مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 34 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين. وهو يتكلم في كتاب العلم الذي جعله أول كتاب في إحياء علوم الدين ليكون المدخل الصحيح للعبادة والمعاملة. والتخلي والتحلي بالأخلاق الحميدة مع هذا الكتاب إحياء علوم الدين وكتاب العلم يصف لنا أحوال الأئمة الكرام وممن وقفنا على حالهم الإمام الشافعي ثم الإمام مالك، والإمام مالك توفي
في سنة مائة وأربع وسبعين من الهجرة النبوية الشريفة، وكان الإمام الشافعي حينئذ قد بلغ من العمر أربعاً وعشرين سنة، نعم مائة. أربعة وسبعين تسعة تسعة وسبعين مائة تسعة وسبعين كان عمره تسعة وعشرين سنة يعني طيب العهده علي الشيخ محمد، وسفيان الثوري مائة أربعة وستين، نسي. طيب الإمام الشافعي أدركه إدراكاً بليغاً وحضر عنده
وهو ابن خمس عشرة عاماً ووجده قد حفظ الموطأ، والموطأ ألفه مالك في أربعين سنة، ولذلك كثر رواته. وممن رواه وعلى قمتهم من سيد الرواة الإمام الشافعي، الإمام الشافعي يروي الموطأ عن مالك، وهي رواية متفردة غير رواية يحيى بن يحيى الليثي التي شاعت وذاعت في الأوساط. وممن رواه محمد بن الحسن الشيباني، وطُبعت هذه الرواية، لكن رواية الشافعي لم تصل إلينا، وفيها فروقات بينها وبين رواية. يحيى بن يحيى وروايات كثيرة بلغت أربعين رواية، فكان مالك عالماً متمكناً
متبحراً تقياً نقياً، وضم إلى علوم الدنيا والظاهر التي بها المعاش والارتياش علوم الآخرة، ووصف الإمام الغزالي هذا النار وقال: اشترِ بها داراً، فأخذها ولم ينفقها. فلما أراد الرشيد السفر قال لمالك رحمه الله: ينبغي أن تخرج معنا فإني...
عزمت على أن أحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان رضي الله عنه الناس على القرآن، فقال له: أما حمل الناس على الموطأ فليس إليه سبيل، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا، فعند أهل كل مصر علم، وقد قال صلى الله. عليه وآله وسلم: "اختلاف أُمتي رحمة". هذا الحديث ذكره الإمام البيهقي في رسالته الأشعرية تعليقاً وأسنده في المدخل من حديث ابن عباس بلفظ: "اختلاف أصحابي لكم رحمة"، وإسناده ضعيف. وأما الخروج معك فلا سبيل إليه. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المدينة خير لهم
لو كانوا يعلمون". وقال... عليه الصلاة والسلام: "المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد، وهذه دنانيركم كما هي، إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها". يعني أنك إنما تكلفني مفارقة المدينة لما اصطنعته إليّ، فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فهكذا كان زهد مالك في الدنيا ولما حملت. إليه الأموال الكثيرة من أطراف الدنيا بانتشار علمه وأصحابه، كان يفرقها في وجوه الخير، ودلّ سخاؤه على زهده وقلة حبه للدنيا. وليس الزهد فقد المال، وإنما الزهد فراغ القلب عنه. ولقد كان سليمان عليه السلام في ملكه من الزهاد،
