مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 47 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. نعم، وأما العلوم التي لا يُحمد منها إلا مقدار مخصوص فهي العلوم التي أوردناها في فروض الكفايات، فإن في
كل علم منها اقتصارًا وهو الأقل، واقتصادًا وهو الوسط، واستقصاءً وراء ذلك الاقتصاد لا. مرد له إلى آخر العمر فكن أحد رجلين: إما مشغولاً بنفسك، وإما متفرغاً لغيرك بعد الفراغ من نفسك. وإياك أن تشتغل بما يُصلح غيرك قبل إصلاح نفسك. فإن كنت المشغول بنفسك، فلا تشتغل إلا بالعلم الذي هو فرض عليك بحسب ما يقتضيه حالك وما يتعلق منه بالأعمال الظاهرة من تعلم. الصلاة والطهارة والصوم، وإنما الأهم الذي أهمله الجميع هو علم صفات القلب وما يُحمد منها وما يُذم، إذ لا
ينفك إنسان عن الصفات المذمومة مثل الحرص والحسد والرياء والكبر والعُجب وأخواتها، وجميع ذلك مهلكات وإهمالها من الواجبات، مع أن الاشتغال بالأعمال الظاهرة يُشابه الاشتغال بطلاء ظاهر البدن عند التأذي بالجرب والدمامل. والتهاون بإخراج المادة بالفصد والإسهال، وحشوية العلماء يشيرون بالأعمال الظاهرة، كما يشير الطرقية من الأطباء بطلاء ظاهر البدن، وعلماء الآخرة لا يشيرون إلا بتطهير الباطن وقطع مواد الشر بإفساد منابتها وقلع مغارسها من القلب. وإنما فزع
الأكثرون إلى الأعمال الظاهرة عن تطهير القلوب لسهولة أعمال الجوارح واستصعاب أعمال القلوب كما. يفزع إلى طلاء الظاهر من يستصعب شرب الأدوية المرة، فلا يزال يتعب في الطلاء ويزيد في المواد وتتضاعف به الأمراض. هذا كلام نفيس طويل فيه أن الإسلام جاء بالحنيفية السمحة، وأن من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه علم الناس السهولة واليسر، وما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما. أيسرهما وأنه لم يقف بهم عند التدقيق في الألفاظ وما تقتضيه من مراتب، فهذا لا يعرفه
أهل العربية كما يقول الإمام الباجوري: "هذا تدقيق فلسفي لا تعرفه أهل العربية". لما وقفوا عند الألفاظ وتمادوا في شرحها وتناقضها بحيث أنه لا تستقر حقيقة، وهذا التشقيق والوقوف عند الألفاظ والتوغل فيها بحيث... لا تستقر حقيقة مضادة لدين الإسلام، فدين الإسلام يأخذ بالظاهر والسهل والبسيط دون غيره، ويعلّم الناس ولا يتعمق إلى هذه الحدود التي قد وصل إليها بعض المتأخرين. كان عندنا في الأزهر شخص اسمه الشيخ علي الكومي، والشيخ علي الكومي - رحمه الله تعالى -
كان قبل أن يدخل الطالب امتحان العالمية. يدرس له الذي يدرس له الشيخ علي الكومي ينجح، ولكن كانت فيه خصلة أنه لا يترك عبارة إلا اعترض عليها وشقق فيها. "بسم الله الرحمن الرحيم"، يقول لك: "فقط كفاية، كفاية هكذا، الله مطلق أم مقيد؟ عام أم خاص؟ جزئي أم كلي؟" فإذا قلت مطلق خطَّأك، وإذا قلت مقيد خطَّأك. وإذا قلتُ ويخرج لكل حاجة حاجة، فالوضع هذا المهم أنه انتشر صيته وكان من كبار العلماء، فقالوا له: "يا شيخ علي، أنت تُدَرِّس للناس، وبعد ذلك عندما تأتي
أنت ليس معك شهادة علمية، فلماذا لا تدخل وتحصل عليها؟ هذا لن يأخذ منك شيئاً". فدخل، والمشايخ اتفقوا على إسقاطه حتى لا يتلاعب بدين الله وكان... الشيخ الدسوقي العربي رحمه الله تعالى كان يستخدم النشوق، هذا النشوق كان يشبه الدخان، وكان الطالب الذي تظهر عليه علامات الغباء وهو راسب، يقول له: "استنشق"، أي أصبحنا أصدقاء، أي استنشق، فيفهم الطالب أنه راسب، فيأخذ النشوق ويمضي، فالشيخ علي، الشيخ الدسوقي العربي، بهذه الطريقة قال: بسم... بسم الله
الرحمن الرحيم، الحمد لله. قالوا: لا، يكفي هكذا يا شيخ علي، يكفي هكذا. الله مطلق أم مقيد؟ قال له: الله سبحانه وتعالى مطلق. قال له: كيف يكون مطلقًا وهو مشخص؟ يعني هو لا وجود له يا شيخ علي. قال له: لا، خلاص، نقول مقيد. قال له: مقيد يعني قامت. به مواصفات، أي هو كائن يا شيخ علي. قال له: "يا شيخ الدسوقي". قال له: "نعم". قال له: "هات علبة النشوق، هات علبة النشوق. دعنا ننتهي مادمت ستُدخلني في هذه التفاصيل والتعقيدات. حسناً، لقد عرفنا أننا لن نصل إلى نتيجة جيدة". قال له: "خذ علبة النشوق"، وقام الشيخ علي. فجاء المشايخ يلومون
