم، قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: "فأما ربع العبادات فأذكر فيه من خفايا آدابها ودقائق سننها وأسرار معانيها ما يضطر العالم العامل إليه، بل لا يكون من علماء
الآخرة من لا يطلع عليه، وأكثر ذلك مما أُهمِل في فن الفقهيات. نعم، لأن المسلمين لما سمعوا حديث..." جبريل عليه السلام الذي جاء يعلمنا أمر ديننا وسأل رسول الله عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان، قامت طائفة لحماية الإسلام وهو الأحكام وأسموا هذا العلم بالفقه، وقامت طائفة لحماية الإيمان وأسموه بالتوحيد، وقامت طائفة بحماية الإحسان وأسموه التصوف. فالذي ينكر التصوف ينكر جزءاً من الدين لأن النبي صلى. الله عليه وسلم سمى هذا إسلاماً ولم يسمه فقهاً ولا أصول فقه،
كل هذه أشياء حادثة بعد عصر النبوة بالمصطلحات بالعلم وليس بالجهل. إذاً فعندنا توحيد وعندنا فقه وعندنا تصوف. كتاب إحياء علوم الدين أراد أن يجمع بين التصوف وبين الفقه لأن التصوف هو روح الفقه، هو الماء والفقه هو الكوب فلا بد منهما، فإنك لا تستطيع أن تحصل على الماء بدون الكوب، وإذا كان الكوب فارغاً لا قيمة له، لا يحدث لك الري لأنه ليس فيه ماء. فإذاً التصوف هو الماء الذي يجعلك إنساناً، يجعلك مثل سيدنا رسول الله، يجعلك مسلماً صحيحاً، يجعلك
مثل الوردة بين الناس لأنه... في النهاية هناك قلب ورحمة وحب ومعانٍ هكذا، لا يوجد فيها حقد ولا حسد ولا آفات اللسان ولا غير ذلك. إذًا، فمن غير التصوف الذي لن نجده في الفقه - لو قلّبت الفقه كله لن تجد هذا الكلام - لماذا؟ لأنه معتمد على أنك ستكمل، معتمد على أنك... ستذهب لتدرس التوحيد وتدرس التصوف، ثم جاءنا أناس أحدثوا اضطراباً في التوحيد واضطراباً في الفقه وأنكروا التصوف. الله الله! أين أصبح الإسلام؟ ماذا بقي من الإسلام؟ يقول: لا، الإسلام أنا وأنت يا صاحب الآراء الثلاثة، وكأنك مقبول عند الله سبحانه وتعالى، وتترك سلف الأمة وخلفها وعلماءها وأتقياءها وأنقياءها عبر العصور لكي تجلس وتتكلم بلا علم. هذا هراء،
والهراء في القاموس هو الحمق. ما هذا؟ إنه أمر لا يعلم به إلا ربنا. إياكم إياكم أيها المسلمون في كل مكان أن تغتروا بهؤلاء المغرورين الذين ليس لهم ذِكر في كل يوم كما أمرنا رسول الله، فأين القلوب وأين الأنوار وأين الترضي عن السلف؟ ما هذا الذي لا يُعلَم به. إلا أن ربنا هكذا لا، هذا إتلاف للدين. فإذا كنا نريد أن نسمي هذا الكلام من إنكار التصوف ومن الخلط في التوحيد ومن الخلط في الفقه، نسميه تلفاً ولا نسميه سلفاً، نسميه تلفاً لأن سلف الأمة كلمة كبيرة جميلة جيدة عالية القيمة. ولذلك هذا تلف وليس سلفاً، السلف هو خمسمائة. وفجأة
توفي الرجل وهو ينعى على عصره أنهم اهتموا بالفقه أكثر من اللازم على حساب الإحسان ودرجته. نعم، وأما ربع العادات فأذكر فيه من أسرار المعاملات الجارية بين الخلق وأعماقها ودقائق سننها وخفايا الورع في مجاريها، وهي مما لا يستغني عنها متدين. وأما ربع المهلكات فأذكر فيه كل خلق مذموم ورد القرآن بإزالته. وتزكية النفس عنه وتطهير القلب منه وأذكر من كل واحد من تلك الأخلاق حده وحقيقته ثم أذكر سببه الذي منه يتولد ثم الآفات التي عليها تترتب ثم العلامات التي بها
