مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 46 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه نقرأ إن شاء الله في كتاب إحياء علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه قال الإمام حجة
الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله به وبعلومكم في الدارين آمين، بيان القدر المحمود من العلوم المحمودة. اعلم أن العلم بهذا الاعتبار ثلاثة أقسام: قسم هو مذموم قليله وكثيره، وقسم هو محمود قليله وكثيره، وكلما كان أكثر كان أحسن وأفضل، وقسم يُحمد منه مقدار الكفاية ولا يُحمد الفاضل. عليه والاستقصاء فيه وهو مثل أحوال البدن فإن منها ما يُحمد قليله وكثيره كالصحة والجمال، ومنها ما يُذم قليله وكثيره كالقبح وسوء الخلق، ومنها ما يُحمد
الاقتصاد فيه كبذل المال فإن التبذير لا يُحمد فيه وهو بذل، وكالشجاعة فإن التهور لا يُحمد فيها وإن كان من جنس الشجاعة، فكذلك العلم. إذا فالعلم منه محمود خالص، ومنه مذموم خالص، ومنه ما تردد بينهما فيُحمد على قدر، فإذا زاد على ذلك القدر فإنه يُذم، وكما قالوا: كل شيء زاد عن حده انقلب إلى ضده. وسيُبين حال العلوم الثلاثة: المحمود، والمذموم المحمود لفعله، والمذموم لاجتنابه، والثالث للأخذ بالقدر المحمود وترك المذموم. نعم،
فالقسم... المذموم منه قليله وكثيره هو ما لا فائدة فيه في دين ولا دنيا إذ فيه ضرر يغلب نفعه كعلم السحر والطلسمات والنجوم، فبعضه لا فائدة فيه أصلاً، وصرف العمر الذي هو أنفس ما يملكه الإنسان إليه إضاعة، وإضاعة النفيس مذمومة، ومنه ما فيه ضرر يزيد على ما يُظن أنه. يحصل به من قضاء حاجة في الدنيا فإن ذلك لا يُعتد به بالإضافة إلى الضرر الحاصل عنه. إذ هناك علوم ومعلومات لكن مبناها الأوهام فهي وهم لا حقيقة له أو حقيقتها ضارة، فإذا
كانت من هذا القبيل فهي مذمومة تماماً. وضرب المثال بعلم النجوم فإنه كما قال العلماء هناك علاقة. ما بين جريان النجوم وبين أحداث ما يحدث في الأرض علاقة لا يعلمها إلا الله، وإن كان قد أنشأ الخلق عليها، لكن اختل إدراكها. واختلال إدراكها ناتج من عدم معرفة حسابات تتعلق بها. الله من شدة حكمته سبحانه وتعالى وكمالها فإنه خلق أشياء وتداخلت هذه الأشياء ليست بصورة بسيطة. بل بصورة معقدة وكلما اطلعت أنت على تعقيدها كلما قلت سبحان الله كيف يتم هذا، لا بد من مدبر
حكيم وراء هذا الخلق، فإن الأمر ليس بالبساطة التي يمكن أن تكون بالصدفة، وليس بالتضاد الذي يكون بالاتفاق هكذا، فكلما رأيت الحكمة معقدة أدركت أن هناك مدبراً حكيماً وراء هذا. الترتيب ولكن هل تتوصل به إلى إدراك الحوادث؟ قالوا إن هذا كان بالأمر الأول، وكان قد أوتي سيدنا إدريس هذا الأمر. وفي البخاري: "إن أول من خط بالقلم إدريس، فمن وافق خطه فذاك". يعني إذا أدركت قواعد إدريس ستصل إلى النتائج، وإلا
كان مبهماً. فهذا المعنى يشير إليه ابن القيم. في كتاب "زاد المعاد" يُقرِّر أن هذه الدنيا بُنيت فعلاً على الحكمة المتناهية، إلا أنه قد انقطع بنا السبيل لإدراك تلك القواعد، فأصبح السعي في تحصيلها من باب الأوهام والحدس، وليس من باب ترتيب أمور معلومة للتوصل بها إلى مجهول. وعللوا ذلك بعلل لعلها تكون صحيحة ولعلها لا تكون، منها أن... ردت الشمس لمجموعة من البشر فعندما عادت الشمس لمجموعة من البشر بأن كانت على وشك الغروب ثم رجعت، اختل الحساب حيث كان الحساب منضبطاً على سيرها الأول. وكما
