مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 33 | أ.د علي جمعة

مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 33 | أ.د علي جمعة - إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين. وهذا الكتاب نحتاج إليه في عصرنا الحاضر لأنه يضع أيدينا
على مفاتيح الشريعة والسلوك والطريق إلى الله سبحانه. وتعالى هذا الكتاب من المهمات واسمه يدل عليه، ولما أرادت طائفة من العلماء أن تنهض بالشرق الإسلامي فإنها أقرت أمرين: الأمر الأول اللغة، وأنه لا بد من سلامة اللغة، ولذلك قام عبد القادر البغدادي فألف عمقاً جديداً في اللغة، ألف كتابه "خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب" وهو يشرح الشاهد. ومن أين أتى ينتمي إليها ومن القائل من
هو في أي عصر كان ما ترجمته حتى تتصوره، فإذا بك بعد أن تنتهي من هذا الكتاب قراءةً ودراسةً تعيش وكأنك تعيش مع الأصمعي والخليل بن أحمد وسيبويه. أراد أن يحيي بذلك ملكة اللغة العربية وفي كتب كثيرة ألفها منها شرح بانة. سعاد وهي القصيدة التي أحب النبي من كعب أن ينشدها في مسجده، بل إنه قام فخلع بُردته الشريفة وأجلس كعب بن زهير عليها تعظيماً لشأنه. والآن نرى كثيرين ينكرون المديح وينكرون تلاوة المديح في المساجد كما كان رسول الله يحب ذلك، لماذا؟ لأنهم لا يحبون، لا
يحبون، ماذا لا يحبون؟ لا أحد منهم يحب رسول الله ولا يحبون ما يفعله رسول الله ولا يحبون الدليل الوارد عن رسول الله ولا يحبون مديحاً من عدل. لم نرَ واحداً من النابتة يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يحفظ مديحاً فيه أو أنه يتلوه بصوت شجي. لم نرَ هذا ولن نراه أبداً. نراه لماذا لأنهم اختاروا لأنفسهم أن يكونوا قساة القلوب وأن لا يحبوا شيئاً ولا أحداً ولا أنفسهم حتى، ولذلك فنحن على درب رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرون، وسنتمسك بسنته وما ورد عنه. كان يحب الشعر والمديح
يسمعه من حسان بن ثابت ومن غيره من الشعراء. كان رسول الله. صلى الله عليه وسلم كان أجمل الناس وكان أحلى الناس وكان أعظم الناس، لكنهم شوهوا شكلاً وموضوعاً، فشعثت لحاهم وقالوا هكذا كان رسول الله، ورسول الله كانت لحيته بالسوية، كان يأخذ من طولها وعرضها كما ثبت في سنن أبي داود، وارتدوا ثياباً عجيبة غريبة كرهت الناس بالسلف الصالح وكرهت الناس فيما يفعلون. وكان رسول الله عليه سَمْتُ النبوة، كان صلى الله عليه وسلم وهو أجمل الناس، كان يهابه أصحابه أن ينظروا إليه. فلما سأل التابعون الصحابة الكرام: "صِفوا
لنا رسول الله"، لأن الإنسان إذا اشتاق إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم فإنه يحب أن يعرف صفته، ففكرت الصحابة كيف كان شكله. فلو ذهبوا وهم لا يعرفون شكله، قالوا: والله ما كان أحدنا يتجرأ فينظر إلى وجهه صلى الله عليه وسلم. وجلس التابعون يبحثون عن وصف رسول الله. هذا شيء غير معقول، بيننا وبينه جيل ولا نستطيع أن نصفه، حتى وجدوا أم معبد امرأة رأته في الجاهلية في جاهليتها وهو. في رحلة الهجرة وَصَفَته أحسن وصف وأدق، ووجدوا
هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنه وكان ربيبه لأنه ابن السيدة خديجة عليها السلام، فوصفه لأنه تربى في بيته الشريف صلى الله عليه وسلم. رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحلى الناس، فكيف يكون التبليغ عنه من أسوأ خلق؟ الله وهكذا سيعدون هؤلاء من الصادين عن سبيل الله يوم القيامة وقام الناس بعد ذلك بالأخلاق الكريمة فشرح الإمام المرتضى الزبيدي رحمه الله تعالى القاموس المحيط في كتاب ماتع كبير اسمه تاج العروس في شرح القاموس وشرح أيضا إحياء
علوم الدين في كتاب ماتع كبير اسمه إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين وذلك حتى ينهض بالأمة ولذلك فنحن بأشد الحاجة إلى شرح كتاب إحياء علوم الدين وإلى إحياء اللغة حتى يستقيم بها الفكر. هذه هي الوصفة التي وصفها علماء القرن الثامن عشر الميلادي في أواخره الشيخ المرتضى المتوفى سنة ألف ومائتين وخمسة قبل دخول الفرنسيين بثماني سنوات وهو من طائفة. وتلاميذ عبد القادر البغدادي دخلوا فرنسا الفرنسية وقتلوا علماء الأزهر، كانوا يقتلون خمسة كل يوم، وأشار إلى ذلك الجبرتي في آثاره في تاريخه، وأشار
إلى ذلك أيضاً نابليون في مذكراته أن هؤلاء الناس لا يأتون إلا بالقتل، فقتل في مذبحة عظيمة. نقول هذا لأولئك الذين يدّعون أن الحملة الفرنسية جاءت. للتنوير بل جاءت للتخريب وجاءت للقتل ولا نحسن عرض بضاعتنا وإلا لكنا طالبنا فرنسا هذه بتعويضات كما فعل الآخرون أو بالاعتذار على الأقل حتى نتبين أن هذا لم يكن تطوراً وإنما كان تدهوراً بعدما قتل ألفاً وخمس مائة من علماء الأزهر أصحاب النهضة، رحل وذهب، فيقولون ذهب، لا أدري. لأنه أي شيء هذه كلها حجج لكن هو انتهى من المهم أن