تُعرف ثم طرق المعالجة التي بها منها يتخلص، كل ذلك مقروناً بشواهد الآيات والأخبار والآثار، وأما ربع المنجيات فأذكر فيه كل خُلُقٍ محمودٍ وخصلةٍ مرغوبٍ فيها من خصالِ المقربين والصديقين التي بها يتقرب العبد من رب العالمين، وأذكر في كل خصلةٍ حدَّها وحقيقتها وسببها الذي به تُجتَلب، وثمرتها التي منها تُستفاد، وعلامتها التي بها تُتعرَّف، وفضيلتها التي لأجلها فيها يُرغَب، مع ما ورد فيها من شواهد الشرع والعقل، ولقد صُنِّف. ألّف الناس في بعض هذه المعاني كتباً،
ولكن يتميز هذا الكتاب عنها بخمسة أمور: الأول: حل ما عقدوه وكشف ما أجملوه، الثاني: ترتيب ما بدلوه ونظم ما فرقوه، الثالث: إيجاز ما طولوه وضبط ما قرروه، الرابع: حذف ما كرروه وإثبات ما حرروه، الخامس: تحقيق أمور غامضة اعتاصت على الأفهام لم يتعرض. لها في الكتب أصلاً إذ الكل وإن تواردوا على منهج واحد فلا مستنكر أن يتفرد كل واحد من السالكين بالتنبيه لأمر يخصه ويغفل عنه رفقاؤه أو لا يغفل عن التنبيه ولكن
يسهو عن إيراده في الكتب أو لا يسهو ولكن يصرفه عن كشف الغطاء عنه صارف فهذه خواص هذا الكتاب. مع كونه حاوياً لمجامع هذه العلوم، قبل الإمام الغزالي ألّف أبو طالب المكي كتابه "قوت القلوب"، وأيضاً هناك في هذا المعنى الرسالة القشيرية وكتب كثيرة موجودة وقعت للإمام الغزالي. فَفَعَل هذه الخمسة: حرّرها، حذف المكرر، نظّمها، تكلم عن الغامض ففكّه، تكلم عن أمر لم يذكروه وخطر في باله أنه يُسأل. عنه كثيراً وأنه مدخل للفهم
فذكره وهكذا. وكان الإمام الغزالي واسع الاطلاع لأنه قد باع نفسه للعلم، وكان يعتزل في منارة المسجد ويقرأ كثيراً، وكان نجيباً حافظاً رضي الله تعالى عنه. وكان فقيهاً على مذهب الإمام الشافعي حتى وصل فيه إلى الغاية، فألّف كتاباً اسمه "البسيط" ثم اختصره في "الوسيط". ثم اختصره في الوجيز ثم اختصر الوجيز في الخلاصة فكانت هذه الكتب الأربعة هي أساس مذهب الشافعي حتى أن عبد الكريم الرافعي بعد ذلك عندما شرح كتاب الوجيز وسماه العزيز في شرح كتاب الوجيز فرأى في المنام أنه يلام
أن تسمي كتابك بالعزيز والعزيز اسم من أسماء الله فقام فسماه "فتح العزيز في شرح كتاب الوجيز". كانت قلوبهم رقيقة وكانت رؤاهم طيبة وكانوا متعلقين بالله سبحانه وتعالى، فكانوا نوراً على نور. الحقيقة أنهم كانوا أناساً طيبين. فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين وجعل في أمتنا مثل هؤلاء الأكابر الأتقياء الأنقياء أصحاب الهمم والعلم والتقوى، وكانوا يحبون رسول الله صلى الله. عليه وسلم جداً، والإمام الغزالي لما ألّف هذا كان دقيقاً حتى أنه في "الوجيز" وهو مطبوع في مجلدين، و"فتح العزيز شرح الوجيز" مطبوع أيضاً، كان بعبارة رصينة
حاكمة يعني محكمة، ولذلك هذا الرجل كان من علماء الفقه الكبار. هو قال عندما قالوا له: "الحديث هذا ضعيف"، قال: "بضاعتي في الحديث". مزجاة يعني أنا لست محدثاً ولكن كان يرى أن الاستدلال بالحديث الضعيف جائز، ويرى ذلك كل علماء الأمة أن الاستدلال بالحديث الضعيف جائز. ولذلك نرى الإمام البخاري ألف كتاب الأدب المفرد وفيه الضعيف كثيراً، وألف التاريخ الكبير والأوسط والصغير وفيه الضعيف كثيراً، ولذلك جمع صحيحه حتى يخلو من الضعيف.