ويدل على احتقاره للدنيا ما روي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: رأيت على باب مالك مهراً من أفراس خراسان، ويقال مصر، ما رأيت أحسن منه. فقلت لمالك رحمه الله: ما أحسنه! فقال: هو هدية مني إليك يا أبا عبد الله. فقلت: دع لنفسك منها دابة تركبها. فقال: إني أستحيي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها نبي الله صلى الله. عليه وآله وسلم بحافر دابة، انظر إلى سخائه إذ وهب جميع ذلك دفعة واحدة، وإلى توقيره لتربة المدينة النابتة. يريدون هدم القبة الخضراء. كنا
في مدينة رسول الله وفي مسجده، وكان أحد الأتراك يُصلح شيئاً في الحائط في الرخام ويستعمل الإزميل والمطرقة فيُحدث شيئاً من الضجيج، فذهب إليه أحدنا وقال: له: "أنت تُحدِث ضجيجًا بجوار سيدنا صلى الله عليه وسلم، والأنبياء أحياء في قبورهم"، ففزع الرجل وذهب وأتى بوسادة. انتهى. وأتى بوسادة ووضعها على الإزميل، وأخذ يعمل برفق حتى لا يُحدِث
صوتًا فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم. هكذا شأن أهل الإيمان، أنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم. النابتة يراهم يقفون وكأنهم رؤوس الشياطين والعياذ بالله تعالى، يصدون هذا ويشتمون هذا ويدفعون هذا، لماذا؟ على مقربة سنتيمترات من سيدنا صلى الله عليه وسلم. حكم الله عليهم بهذا، حكم الله عليهم بأن يكونوا جفاةً قساةً وأن يتحملوا وزر إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في زواره. وضيوفه أو في حالة الشريف مع الله سبحانه وتعالى
حكم الله عليهم، يعتقدون أنه مات، انتهى أمره مات، وأنه لم يعد نبياً، وهذا كفر. النبي صلى الله عليه وسلم هو نبي إلى يوم القيامة ولا يؤذى، ولكن هذه النابتة حتى ترى أعينهم غائرة ضائعة لا تنظر إلى شيء لو نظرت إليه. فإذا أحوالهم رديئة وليست مرضية، هي رديئة وليست مرضية. الإمام
مالك كان مؤدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يسير في المدينة حافياً. وورد عن السلف الصالح أنهم ساروا في المدينة تبركاً بترابها حفاةً، وكان أهل الله إذا ما شارفوا المدينة خلعوا العمامة أو القلنسوة أو ما... على رؤوسهم تأدبًا وتخشُّعًا عنه في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نبتت هذه النابتة اللعينة، فإذا بها تجعل كل ذلك بدعة، فقست القلوب، وأظلمت القلوب، وأُغلقت الأبواب، فإنا لله وإنا إليه راجعون. أحدهم سمعناه وهو
يخرج القيح من فمه، والعياذ بالله تعالى، ويقول وهو يتكلم عن التخشع. وعن الخشوع والدخول إلى سيدنا رسول الله ثم فجأة يقول إذا وصلت إلى القبر إياك أن تشرك. آه تشرك في ماذا أيها الأحمق؟ تشرك في ماذا هذا سيد الخلق؟ وتقول له ادعُ لي. إذاً أقول لمن؟ أأقول لأبيك؟ ادعُ لي. إذاً أقول لمن؟ "تعرض علي أعمالكم فإن وجدت خيراً استغفرت الله وإن..." وجدت غير ذلك فإن وجدت خيراً حمدت الله وإن وجدت غير ذلك استغفرت لكم. أقول قول الله: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم
حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً". قبلها يقول الله سبحانه وتعالى: "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً" الآن هذه نُسِخَت. الآن هذه هل هي من الأشياء التي تُنسي! هذا النسخ لا يكون فيه هذا، وهل هذه الآية نُسِخَت!؟ فما الذي نسخها ما زالت مستمرة إلى يوم الدين، ولذلك ترى الجهل والجفاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. مع تلك النابتة، ربنا يشرح صدوركم ويبعدكم عن هذا البلاء. هذا بلاء شديد مُدبّر، هذا بلاء مُدبّر. ربنا يشرح صدوركم ويبعدكم عن هذا ويُعلّق قلوبكم بالله وبحب رسول الله صلى
