مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 35 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع إحياء علوم الدين لإمام الأئمة وبدر التتمة حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى، وفي كتاب العلم وهو يشرح أحوال الأئمة المجتهدين وأنهم كانوا يخلصون العبادة
لله وكانت قلوبهم معلقة بالله وكانوا يفعلون الشيء. لوجه الله ولم يقتصروا على ما يفيد عمارة الدنيا وهو الفقه، بل إنهم أيضاً أرادوا عمارة الآخرة، فذكر طرفاً مما يدل على ذلك ونحن نستمع. وبذكر الصالحين تتنزل الرحمات وترق القلوب وتحدث همة عند الإنسان لتقليدهم أو لأخذ شيء منهم، على حد قول القائل: "وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم..." التشبه بالرجال فلاح، فلنتشبه بأولئك الصالحين عسى الله سبحانه وتعالى
أن ينفعنا بهم في الدنيا. وقد قال ابن جريج: "قد بلغني عن كوفيكم هذا النعمان بن ثابت أنه شديد الخوف لله تعالى". وقال شريك النخعي: "كان أبو حنيفة طويل الصمت دائماً". الفكر قليل المحادثة للناس،
فهذا من أوضح الأمارات على العلم الباطني والاشتغال بمهمات الدين، فمن أوتي الصمت والزهد فقد أوتي العلم كله. فهذه نبذة من أحوال الأئمة الثلاثة: الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى كان زاهداً، وليس معنى الزهد القلة ولا الفقر ولا عدم السعة، بل إن ملابسه التي كان... يُقال إنها كانت تُقدَّر بنحو أربعين ديناراً، والأربعون ديناراً تعني أربعين ألف جنيه، لأن الدينار يزن أربعة جرامات وربع، أي نصف جنيه ذهب وزيادة قليلة. من أربعين إلى خمسة وأربعين ألف. تخيل أنك ترتدي بدلة،
غاية ثمن البدلة قد يصل إلى عشرة أو اثني عشر ألفاً، فلا توجد بدل أغلى من ذلك. من هكذا في العالم بريوني أغلى بدلة في العالم اسمها إيه؟ ما بريوني إيطالي والبريوني هذه تصل في الحدود هذه يعني في حدود اثني عشر ألفاً خمسة عشر ألفاً حيث أنه يلبسها أغنياء الأغنياء فقط، ما هناك شيء الآن، ماذا سيفعلون به؟ من أين سيحضرونه؟ إنما كانت ملابس أبو... حنيفة أربعون ألف جنيه تمسه أربعون ألف جنيه والدنيا في يده وليست في قلبه. القضية ليست قضية أن الزهد معناه التقشف والتخشن وعدم وجود المال، والدنيا في يده لا، إنما كانت الدنيا في أيديهم ولم تكن في قلوبهم.
ما دليل أنها ليست في قلوبهم أنهم لا يفرحون للموجود ولا يحزنون. على المفقود هذا هو القياس، فإذا جاءه شيء فإنما هو من عند الله، وإذا أعطى شيئًا لا يلتفت إليه. ومرّ بنا ما فعله مالك مع الإمام الشافعي عندما وجد أمامه خيولًا، يعني عشرة أو خمسة عشر فرسًا وما شابه ذلك، وهي دواب وإبل وغيرها، وكانوا يسمون هذا الكراع، والكراع لما كان... في ساحة منزل الإمام مالك جاءت هدية الآفاق، فقد عُرِف أن هناك عالماً كبيراً إماماً من الأئمة اسمه مالك، فكان الأغنياء يرسلون إليه الهدايا. أما الإمام
الشافعي فكان خبيراً زراعياً، وخبيراً في الخيل والإبل وما شابهها، وكان يقرأ كثيراً، وكان عالماً موسوعياً، ومن خصائصه أنه... يفهم الحيوانات كفهم الطبيب البيطري، وقد وجد أنهم من صنف عالٍ جداً، شيء غريب. فأراد أن ينبه مالكاً لم يكن منتبهاً، فقال له: "على فكرة، القرع الذي في الخارج هذا، هذا رطب عالي الجودة، هذا شيء غريب جداً، لا يوجد أفضل منه". فقال له: "نعم، إنه لك" وأعطاه
إياه هدية. لم يفكر، لم يقل، حسناً فليسأله كم سعره عندما نبيعه، وعندما نبيعه ماذا نشتري حتى لا نخسر. لا يوجد. قال له: "هي هدية لك". قال له: "أنت لم تنتبه، أي هدية؟ هي شيء عزيز علي جداً". التفت إلى الكلام وقال له: "هي هدية لك، فإني لا أركب دابة ذات حافر في مدينة رسول الله". الله عليه الصلاة والسلام أُعبد بهذا، برجلين الحافي، لا أعرف ما مردود هذا الكلام عليكم. هل أنتم منبهرون بمالك؟ أم بعضكم يقول الله عبط! ما هذا الهراء؟ لا، هذا ليس عبطاً، هذا علو مقام. هذا رجل يعبد الله كأنه يراه، هذا
في عقله أنه لا يركب دابة في المدينة. سيدنا رسول الله، خلاص. الذي بالخارج هذا، نشكركم على الهدية ونرى أحداً من هذا. هادي الشافعي مالك عرف أنه عارف قيمته وعارف ماهيتهم وما هي مراكبهم وما هي رتبتهم. قال له: إذن أنت أحق بهم لكي لا تُخمن أسماؤهم ولا شيء، لأنه يعرفهم. فأعطاهم هكذا، إذن هي الدنيا. في يده وليست في قلبه، هكذا يكون لا يفرح بالموجود ولا يحزن على المفقود. هو يمشي وهو يرى الله ولا يرى شيئاً آخر. فلا تعظمه، واحذر أن ينزل في قلبك هكذا لأنك أنت تفعل غير ذلك. اعمل أنت فقط وانتبه أن هناك أناساً فعلوا هكذا وهناك أناس أمثلة. صالحة وستظل