كله صحيح ولكن في المعلقات أورد الضعيف أيضاً فدل ذلك على أنه يستدل بالحديث في مكارم الأخلاق. عندما يأتي ويقول: "أحب الأعمال إلى الله أن الله إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه"، ما رأيك في هذا الحديث؟ لا أحد ينكره أبداً، فهو يخبرك أن ربنا... يحب أنك ماذا؟ أن تتقن عملاً. هل في أحد في العالم يقول لا؟ هذا حديث ضعيف. الفقهاء قالوا: نهى رسول الله عن بيع الكالئ بالكالئ، واتفقوا عليها. هذا حديث ضعيف، فيتحول الحديث الضعيف عند قبول الأمة له إلى قاعدة. هل انتبهت؟ حديث
"أنا أبعثك إلى اليمن يا معاذ"، هذا هو حديث. هذا حديث ضعيف لأن في سنده أصحاب معاذ من أهل حمص مجهولين غير معروفين، فأصبح الحديث ضعيفاً. وبعد ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب "المنار المنيف": ولكن تلقته الأمة بالقبول. وما دامت الأمة قد تلقته بالقبول فيمكننا العمل به ولا مانع من ذلك. "كل قرض جر نفعاً فهو ربا" هذا هو الحديث. هذا حديث ضعيف كما يقول الشيخ الباجوري، ومع ضعفه أصبح قاعدة متفقًا عليها. وبعد ذلك، ما هو الدين إلا هكذا، ولذلك فالأحاديث الضعيفة التي وردت في إحياء علوم الدين هي أحاديث يُستدل بمثلها في هذا المقام. ولذلك الإمام
العراقي، سيد المحدثين، شيخ أمير المؤمنين ابن حجر العسقلاني، ألف كتابًا على هذا الكتاب. وأسماء المُغني عن حمل الأصفار في الأصفار، الأصفار التي هي جمع صفر يعني الكتب الثقيلة. في الأسفار يعني في السفر وأنت مسافر، المُغني عن حمل الكتب الكثيرة وأنت مسافر. لكي يكون معك كتاب الإحياء، يجب عليك إذا أردت تخريج أحاديثه أن تحمل ثلاثمائة وأربعمائة كتاب، أنا سأجعلك تحمل. بعض الأوراق ببساطة هكذا، فقام بتأليف "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار". كتاب "إحياء علوم الدين" في جميع طبعاته، إلا طبعة واحدة قديمة من مائة وخمسين سنة، تجد فيها ليس كذلك، وأوردوا فيه "المغني". يعني كل
طبعات "إحياء علوم الدين" معها "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار" وأنت تشتري "الإحياء". علوم الدين اطمأن بها المغني لأنه لا توجد طبعة أبداً في الإحياء طُبعت وحدها. يقول لك هذا الحديث صحيح أخرجه مسلم، أخرجه البخاري، أخرجه أبو داود. هذا الحديث لا أصل له يعني غير وارد كحديث في الحقيقة. والإمام العراقي لم يُكفّر ولم يُفسّق ولم يرفض ولم يمسك الإحياء ويقطعه، بل اعتبر... ذلك خدمة تراكمية شيئاً فشيئاً، مع العلم أن العلم له رحم، ورحم العلم يجعلنا نراكم العلم. فالدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". فانظر الفرق بين الإمام العراقي
العالم المحدث الذي يخدم الكتاب، وبين الإمام المرتضى الزبيدي العالم المحدث الذي يخدم الكتاب، وبين من ابتلانا. الله بهم من المنكرين والرافضين فهم روافض العصر فإنا لله وإنا إليه راجعون والله تعالى أعلى وأعلم.
كثيرة، رسوم محمود رسمي،