نعلم الآن أن الشمس تسير بسير الأرض، تسير في ظاهر العين بسير الأرض، فكانت الأرض قد توقفت ولو رجعت على عكس. الاتجاه فعندما حدث هذا ليوشع وحدث هذا لسليمان وحدث هذا لسيدنا علي، اختل النظام ولم ندرك بعد ذلك الحساب ولا كيفية التحصيل، وعلى ذلك أصبح تحصيل ذلك من باب الأوهام، فأصبح علم النجوم غير مقبول وكذب المنجمون ولو صدفوا، أي لو وافقهم الصواب بالمصادفة، فهم أيضاً كاذبون لأنهم لا يسيرون. على قاعدة مطردة ولا على قاعدة علمية، إنما يسيرون على أمور وهمية، ولعلها تكون رامية من غير رامٍ. فهذا
يبين لنا أنواع العلوم المذمومة، فكل علم بُني على التخمين والاحتيال والأسطورة والخيال، دون أن يكون له واقع محسوس مدرك له قواعد، فهو علم من العلوم المذمومة الذي يُذم كثيره وقليله. ولقد رأينا شيئاً من هذا عندما خلط الإعلام ما بين الخبر والرأي والرغبة والمُراد وجعل الكل على حد سواء، فجعل الرأي خبراً وجعل الخبر رأياً وجعل الرغبة كذلك، فاختل النظام،
فأصبحت هذه العلوم هي علوم مذمومة كلها، ويجب أن نرجع إلى الأصل أن الخبر خبر وأن الرأي رأي وأن الخدمة. خدمة، وهكذا، لأن الإعلام في أصله كان هكذا، وهناك آلاف من العلوم التي يبنيها المتكلم من غير بيان، وهذا الذي قالوا فيه أنه تصدر قبل أن يتعلم، ومن تصدر قبل أن يتعلم كمن تذبب قبل أن يتحصرم وشاعت الفتنة، فكل من هب ودب يتكلم بأسطورة في ذهنه من غير. تدقيق ولا تحقيق ويظن في نفسه أنه عرف وهو قد جهل، وهكذا فإنها لله وإنا
إليه راجعون، تفضل. وأما القسم المحمود إلى أقصى غايات الاستقصاء فهو العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وسنته في خلقه وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا، فإن هذا علم مطلوب لذاته وللتوصل به إلى سعادة الآخرة. وبذل المقدور فيه إلى أقصى الجهد قصور عن حد الواجب، فإنه البحر الذي لا يُدرك غوره، وإنما يحوم الحائمون على سواحله وأطرافه بقدر ما يُسّر لهم، وما خاض أطرافه إلا الأنبياء والأولياء والراسخون في العلم، على اختلاف درجاتهم بحسب اختلاف قوتهم وتفاوت تقدير الله تعالى في حقهم، وهذا
هو العلم. المكنون الذي لا يُسطَّر في الكتب، ويُعين على التنبه له التعلُّم ومشاهدة أحوال علماء الآخرة كما ستأتي علاماتهم. هذا في أول الأمر، ويُعين عليه في الآخرة المجاهدة والرياضة وتصفية القلب وتفريغه من علائق الدنيا والتشبه فيها بالأنبياء والأولياء، ليتضح منه لكل ساعٍ إلى طلبه بقدر الرزق لا بقدر الجهد ولكن. لا غنى فيه عن الاجتهاد، فالمجاهدة مفتاح الهداية، لا مفتاح لها سواها. هنا هناك علم، والعلم هو المنضبط القابل للتكرار الذي يستطيع الشيخ أن يقدمه لتلاميذه، وهو
في صورة قواعد وفي صورة جمل مفيدة وفي صورة مسائل وفي صور يستطيع فيها العالم أن ينقله لمن بعده، وهناك ما يسمى بالفكر. والفكر طليق، يأتي الفكرة في ذهن الإنسان فيعبر عنها، ويجوز أن يعبر عنها بتعبير آخر وثالث ورابع إلى أن يصل إلى تعبير دقيق يساوي هذه الفكرة ويضعها فيه فتصير علماً. الفكر هو الذي يغذي العلم، الفكر طليق والعلم مقيد. هذا العلم وذلك الفكر الطليق، والمقيد العلم المقيد والفكر الطليق كلما. سعى فيه الإنسان فإنها