أمثلة صالحة إلى يوم الدين، وهناك أناس كانت الدنيا في أيديهم ولم تكن في قلوبهم، فاللهم ارضَ عنهم جميعاً. نعم، وأما الإمام أحمد بن حنبل وسفيان الثوري رحمهما الله تعالى، فأتباعهما أقل من أتباع هؤلاء، وسفيان أقل أتباعاً من أحمد حتى انتهوا. نعم، ولكن اشتهارهما بالورع والزهد أظهر. وجميع هذا الكتاب مشحون بحكايات أفعالهما وأقوالهما فلا حاجة إلى التفصيل الآن. لعله أخّرك ليقدمك، فقدّم الإمام الشافعي، ثم قدّم الإمام مالك، ثم قدّم الإمام أبا حنيفة. قد يظن الظان أنه يعني أهمل الإمام أحمد وأهمل بالتالي
سفيان الثوري. قال: أنا أخّرتهم لأن الكتاب كله عنهم من أوله لآخره. خذوا صفحتين لكن هؤلاء سيأخذون المجلدات كلها التي بعد ذلك. يكون إذاً كما قالوا: "لعله أخَّرك ليقدمك". أنت جئت في الآخر، نعم، وربنا قدَّر عليك أنك تأتي في الآخر، لكن لعل ذلك يكون تقدمةً لك. وقالوا ذلك في حق سيدنا صلى الله عليه وسلم: "الله أخَّره ليقدمه"، يعني هو أخَّره. آخر واحد ولكنه جعله إماماً للأنبياء والمرسلين، فلما دخل في ليلة الإسراء وجدهم يصلون في المسجد الأنبياء، فقدمه جبريل فأمَّهم فصلى بهم صلى الله عليه وسلم، ومن هنا صار إماماً للأنبياء والمرسلين.
واحد يقول لي: طيب أمال هو لما صعد لماذا لم يكن يعرفهم؟ من هذا ومن ذاك؟ ومن هذا، ولذلك كان جبريل يقول إلا أن الذي حضر إنما هو الأرواح الطاهرة المتجسدة أو أجسادهم التي جاءت هنا، لكن أرواحهم التي رآها فوق، إلا سيدنا عيسى فإنه قد رُفع بجسده العنصري، وقيل كذلك سيدنا إدريس، وقيل لا. فالمهم الحاصل أن هذه حالة وهذه حالة، فأتى من هنا الآية. الخلافة أفاده ابن حجر
بالفتح، هيا ابن حجر بمعرفة السلم والإجارة والظهار والإيلاء واللعان، أو يثمرها علم آخر أعلى وأشرف منه، وانظر إلى الذين ادعوا الاقتداء بهؤلاء أصدقوا في دعواهم أم لا؟ نعم، ولذلك قال هنا: "هل صدقوا في دعواهم أم لا؟" فاستعمل الهمزة هي التي تأتي معها "أم"، لا يصح غير ذلك. هنا نقول كما درج عليه المتأخرون من العوام، هل صدقوا أم لا؟ لا يصح هكذا. هل لا تأتي إلا مع طرف واحد فقط؟ هل تعلم له سبيلاً فقط؟ لا يصح أم لا تعلم، لا يصح. إنما الهمزة تأتي، سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم، أصدقوا أم كانوا
من. غيرُ الصادقين أو من الكاذبين، مع الهمزة تأتي بالاثنين، ومع هل تأتي بطرف واحد فقط. نعم، الباب الثالث فيما يعدّه العامة من العلوم المحمودة وليس منها، وفيه بيان الوجه الذي قد يكون به بعض العلم، وفيه بيان الوجه الذي قد يكون به بعض العلوم مذموماً، وبيان تبديل أسماء العلوم وهو الفقه والعلم والتوحيد والتذكير والحكمة وبيان القدر المحمود من العلوم الشرعية والقدر المذموم منها. كلمة "الشرعية" تعني منسوبة إلى دراسة الشرع، وليس معناها أن العلم الشرعي كله ممدوح وأن العلم الكوني كله مذموم، هذا كلام غير صحيح. الله تعالى
أطلق وقال: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون". قال ابن جني... كلما قلَّت القيود كثُرَ الموجود. فلأنه لم يقل يعلمون ماذا، لا الشريعة ولا الكون ولا الفلك ولا الطب ولا غير ذلك. يعلم أي شيء، فالذي متعلم ليس مثل الذي غير متعلم. هناك فرق بين العلم والجهل في أي مجال كان، ولذلك فالمدح والذم يتعلق بما هو موصل إلى الله، فإذا كان الطب أو... الهندسة أو عمارة الدنيا أو الفلك توصل إلى الله، فكان به، وفعلاً هي توصل إلى الله. أما إذا استُعملت في الفساد في الأرض وفي الإلحاد وفي الصد عن سبيل الله وتشويش عقول الناس فهي من المذموم. وهنا سيبين الإمام رحمه الله تعالى العلم المحمود
والعلم المذموم بمعنى المعلومات، فإن العلم لا يكون علماً إلا إذا وصل إلى الله، في لغة القرآن: "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ" و"قل رب زدني علماً". ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا بارك الله لي في يوم لم أزدد فيه علماً"، ويقول: "وفوق كل ذي علم عليم". يبقى دائماً العلم لا يعرف الكلمة الأخيرة. العلم لا يعرف الكلمة الأخيرة، إنما هو في علوٍ دائم كل يوم. فإلى لقاء آخر،
أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.