مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 41 | أ.د علي جمعة

مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 41 | أ.د علي جمعة - إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين، وهو يتكلم عما حدث من تغير في
مفاهيم بعض المصطلحات عما كان عليه في الجيل الأول. من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين في القرون الثلاثة الخيرية الأولى، ثم ما طرأ عليه بعد ذلك من تغيير، وتكلم أولاً عن الفقه، ثم تكلم ثانياً عن العلم. والعلم أيضاً كان مما لاقى تغييراً كبيراً في القرن التاسع عشر الميلادي، وشاع حينئذٍ ترجمة هذه الكلمة إزاء كلمة "ساينس" التي هي محصورة. فقط في العلم التجريبي والتجريب يحتاج إلى أن تنظر وأن تجرب على شيء أمامك، وبذلك أصبح
هذا كله من العلوم التجريبية. وأصبح هذا العلم التجريبي الذي ما كان أبداً لنا أن نترجمه بـ "العلم" هو محور الحضارة الإنجليزية. فلما ترجمه الناس هنا بـ "العلم" صار مفهوم العلم وهو التجريب مفهوماً شائعاً، فجاء بالمنطق أن... الله ليس علماً لأنه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وما دام الله وما يوصل إليه ليس علماً فإن الدين لا يدخل العلم، وهكذا بدأت حرب لا أساس
لها من الصحة بين ما يسمى الدين الذي يدعو إلى الميتافيزيقيا والماورائيات والألوهية وبين العلم الذي لا يعترف. بهذا لأنه لم يرَ الله ولم يجعله تحت التجربة، جلَّ الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً. وصار هناك نزاع مفتعل في حضارة الإسلام ولأول مرة بين ما يُسمى بالعلم وما يُسمى بالدين. هذا تغيير آخر لما حصل التغيير على عهد الإمام الغزالي في القرن الخامس الهجري، وهو توفي في السادس. حدث تغيير أيضاً بالتقليل، فبدلاً من أن تكون معلومات توصل إلى الله، أصبحت معلومات
مجردة لكنها لا تخالف الله. والذي حدث في القرن التاسع عشر أنها أصبحت تخالف الإله الحق، ومن هنا نشأت نزاعات ودفاعات أيضاً لا معنى لها ولا حاجة إليها إذا ما أرجعنا الأمور إلى التعريف الصحيح للعلم وذلك القدر. اليقيني من المعرفة التي توصلك إلى الله قد انتهى، فلم يعد موجوداً، وأصبح أحد أدواته العلم، وأحد أدواته الكون، وأحد أدواته الفكر المستقيم، وقل في هذا ما شئت. هناك تطور آخر حدث في هذا الأمر، وسنرى الإمام الغزالي وهو يعيدنا مرة أخرى إلى العلم بالمفهوم الشرعي السليم
الذي استعمله القرآن. فقال: "وفوق كل ذي علم عليم" وقال: "وقل رب زدني علماً" وقال: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" وقال: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" كل هذا هو العلم الموصل إلى الله وإلا لكان معلومات مفرقة لا تمثل منظومة، ولذلك قد يصل فيصير علماً أو قد لا يصل. فلا يصير عالماً الإمام الغزالي، هنا سنرى وهو يتكلم عن هذه القضية وينعي على من أراد أن يحتكر مفهوم العلم فيبعدك عن علوم الآخرة، وهذه خطوة تلي الخطوة التي فيها كفر وإيمان،
هي تلك الخطوة التي تحرم الإنسان عن طريق العلم أن يصل إلى ربه، هذه خطوة خطيرة لكنها كانت. وبدأ حتى الناس في العالم وبعد صدور دائرة المعارف البريطانية سنة ألف وسبعمائة وستين في ثلاثة مجلدات تتنحى عن كل ما ليس تجريبياً بحيث أنه لم يعد علماً، وفقدت البشرية كثيراً من تجارب الأمم في مجال الطب وفي مجال الروح وفي مجال الطاقة الإنسانية وفي مجالات كثيرة تنبهوا إليها بعد ذلك. ذلك مع النازي عندما أخذوا يعودون مرة أخرى لدراسة هذا، ومع الشيوعيين الماديين الذين أيضاً رجعوا مرة أخرى