الله عليه وسلم. اقرأ يا شيخ محمد، ويدل على إرادته بالعلم وجه الله تعالى واستحقاره للدنيا ما روي عنه أنه. قال: دخلتُ على هارون الرشيد فقال لي: "يا أبا عبد الله، ينبغي أن تختلف إلينا حتى يسمع صبياننا منك الموطأ." قال: فقلتُ: "أعزَّ الله مولانا الأمير، إن هذا العلم منكم خرج، فإن أنتم أعززتموه عزَّ، وإن أنتم أذللتموه ذلَّ، والعلم يُؤتى ولا يأتي." فقال: "صدقت، اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا." مع الناس إذا أعز الله العلم وجعله يُؤتى ولا يأتي، وهذا تعليم من مالك لعلماء الأمة ألا يهينوا أنفسهم
مع الأغنياء ومع الحكام ومع أصحاب المصالح وما إلى ذلك. من أراد أن يأتي المسجد فعليه أن يأتي، ومن لم يرد فذلك أمره مع ربه، أما التأويل فهذا... لا حاجة لنا به. نعم وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقد كان أيضًا عابدًا زاهدًا عارفًا بالله تعالى خائفًا منه مريدًا وجه الله تعالى بعلمه. فأما كونه عابدًا فيُعرف بما رُوي عن ابن المبارك أنه قال: كان أبو حنيفة رحمه الله له مروءة وكثرة صلاة. وروى حماد بن أبي... سليمان أنه كان يحيي الليل كله، وروي أنه كان يحيي
نصف الليل، فمر يوماً في طريق فأشار إليه إنسان وهو يمشي، فقال لآخر: "هذا هو الذي يحيي الليل كله"، فلم يزل بعد ذلك يحيي الليل كله. وقال: "أنا أستحيي من الله سبحانه أن أُوصف بما ليس فيَّ من عبادته". وأما زهده فقد روي عن الربيع بن عاصم قال أرسلني يزيد بن عمر بن هبيرة فقدمت بأبي حنيفة عليه فأراده أن يكون حاكماً على بيت المال فأبى فضربه عشرين سوطاً فانظر كيف هرب من الولاية واحتمل العذاب. قال الحكم بن هشام الثقفي حُدِّثتُ بالشام حديثاً في أبي حنيفة أنه كان من أعظم الناس أمانةً،
وأراده السلطان على أن يتولى مفاتيح خزائنه أو يضرب ظهره، فاختار عذابهم له على عذاب الله تعالى. وروي أنه ذُكِر أبو حنيفة عند ابن المبارك، فقال: أتذكرون رجلاً عُرضت عليه الدنيا بحذافيرها ففرّ منها؟ وروي عن محمد بن شجاع عن بعض أصحابه أنه قيل لأبي حنيفة: قد... أمرَ لكَ أميرُ المؤمنينَ أبو جعفرٍ المنصورُ بعشرة آلافِ درهمٍ. قال: فما رضيَ أبو حنيفةَ. قال: فلما كانَ اليومُ الذي يُتوقَّعُ أن يُؤتى بالمالِ فيه، صلّى الصبحَ ثمَّ تغشّى بثوبِهِ فلم يتكلّم. فجاءَه رسولُ الحسنِ بنِ قحطبةَ
بالمالِ فدخلَ عليهِ فلم يُكلِّمْهُ، فقالَ بعضُ مَن حَضَرَ: ما يُكلِّمُنا إلا بالكلمةِ. بعد الكلمة أي هذه عادته فقال ضعوا المال في هذا الجراب في زاوية البيت ثم أوصى أبو حنيفة بعد ذلك بمتاع بيته وقال لابنه إذا مت ودفنتموني فخذ هذه البدرة واذهب بها إلى الحسن بن قحطبة فقل له خذ وديعتك التي أودعتها أبا حنيفة قال ابنه ففعلت ذلك فقال الحسن رحمة الله على أبيك، فلقد كان شحيحاً على دينه. وروي أنه دُعي إلى ولاية القضاء فقال: "أنا لا أصلح لهذا". فقيل له: "لِمَ؟". فقال: "إن كنت صادقاً فما أصلح لها، وإن كنت كاذباً فالكاذب لا يصلح للقضاء". والله
تعالى أعلم وأعلم. وإلى لقاءٍ آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة وبركاته.