مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 31 | أ.د علي جمعة

مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 31 | أ.د علي جمعة - إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين. نقضي هذه اللحظات في كتاب العلم حيث يشرح لنا
أحوال المجتهدين العظام الذين منّ الله عليهم باتباع النبي. المصطفى والحبيب المجتبى صلى الله عليه وسلم وأقامهم في نشر العلم فانتشر وإلى يوم الناس هذا وبعد مئات السنين بقيت أعمالهم لأنها أُسست على العلم وعلى التقوى ولذلك بارك الله في مجهوداتهم وأعمالهم من شدة إخلاصهم من ناحية ومن إتقانهم هذا العمل المتقن الذي تركوه لنا من ناحية أخرى نقرأ. يا شيخ محمد، بسم الله الرحمن الرحيم، قال الإمام أبو حامد الغزالي حجة الإسلام رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين. وسخاء الشافعي رحمه الله أشهر من أن يُحكى، ورأس الزهد السخاء، لأن من أحب شيئاً أمسكه ولم
يفارقه، فلا يفارق المال إلا من صغرت. الدنيا في عينه وهو معنى الزهد، ولذلك فالزاهد لا بد أن تكون الدنيا في يده وإلا لا يكون زاهداً. فالزهد ليس معناه الضعف والفقر. الفقير مضطر أن يسكت وليس لديه ما يفعله، ولكن هذا الفقير إذا تعلق قلبه بالدنيا وأرادها وشعر بأنه محروم منها لم يعد زاهداً. الزهد هو أن تكون الدنيا في يدك ثم تزهد فيها، هذا هو الزهد الحقيقي. ويحكون في هذا حكاية الرجل الذي اعتزل الناس واعتزل الفتنة وجلس بجوار
نهر يصيد سمكة يأكلها وهكذا، وكان يتردد عليه أحد العارفين به من تلاميذه التماساً لعلمه أو تقواه أو بركته، فقال له: أنا ذاهب. المدينة فقال: "إذا، فاذهب إلى فلان في العنوان الفلاني، تجده هناك فسلم عليه". قال له: "حاضر". ثم نزل بعضهم إلى المدينة وبحث عن العنوان، فذهب ووجد قصراً منيفاً، وسأل عن صاحبه فقيل له: "هو في الصيد". فانتظره، فجاء مع حاشية كبيرة في ما يشبه المهرجان، فاعترضه وقال له: "إن فلاناً يلقي إليك السلام". فقال له: "عليك
السلام" وقل له: "أما آن لي أن أترك الدنيا؟" فالرجل اغتاظ، يعني التلميذ هذا اغتاظ. أي دنيا هذه؟ هو جالس على قطعة سمكة بالكاد يحصل عليها أو لا يحصل عليها، والله أعلم. وأنت تقول كل هذا وليست دنيا؟ فغضب وذهب إلى شيخه في المكان الذي اعتزل فيه. وقال له: "يُسلّم عليك، لكن يعني أنا لم يعجبني ولا أشعر بالارتياح". فقال له: "هذا يعني يقول لك إنني أنصحك أن تترك الدنيا". فبكى وقال: "صدق، فأنا عندما أُحضر الصنارة هكذا أكون خائفاً ألّا يخرج السمك وإلا سأجوع. ما زال قلبي متعلقاً بالعطاء ولست
متوكلاً على الله". حقاً توقذاً بالرغم مما رأيته فيه إلا أنه لا يحزن على المفقود ولا يفرح بالموجود، ولو فقد ما هو فيه ولا يزيده ذلك شيئاً مع الله. فإذاً الحكاية ليست بالمظاهر، والزهد يُشترط فيه الوجود. لا بد أن يكون هناك شيء في وجودك، أو معك حتى تزهد فيه، أما إذا لم تكن... معك تزهد في أي شيء زهداً كاذباً؟ فإذا كان الشافعي نعم، معه خمسون ديناراً ومعه عشرة آلاف درهم ويعطي إذا لم يأخذ، فإنما الأمير من أعطى وليس الأمير من أخذ. فإذن الزهد
يستلزم القوة، ويستلزم الجِدَّة أن تكون هناك حاجة موجودة، ويستلزم الغنى حتى تكون موصوفاً بالزهد، وليس الزهد يقتضي. الضعف وقلة الحيلة والفقر وما إلى ذلك ليس زهدًا بقلة حيلة. اقرأ ما يدل على قوة زهده وشدة خوفه من الله تعالى وانشغال همته بالآخرة، فقد روي أن سفيان بن عيينة روى حديثًا في الرقائق فأُغمي على الشافعي، فقيل له: قد مات. فقال: إن مات فقد مات أفضل أهل زمانه. وما روى عبد الله بن محمد البلوي قال: كنت أنا وعمر بن نباتة جالسَيْن نتذاكر العباد والزهاد، فقال لي
عمر: ما رأيت أورع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه. فخرجت أنا وهو والحارث بن لبيد إلى الصفا، وكان الحارث تلميذاً لصالح المري. فافتتح يقرأ وكان حسن الصوت فقرأ هذه الآية: "هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون". فرأيت الشافعي رحمه الله وقد تغير لونه واقشعر جلده واضطرب اضطراباً شديداً وخرّ مغشياً عليه، فلما أفاق جعل يقول: "أعوذ بك من مقام الكاذبين وإعراض الغافلين، اللهم لك خضعت قلوب العارفين وذلت لك رقاب". المشتاقين، إلهي هب لي جودك وجللني بسترك واعف
عن تقصيري بكرم وجهك. قال: ثم مشى وانصرفنا. فلما دخلت بغداد، وكان هو بالعراق، جلست على الشاطئ أتوضأ للصلاة، إذ مر بي رجل فقال لي: "يا غلام، أحسن وضوءك، أحسن الله إليك في الدنيا والآخرة". فالتفت فإذا أنا برجل يتبعه جماعة، فأسرعت. في وضوئي وجعلتُ أقفو أثره فالتفت إليّ فقال: "هل لك من حاجة؟" فقلت: "نعم، تعلمني مما علمك الله شيئًا". فقال لي: "اعلم أن من صدق الله نجا، ومن أشفق على دينه سلم من الردى، ومن زهد في الدنيا قرّت عيناه بما يراه من ثواب الله تعالى غدًا. أفلا أزيدك؟" قلت: نعم قال: من
كان فيه ثلاث خصال فقد استكمل الإيمان، من أمر بالمعروف وائتمر، ونهى عن المنكر وانتهى، وحافظ على حدود الله تعالى. ألا أزيدك؟ قلت: بلى. فقال: كن في الدنيا زاهداً وفي الآخرة راغباً، واصدق الله تعالى في جميع أمورك تنجُ مع الناجين. ثم مضى، فسألت: من هذا؟ فقالوا: هو الشافعي فانظر إلى سقوطه مُغشياً عليه ثم إلى وعظه كيف يدل ذلك على زهده وغاية خوفه، ولا يحصل هذا الخوف والزهد إلا من معرفة الله عز وجل، فإنه إنما يخشى الله من عباده العلماء، ولم يستفد الشافعي رحمه الله هذا الخوف والزهد من علم كتاب
السلم والإجارة وسائر كتب. الفقه بل هو من علوم الآخرة المستخرجة من القرآن والأخبار إذ حكم الأولين والآخرين مودعة فيهما. نعم، أوضح من الواضحات وأجلى من البينات. نعم، تفضل. وأما كونه عالماً بأسرار القلب وعلوم الآخرة، فتعرفه من الحِكَم المأثورة عنه. رُوي أنه سُئِلَ عن الرياء فقال على البديهة: "الرياء فتنة عقدها الهوى حيال". أبصار أبصار قلوب العلماء فنظروا إليها بسوء اختيار النفوس فأحبطت أعمالهم. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: "إذا أنت خفت على عملك العُجب، فانظر رضا من تطلب، وفي أي ثواب ترغب، ومن
أي عقاب ترهب، وأي عافية تشكر، وأي بلاء تذكر، فإنك إذا تفكرت في واحدة من هذه الخصال صغر في..." عينك عملك فانظر كيف ذُكِرت حقيقة الرياء وعلاج العُجب وهما من كبار آفات القلب. وقال الشافعي رضي الله عنه: "من لم يُصلِح نفسه لم ينفعه علمه". وقال رحمه الله: "من أطاع الله تعالى بالعلم نفعه سره". وقال: "ما من أحد إلا وله محب ومبغض، فإذا كان كذلك فكن مع أهل". طاعة الله عز وجل، وروي أن عبد القاهر بن عبد العزيز كان رجلاً صالحاً ورعاً، وكان يسأل الشافعي رضي الله عنه عن مسائل في الورع، والشافعي رحمه الله يقبل عليه لورعه.
وقال للشافعي يوماً: أيهما أفضل: الصبر على المحنة أو التمكين؟ فقال الشافعي رحمه الله... التمكين درجة الأنبياء ولا يكون التمكين إلا بعد المحنة، فإذا امتُحِن صبر، وإذا صبر مُكِّن. ألا ترى أن الله عز وجل امتحن إبراهيم عليه السلام ثم مكّنه، وامتحن موسى عليه السلام ثم مكّنه، وامتحن أيوب عليه السلام ثم مكّنه، وامتحن سليمان عليه السلام ثم مكّنه وآتاه مُلكاً. والتمكين أفضل الدرجات. قال الله عز وجل: "وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض"، وأيوب عليه السلام بعد المحنة العظيمة مُكِّن، قال الله تعالى: "وآتيناه أهله ومثلهم معهم"
الآية. فهذا الكلام من الشافعي رحمه الله يدل على تبحره في أسرار القرآن واطلاعه على مقامات السائرين إلى الله تعالى من الأنبياء والأولياء، وكل ذلك من علوم. الآخرة نعم، إذاً فهو سُئل عن المحنة وعن الصبر وعن التمكين، فرأى أن الإنسان يُمتحن، فإذا وفقه الله للصبر صبر، فيمكّنه الله سبحانه وتعالى. ولكن بعد التمكين هناك الامتثال: "الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور". فالتمكين نعمة يليها فعل. وامتثال للتكليف، فقالوا: التمكين تشريفٌ والامتثال
تكليفٌ، وكلُّ تشريفٍ معه تكليفٌ، وكلُّ تكليفٍ فيه تشريفٌ، فهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ. فالتمكين هو - طبعاً الشافعي رضي الله تعالى عنه أجاب على السؤال الذي سُئِل - ولكن هذه ليست نهاية الدرجات، الدرجات فوق هذا. نعم، وقيل للشافعي رحمه الله: متى يكون الرجل عالماً؟ قالَ إذا تحقَّقَ في علمٍ فَعَلِمَهُ وتعرَّضَ لسائرِ العلومِ فنظرَ فيما فاتَهُ فعندَ ذلكَ يكونُ عالماً، يعني العلومَ المساعِدةَ، يعني المنهجَ بكُلِّهِ، وهذا هو الذي اتَّبَعَهُ العُلماءُ وتركَتْهُ النابتةُ، نعم، فإنَّهُ قيلَ لجالينوسَ: إنَّكَ تأمُرُ للدَّاءِ الواحدِ
بالأدويةِ الكثيرةِ المُجْمَعَةِ، فقالَ: إنَّما المقصودُ منها واحدٌ وإنَّما يُجْعَلُ معهُ غيرُهُ. لتسكن حدته لأن الأفراد قاتلة، فهذا وأمثاله مما لا يُحصى يدل على علو رتبته في معرفة الله تعالى وعلوم الآخرة. نتحدث عن قراءة المفرد وقراءة المركب، والنابتة اكتفت بالمفرد، فتراهم يقرؤون في خط واحد، والأمر ليس كذلك، والله أعلم بما هنالك. هذه شبكة إذا رأيت الشبكة. وجدتُ فيها خيوطاً ولكنها خيطٌ هكذا وخيطٌ هكذا وخيطٌ هكذا، فهي شبكةٌ وهي علاقاتٌ بينيّة. أصحابُنا من النابتة يقرؤون خطاً واحداً ويظنون
أنفسهم قد تعلّموا هذا الخط. كما يقول جالينوس في الطب: "قاتلٌ لأنه أفرد شيئاً واحداً، عرف شيئاً وغابت عنه أشياء"، ومن هنا يظن نفسه قد عرف وهو لم يعرف. يعرف ويظن نفسه قد استوعب، هو استوعب خطاً ولكنه لم يستوعب بقية الشبكة، فالعلم شبكة وليس خطاً. ولذلك فإن النابتة قد أتت بالمفرد المهلك، وتركت الشبكة المنجية. والله تعالى أعلى وأعلم. وإلى لقاء آخر، نستودعكم
الله.