والتفتوا إلى أن هناك شيئاً ما وراء هذا المنظور، لكنهم عالجوه بطريقة مادية، أن هذا المنظور هو مادي ولكن الذي وراءه أيضاً مادي، وافتقدوا بذلك معلومات كثيرة جداً حتى بدأت اللغات في الاندثار. كان لدينا خمسة آلاف لغة في الأرض، والآن كل خمسة وعشرين يوماً تموت لغة بموت آخر من كان ينطق بها، فيموت معه تراث كبير للإنسانية في تأمل الكون وتدبره والتعامل معه والتفاعل معه، وهكذا. ولذلك بدأت اليونسكو تتدخل في هذه القضية المتعلقة بموت اللغات وضياع كل هذه المعلومات حتى حتى. من قبيل العلوم المادية
هذه العلوم التجريبية الاختبارية مثل المناهج التطبيقية أيضاً، بدأوا يفقدون هذه الأدوات وهم السبب في ذلك منذ القرن الثامن عشر. سيدنا الإمام الغزالي يتنبه لهذا ويتكلم عن المصطلح وأهميته وكيفية أن اختلال المفاهيم تؤدي إلى اختلال والتباس المعاني والعلوم. اقرأ يا... شيخ محمد، اللفظ الثالث: التوحيد، وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام ومعرفة طريق المجادلة والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم والقدرة على التشدق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة
الشبهات وتأليف الإلزامات، حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد وسُمي المتكلمون العلماء بالتوحيد، مع أن جميع ما هو خاصة هذه الصناعة لم لم يكن يُعرف منها شيء في العصر الأول، بل كان يشتد منهم النكير على من كان يفتح باباً من الجدل والمماراة. أما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلة الظاهرة التي تسبق الأذهان إلى قبولها في أول السماع، فلقد كان ذلك معلوماً للكل، وكان العلم بالقرآن هو العلم كله، وكان التوحيد عندهم. عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين وإن فهموه لم يتصفوا به، وهو أن يرى الأمور كلها من الله عز وجل
رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط، فلا يرى الخير والشر كله إلا منه جل جلاله. فهذا مقام شريف إحدى ثمراته التوكل، كما سيأتي بيانه في كتاب التوكل ومن... ثمراته أيضاً ترك شكوى الخلق وترك الغضب عليهم والرضا والتسليم لحكم الله تعالى، وكانت إحدى ثمراته قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما قيل له في مرضه: "أنطلب لك طبيباً؟" فقال: "الطبيب أمرضني". وقال آخر لما مرض فقيل له: "ماذا قال لك الطبيب في مرضك؟" فقال: "قال لي إني..." فعّال لما أريد وسيأتي في كتاب التوكل وكتاب التوحيد
شواهد ذلك، والتوحيد جوهر نفيس وله قشران، أحدهما أبعد عن اللب من الآخر، فخصص الناس الاسم بالقشر وبصنعة الحراسة للقشر وأهملوا اللب بالكلية. فالقشر الأول هو أن تقول بلسانك لا إله إلا الله، وهذا يسمى توحيداً مناقضاً للتثليث الذي صرح به. النصارى، ولكنه قد يصدر من المنافق الذي يخالف سره جهره، والقشر الثاني أن لا يكون في القلب مخالفة وإنكار لمفهوم هذا القول، بل يشتمل ظاهر القلب على اعتقاده وكذلك التصديق به، وهو توحيد عوام الخلق، والمتكلمون كما
سبق حراس هذا القشر عن تشويش المبتدعة، والثالث وهو اللباب أن يرى الأمور. كلها من الله تعالى رؤية تقطع التفاته عن الوسائط وأن يعبده عبادة يفرده بها فلا يعبد غيره ويخرج عن هذا التوحيد اتباع الهوى فكل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده قال الله تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وقال صلى الله عليه وآله وسلم أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى هو الهوى، رواه الطبراني من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف. وعلى التحقيق، من تأمل عرف أن عابد الصنم ليس