اللجنة وقالوا له: "هذا الشيخ علي الكومي، يعني أنتم أسقطتموه، وهذا لا يصح". قالوا: "حتى يتوب". وعقدوا له مجلساً في الأزهر للتوبة، وجلس وأعلن توبته وأنه لا يتلاعب بدين الله، ولا يشقق بهذه التشقيقات التي تجعل الكلام يضرب بعضه بعضاً ولا يتصل. إلى شيء وحقائق الأشياء ثابتة هذا يكون سفسطائية، هذا لا يوجد فيه شيء سيصبح يستطيع أن يقنعك أن هذا العمود حجر وبعد قليل يصبح ذهباً. هل هو حجر أم ذهب؟ هذا العمود حجر. حسناً، سأتكلم حتى أقنعك أنه ذهب، فهذا باطل، هذا ضلال. فإذا تاب إلى الله ودخل وحصل على العالمية الشيخ. علي الكومي رحمه الله والجميع، فانظر
إلى العلماء من أجل هذا، إنه هناك من يحوّل السماحة إلى أمور معقدة وتشقيقات وظواهر ما أنزل الله بها من سلطان، ويزيد على الناس التكاليف ويضيّق عليهم، ولذلك يجب على طلبة العلم أن يتنبهوا إلى المقصود الأهم من عبادة الله، من أن هذه الأمور. توصل إلى الله تؤدي إلى تخلية القلب من القبيح وتحلية الصحيح، ولذلك فإن العلوم الظاهرة من فقه وحديث وقرآن من غير التصوف أمر خطير. لازم التصوف الذي هو التربية، الذي هو علاقتك مع الله، أن تكون تفعل هذا لوجه الله وليس لوجه الكبر ولا الشهرة ولا الفخر ولا المراء ولا. الغلبة على إخوانك
أو غير ذلك إلى آخره من غير التصوف، من غير درجة الإحسان، تضل الطريق ويتحول الفقه إلى تاريخ: الشافعي قال، ومالك قال، والشافعي استدل، فأبو حنيفة استدل، وهكذا. تاريخ حصل هكذا فعلاً في التاريخ. فأنت تدرس تاريخاً وليس ديناً، حولت المسألة إلى مجرد معلومات، لكن هذا نسق. علمي يتصل فيه قلبك بالله، {واتقوا الله ويعلمكم الله}. كلام هنا كلام الحقيقة، كلام طويل لأجل أن نشرح الكلام الذي سمعناه، كلام طويل، لكن المهم أن تعلق قلبك بالمقصود، ومقصود الكل هو الله. ولذلك كانوا عندما يسألون هكذا ما مقصود الكل، يجيبون فوراً: الله.
هو مقصود الكل يعني ينبغي أن يكون مقصود الجميع، فهنا يتكلم عن أن الحد المقصود هو ما نستعمله لعبادة الله. تستطيع أن تصلي وتتوضأ وتزكي إلى آخره. أما عندما تدخل في أمور، يقول لك: "حسناً، النية محلها أين؟ محلها القلب. وزمانها ماذا؟ أول الفعل. حسناً، أول فعل الصلاة ماذا؟ التكبير." الله أكبر، حسناً، أول "الله أكبر" ما هو؟ الهامز من "الله أكبر"، حسناً، النية يجب أن تكون مع أول الفعل، أي مع الهمزة. حسناً، ماذا إذا تقدمت
قبل الهمزة قليلاً؟ وماذا إذا تأخرت بعد الهمزة قليلاً؟ هكذا نكون قد دخلنا في أوضاع لم تكن عليها الصحابة. بهذا الشكل دخلنا في أوضاع لم... تكن عليها الصحابة، لم يسألوا عن الهمزة ولم يسألوا أصلاً حتى عن التكبير. قال: انوِ وادخل الصلاة وانتهى الأمر ببساطة هكذا. لكن عندما يأتي أصاب بعض الشافعية الذين يقولون هذا الكلام الوسواس، فرأيناه يقول: "آه الله، آه". إنه يريد أن يوازن النية التي في القلب مع لفظ "الله" الذي سيقوله. بلسانه فيجلس يزن الكلمات ثلاث أو أربع مرات إلى أن تأتي هكذا. ليس هذا حال الصحابة، وليس هذا حال النبي عليه الصلاة والسلام، وليس هذا ما علَّمه لأمته من
أن يظل يقول: "قال الله"، انتظر، "الله أكبر". هذا لن ينفع هكذا، لن ينفع. نحن دائماً وبمنتهى السهولة، ما الذي... نصلي صلاة الظهر، الله أكبر. خلاص، كانوا يفعلون هكذا. أما وضع هذا في صورة قاعدة أن النية تكون عند أول العمل، النية عند أول العمل، يعني لا تتحول بالتشقيق والتعمق والتناقض إلى مشكلة، لأنها لم تكن مشكلة قط في الطهارات. كان مشايخنا يقولون إنه من لم يُؤتَ الوسواس في الطهارات. فهو
مرحوم من عند الله لأنك لو أتيت وقرأت كمية الطهارات وتريد تطبيقها بعقلية التعمق هذه، خلاص يصبح كل شيء نجسًا ما بين الأرض والسماء، وشاهدنا من كان كذلك وأُصيب بالوسواس. الوسواس هذا نقص، الوسواس هذا شيطان هو الذي يوسوس، فيجب علينا إذًا ماذا؟ الحنيفية السمحة الشيخ هنا. وهو يتكلم عن أننا يجب علينا أن نأخذ بالحنيفية السمحة وأن نركز على المقصود، مقصود الكل وهو الله، وأن هذا الأمر إنما هو وسيلة للوصول إلى الله وليس للتشقيق وللعب، فليس فيها لعب. إلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.