أصحاب النهضة قُتِلوا، وبعد ذلك الناس الآن يقولون لك: هل الورطة التي نحن فيها هذه من أين أتت؟ أتت من أنهم قتلوا علماءنا، فأثَّر هذا مائتي سنة ونحن جالسون نلملم أنفسنا، وكلما لملمنا أنفسنا كلما انفرطنا مرة أخرى. أخرى ولذلك فإن قراءة إحياء علوم الدين من المهمات الكبيرة حتى تعود إلينا قلوبنا وأرواحنا وعقولنا ونفسياتنا وشخصيتنا، نعود مرة أخرى إنسانًا للحضارة، إنسانًا يُعمر ولا يدمر، إنسانًا يعبد الله سبحانه وتعالى على الحق، إنسانًا يزكي نفسه. مع كتاب العلم من إحياء علوم الدين نعيش هذه اللحظات. اقرأ يا شيخ. رحمة
وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين، وأما الإمام مالك رضي الله عنه فإنه كان أيضًا متحليًا بهذه الخصال الخمس، فإنه قيل له: "ما تقول يا مالك في طلب العلم؟" فقال: "حسن جميل، ولكن انظر إلى الذي يلزمك من حين تصبح". إلى حين تُمسي فالزمه، وكان رحمه الله تعالى مبالغاً في تعظيم علم الدين، حتى كان إذا أراد أن يُحدّث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرّح لحيته واستعمل الطيب وتمكّن من الجلوس بوقار وهيبة، ثم حدّث. فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى
الله عليه. وآله وسلم وقال مالك: "العلم نور يجعله الله حيث يشاء، وليس بكثرة الرواية". وهذا الاحترام والتوقير يدل على قوة معرفته بجلال الله تعالى. هذا هو الإمام مالك، وقد أخّره رتبة لكنه هو متقدم زمناً ومكانة، فإنه كان أستاذاً للإمام الشافعي. والإمام مالك إمام أهل المدينة، وكانت فيه هذه الخصال الخمس. التي لا تكتفي بعلوم الدنيا بل تضم إليها ولا بد علوم الآخرة، فكان كما سمعنا يتكلم عما أسماه العلماء بعد ذلك بعمل اليوم
والليلة، وهو ما يلزمك منذ أن تصبح إلى أن تنام، وهذا ألّف فيه الإمام النسائي وألّف فيه ابن السني وألّف فيه السيوطي وألّف فيه كثير من العلماء. عَبْرَ العُصُورِ وَسَمَّوْهُ عَمَلَ اليَوْمِ وَاللَّيْلِ يَقْصِدُونَ بِهِ عَلاقَتَكَ مَعَ اللهِ فِي دُعَائِكَ وَذِكْرِكَ وَمُنَاجَاتِكَ فِي ارْتِبَاطِكَ فِي تَوَكُّلِكَ كَيْفَ يَقُولُ وَمَا الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّبَاحِ عِنْدَمَا يَقُولُ أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلْكُ لِلَّهِ وَعِنْدَمَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ فَيَقُولُ بِسْمِ اللهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قوة إلا بالله، عندما كان يدخل المسجد فيقول: "اللهم افتح لنا من أبواب رحمتك"، وعندما
يخرج يقول: "اللهم افتح لنا من أبواب رزقك". وهكذا كان دائماً إذا ما جلس ثم قام وانفض المجلس يقرأ سورة العصر: "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر". وكان الإمام الشافعي يقول: لو لم ينزل في القرآن سواها لكفت إذا هو تدبرها ويعرف معناها. وأُطلقت الفاتحة فإنها أم الكتاب، وجمعت وحوت علوماً كثيرة في لفظ قليل، حتى قال الإمام علي: إني لو أردت أن أملي وِقْر بعير - يعني كتباً يحملها بعير، يحملها
جمل - في تفسير الفاتحة لفعلت، فهي... السبع المثاني وهي القرآن وهي الفاتحة وهي الكافية وهي الشافية وهي الوافية وهي أم الكتاب وهكذا، وهي ركن الصلاة عند الشافعي وعند غيره. الحاصل أن الإمام مالك مع تبحره في العلوم ومع شهادة الشيوخ له بالعلم وبالتقوى وبالفتوى، فإنه كان ينبه إلى عمل اليوم والليلة وأن هذه الحالة التي كان. عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلق قلبه الشريف برب العالمين هي التي يجب أن تلزمها، فهو يشير بذلك إلى علوم الآخرة، لا بد أن تنضم إلى علوم الدنيا، نعم. وأما إرادته وجه الله تعالى
بالعلم فيدل عليه قوله: "الجدال في الدين ليس بشيء"، ويدل عليه قول الشافعي. رحمةُ الله، إني شهدتُ مالكاً وقد سُئل عن ثمانٍ وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: "لا أدري". ومن يُرِد غير وجه الله تعالى بعلمه، فلا تسمح نفسُه بأن يُقِرّ على نفسه بأنه لا يدري. ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا ذُكِرَ العلماء فمالكٌ النجمُ الثاقب" وما أحدٌ أمنّ. علي من مالك وروي أن أبا جعفر المنصور منعه من رواية الحديث في طلاق المُكرَه، ثم دسَّ عليه من يسأله، فروى على ملأ من الناس: "ليس على مستكرَهٍ طلاق"، فضربه بالسياط، ولم يترك رواية الحديث.
وقال مالك رحمه الله: "ما كان رجل صادقاً في حديثه ولا يكذب إلا متعب عقله". ولم يصبه مع الهرم آفة ولا خرف، فمن حفظ هذه الأعضاء في الصغر لله حفظه الله عليها في الكبر، والإمام مالك كان لا يخاف في الله لومة لائم، وكان أبو جعفر المنصور يقول له: هلك الناس ولم يبق إلا أنا وأنت من المجتهدين، لأن أبا جعفر كان يعد نفسه من مجتهداً وهو عالمٌ كبير، لكنَّ شهوة الحكم أعمت قلبه حتى يمدَّ يده على الإمام، وذلك أنه رأى انتظام المعاش مقدماً على العدل،
وهذا خطأ يقع فيه الحكام، وأنه هو أساس المعاش والارتياش. المعاش يعني أساس المعيشة، والارتياش يعني الوفرة، فإذا أراد الحاكم المخلص لقومه المعاش أو الارتياش فعليه بالعدل، ولكن... يأتي الشيطان فيوسوس له أنه يمكن أن يظلم حتى يرتكب أخف الضررين، وقضية أخف الضررين لا يفعلها إلا المجتهد، ولذلك رأينا هارون الرشيد بعد ذلك يتوسل إلى مالك أن يجعل الموطأ يُعلَّق على الكعبة ويدعو إليه الناس، وأن يصنع منبر رسول الله من اللؤلؤ والمرجان، وأن يجعل نافعاً النعيم
إماماً. في المسجد الحرام النبوي فقال: "يا أمير المؤمنين، لا أرى ذلك". انظر إلى قلبه الصافي، بعد أن ضربه أبوه قال: "لا أرى ذلك، فإني لا أرى أن تحرم الناس أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم". والنابتة الآن يخرجون فيحرّمون التبرك، وهذا عجب عجاب وأمر مُستراب، كيف يحرمون ما جاءت... لكنه إذا جئت لأحدهم يقول لك: "لا، لسنا نحن، هؤلاء الذين بجوارنا، الدكان الذي بجوارنا، هم الذين يحرِّمون". حسناً، لدينا شعرة للنبي، أتحب أن تُحرِّمها؟ يضحك هكذا كالساخر، الله! شيء غريب. كانت نابتة غيرت الدين، فلا يهتمون ولا
يريدون، ولكن الإمام مارك كان يريد، بل قال: "فاتني العطاء". قال: ولماذا؟ قال: رأيته يُقبِّل الحجر الأسود، يعني الحجر الأسود في المنبر كان يُقبِّله عطاء باعتبار المجاورة، فظن مالك أن هذا جهل وهو شاب، ففاته عطاء من غير أن يروي عنه، فكان يتحسر طوال حياته ويقول: فاتني عطاء. قالوا: لماذا؟ ما الذي جعلك تفوت عطاء؟ قال: كان يُقبِّل الحجر الأسود، إذن هو سيدنا عطاء. التابعي الكبير إمام الأئمة كان يقبل الحادث، فإذا رأيت أحداً يقبل حادثاً من أجل الجوار، أمرُّ على الديار، ديار ليلى، أقبل ذا الجدار وذا الجدار، وما حب الديار
شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار، فراه أوقعك في الشرك، ثم أوقعك في الكفر، ثم أخرجك من الملة، واعتبر أن الذي... بينك وبينه إنما يتعلق بأصل الإسلام، سبحان الله، لا إله إلا الله. لقد سلبوا العقول. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.