يعبد الصنم وإنما يعبد هواه، إذ نفسه مائلة إلى دين آبائه فيتبع ذلك الميل. وميل النفس إلى المألوفات أحد المعاني التي يعبر عنها بالهوى، ويخرج من هذا التوحيد التسخط. على الخلق والالتفات إليهم، فإن من يرى الكل من الله عز وجل كيف يتسخط على غيره، فلقد كان التوحيد عبارة عن هذا المقام وهو مقام الصديقين، فانظر إلى ماذا حُوِّل وبأي قشر صُنع منه وكيف اتخذوا هذا معتصماً في التمدح والتفاخر بما اسمه محمود مع الإفلاس عن المعنى الذي يستحق. الحمد الحقيقي وذلك كإفلاس من يصبح في الصباح ويتوجه إلى
القبلة ويقول: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً"، وهو أول كذب يفاتح الله به كل يوم إن لم يكن وجه قلبه متوجهاً إلى الله تعالى على الخصوص. فإنه إن أراد بالوجه وجه الظاهر فما وجهه إلا إلى الكعبة وما صرفه. إلا عن سائر الجهات، والكعبة ليست جهة للذي فطر السماوات والأرض حتى يكون المتوجه إليها متوجهاً إليه تعالى. تعالى عن أن تحده الجهات والأقطار. وإن أراد به وجه القلب وهو المطلوب المتعبد به، فكيف يصدق في قوله وقلبه متردد في أوطاره وحاجاته الدنيوية، ومتصرف في طلب الحيل في جمع الأموال. والجاه واستكثار الأسباب ومتوجه
بالكلية إليها، فمتى وجَّه وجهه للذي فطر السماوات والأرض؟ وهذه الكلمة خبر عن حقيقة التوحيد، فالموحد هو الذي لا يرى إلا الواحد، ولا يوجه وجهه إلا إليه، وهو امتثال قوله تعالى: "قل الله، قل الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون"، وليس المراد به القول باللسان فإنما... اللسانُ ترجمانٌ يصدقُ مرةً ويكذبُ أخرى، وإنما موضعُ نظرِ اللهِ تعالى المترجمُ عنه هو القلبُ، وهو معدنُ التوحيدِ ومنبعُه. ملخصُ ذلك أن اللهَ مقصودُ الكلِّ، كانوا في زماني يسألون هكذا: ما مقصودُ الكلِّ؟ اللهُ! اللهُ مقصودُ الكلِّ.
وهذا التمثيلُ خيرٌ من التشقيقِ الذي شقَّقَتْهُ النابتةُ والذي لم يأتِ به في الإسلامِ. سوّى ابن تيمية رحمه الله توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الصفات، فإن هذا يعني تقسيماً مبتدعاً لم نره لغيره. هذا التقسيم المبتدع الذي لم نره لغيره يؤدي إلى تكفير المسلمين. ولكن هنا قال: "اللب المحاط بقشرتين مثل عين الجمل، تلك التي لها قشرة خارجية تفتحها فتجد قشرة داخلية تفتحها". تجد اللب، أما الخارج فهو النطق بـ "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وبها تجري عليه أحكام الإسلام ويمتنع تكفير المسلم، لأن تكفير المسلم أمر صعب حتى سُمي المسلم الصعب.
والثانية هي أن يعتقد بقلبه فينجو عند الله سبحانه وتعالى. أما الدرجات العليا والثواب الجزيل فيكون بلب اللباب واللباب فيه. أن يخرج سوى الله من قلبه، وهذا أمر يتقلب فيه الإنسان المسلم المؤمن، ولذلك لا تكفير في هذا التشقيق، وإنما التكفير حدث من ذلك التقسيم. فأجمع علماء أهل السنة والجماعة عبر القرون على أن هذا التقسيم الثلاثي للتوحيد مبتدع، وأنه لم يقل به أحد لا من السلف ولا من الخلف، فلما... جاءت النابتة وتمسكوا به لأنه يقرب إلى التكفير وقتل المسلمين، وقد
حدث أن قتلوا المسلمين ولم يبالوا بدمائهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا من هذا ويتبرأ منه ويقول: "أنا بريء ممن خرج على أمتي لا يفرق بين فاجرها وتقيها"، يعني خارجين على الكل، ولذلك حذرنا النبي صلى الله عليه. يجب علينا الحذر كل الحذر من النابتة وألا نسكت، فهذا الأمر أصبح جللاً، وأصبح هؤلاء الناس يضحكون على الناس. فإنا لله وإنا إليه راجعون، حسبنا الله ونعم الوكيل. سيغنينا الله من فضله ورسوله. كفانا قول "حسبنا الله ونعم الوكيل"
لأنها هي الكافية والشافية. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله والسلام عليكم. ورحمة الله وبركاته،