تُحدِث له ضربة فيحدث له ما يُسمى بالأذواق والملكات، وهذا هو الذي يتكلم عنه الشيخ الغزالي، يتكلم عن الأذواق، والأذواق تحدث للإنسان وقد لا تحدث لغيره، ولذلك قد تصل في مرتبة من مراتبها إلى أن تعجز اللغة عن أدائها، فلا تستطيع مفردات اللغة أن تعبر عن الذوق الذي شعرت به أنت تشعر به وتدركه ولكن لا تستطيع أن تعبر عنه باللغة، وهذا حال يحدث للمحدثين في شأن العلة التي تكتنف الحديث، فيقولون أمر ينقدح
في نفس المحدث لا يحسن التعبير عنه. كالصيرفي، فإنه يضرب الدينار ويعرف إذا كان مزيفًا أم لا، ومن أين وزنه مثلما... ما الذي جعل الصيرفي يضرب هكذا الرنة؟ حسناً، قل لي كيف يبدو شكل الرنة لكي أتعلم. يقول لك: لا أعرف، هذه تحتاج إلى الممارسة. تأتي بمائة دينار سليمة وتظل ترنهم، ترنهم، ترنهم. الرنة، أذنك اعتادت عليها، وعندما تأتي وترن المزيف أو المغشوش، تجد أنه مزيف. لماذا؟ كيف عرفت؟ من أين؟ إنه هو هو شكلاً ووزناً وهكذا. إلى آخره يقول إن رنته ليست مضبوطة، رنته غير مضبوطة،
والتي هي ماذا؟ أين الرنة الأولى والرنة الثانية؟ لا يعرف كيف يتكلم، ولا يحسن التعبير عنه، فهذا يكون من قبيل الأذواق. فيحدث هناك معارف بالله سبحانه وتعالى لا يستطيع الإنسان أن يعبر عنها لأنها خاصة به، فينتقلون إلى الرمز في بعض الأحيان. أما يكتمونها وإما إذا انتقلوا انتقلوا إلى الرمز كما تقول إن الشيء الفلاني أحلى من العسل وهو لا علاقة له بالعسل، إنما هو رمز يعني يقرب لك الحال أن العسل طعمه حلو، أما هذا الذي يتكلم عنه فلا علاقة له بتلك الحلاوة الحسية، فيلجؤون إلى الرمز وهذا
الرمز قد يكون بين أولئك الذين شعروا بذات الشعور ويقول الإمام السيوطي في تأييد الحقيقة العليا بالطريقة الشاذلية أن مما يدل على أحقية هذه الأذواق أنها تتكرر مع طائفة من البشر عبر العصور فإذا قرأ كلام الأول فهمه دون سواه حتى قالوا كتبنا حرام على غيرنا لأن الغير إذا قرأها فهم منها شيئاً آخر، وقد يكون هذا الشيء - والعياذ بالله - مخالفاً في ذهنه، في قائمة ذهنه، للشريعة، وهذا لا يجوز، لأن الشريعة مصونة محمية تبقى كما هي وهي الأساس. فإذا فهمت
شيئاً وجاء هذا الشيء مخالفاً للشريعة، فاعلم أن فهمك خطأ وأن الشريعة هي الصحيحة، فلا يمكن الخروج عن الشريعة بأي حال. من الأحوال، ولذلك من كتبوا في تلك الأذواق والفتوحات وضعوا المعيار أولاً في كتبهم كمحيي الدين بن العربي رضي الله تعالى عنه في الفتوحات، فإنه خصص باباً في الأول ترجع إليه. فإذا فهمت شيئاً مخالفاً لهذا الأول ففهمك هو الخطأ وأنت لم تصل بعد لمعرفة حقيقة هذا. هذا كان فيه. إشارة أو رمز يوصلك إلى معنى يوافق هذا، لكنه إذا جاء في ذهنك ما يخالفه، فذهنك مخطئ. وضعوا هذا وضبطوه وتكلموا فلم يذكروا تلك الأذواق. لا داعي
لذلك، قالوا حرصاً منهم على هذه الحال لمن بعدهم، التي هي الكلام الذي ذكره السيوطي في تأييد الحقيقة أن مما يدل على أحقية تلك. الأمور أنها تتكرر مع البشر عبر القرون والسنين والدهور والأماكن، وهذا التكرار يبين أحقيتها، لأن هذا الذي في عصرنا كيف وصل إليها؟ كيف وصل إلى ما وصل إليه ابن العرب منذ ثمانية قرون أو تسعة قرون، وهكذا من غير أن يكون له بها تعليم؟ لأنها لا تُعلَّم، إنما يُتوصل إليها. من كثرة التقوى والاستمرار على الذكر والالتزام الظاهر بالشريعة وتخلية الباطن من كل قبيح إلى آخر ما هنالك، يشير إلى كل ذلك
الإمام الغزالي في تلك العبارة القصيرة. إلا أنها أخذت من أولياء الله، يعني مباحث كثيرة وكتابات كثيرة. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته