مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 50 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه الإحياء، ما زال يتكلم عن العلم الممدوح والمذموم وما بينهما من علوم،
وأن غاية العلم الممدوح هو أن يوصلك إلى الله سبحانه وتعالى، وكما قالوا إنك... محجوب وبينك وبين الله سبعين ألف حجاب ولعلها تكون للتكثير وقد يكون أكثر من ذلك. وكلما سرت في طريق الله سقط شيء من هذه الحجب وارتقت النفس لمعرفة ربها. وكما قالوا قديماً: "من عرف نفسه فقد عرف ربه"، يعني من عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم ومن عرف نفسه بعدم. العِلْمُ عَرَفَ رَبَّهُ بِالعِلْمِ، وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ
بِالعَجْزِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالقُدْرَةِ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ. فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى تَمَامِ صِفَاتِ الكَمَالِ، حَتَّى صَارَتْ فِي حَقِّهِ أَسْمَاءً، حَيْثُ مَا أُطْلِقَتْ انْصَرَفَ الذِّهْنُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الاسْمِ. فَمَعَ الإِمَامِ الغَزَالِيِّ فِي هَذَا الكِتَابِ الَّذِي جَعَلَ فِيهِ... العلم المحمود يوصلك إلى الله، والعلم المذموم على خلاف ذلك فإنه يحجبك عن الله ويزيد من الحجب، والله ليس محجوباً ولا يصح أن تقول هذا الحجاب حجب الله عني، فأنت المحجوب لأن الله سبحانه وتعالى أظهر من الظهور وأجلى من البينات، وأنه سبحانه
وتعالى لا يحجبه شيء ولا يقدر عليه شيء. أن يحجبه وإنما المحجوب هو أنت، فالحجاب إنما هو مسلط عليك، والعلم المحمود يزيل هذه الحجب. اقرأ: قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين. وأما الحديث فالاقتصار فيه تحصيل ما في الصحيحين بتصحيح نسخة على... رجلٌ خبيرٌ بعلم متن الحديث، وأما حفظ أسماء الرجال فقد كُفيتَ فيه بما تحمله عنك مَن قبلك. أما صحيح البخاري فقد رُوي لنا بروايات، منها
رواية حماد بن شاكر، ومنها رواية المستملي، ولكن الرواية المشهورة السائدة في بلادنا وسائر بلاد المسلمين في العصر الحديث فهي رواية الفربري، وهي التي شاعت. واستقرت ولذلك هي أجود الروايات لأنه يُقال أن الفربري قد قرأها على سبعين ألفاً، يعني تلقاها عنه سبعون ألفاً، وهناك روايات ضئيلة توجد في كل رواية كرواية المستملي أو رواية حماد أو رواية المحاملي لا توجد في الفرابري، وهذه أحاديث قليلة يقول فيها العلماء أخرجه البخاري ثم لا تجدها. فيما معك وإنما تجدها في الشروح،
فمن شرح البخاري يضيفون هذا مثل الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري الذي قال فيه العلماء ومنهم الشوكاني: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"، يعني بعد الفتح لن تستطيع أن تفعل شيئا، ولكن هذه الروايات البسيطة التي هي موجودة في البخاري وليست في رواية الفربري تعني أحاديث قليلة، والرواية المطبوعة المشهورة إنما هي من رواية الفربري، مع مراعاة اختلاف الرواة عنه أبي ذر الهروي وإخوانه. نعم، وأما حفظ أسماء الرجال فقد كُفيت فيه بما تحمَّله عنك من قبلك، ولك أن تعتمد على كتبهم، وليس يلزمك حفظ متون
الصحيحين، ولكن تُحصِّله تحصيلاً تقدر منه. على طلب ما تحتاج إليه عند الحاجة، والإمام مسلم في صحيحه أكثر سهولة وترتيباً من الإمام البخاري. الإمام البخاري يكرر الحديث كثيراً ويقطعه، وتجد الحديث قد رُوي تسع مرات وعشر مرات بروايات مختلفة وتقطيعات مختلفة. وفقه الإمام البخاري يظهر في أبوابه وفي عناوين أبوابه، ولكن الإمام مسلم أسهل وأكثر ترتيباً، ولذلك... اختلف المشارقة والمغاربة في تفضيل البخاري على مسلم أو العكس، ففضل المشارقة البخاري وجعلوه مقدماً، وفضل
المغاربة مسلماً. قالوا: "لمسلم فضل"، قلت: "البخاري أعلى"، قالوا: "المكرر فيه"، قلت: "المكرر أحلى"، يعني السكر المكرر أحلى من السكر البني الذي ليس متكرراً. فهذا نزاع بين علماء المشرق وعلماء المغرب، هناك يقدمون مسلماً. وفي المشرق يقدمون البخاري، ومصر ملحقة بالمشرق، وابتداءً من ليبيا إلى الأندلس كان هذا هو المغرب يسمونه المغرب، لكن بدايةً من مصر يسمونها المشرق. فمن مصر إلى بغداد إلى الهند، كل هذه المساحة إنما يقدمون فيها الإمام البخاري على الإمام مسلم. وعلى كل
حال فالبخاري ومسلم صحيحان، وهناك من يضيف إلى ذلك. أي أن بعض الكتب الستة كالترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجة ومالك، أظن أنه لا يفوتك حديث. فإذا أضفت إلى هذا الديوان مسند الإمام أحمد، فإن أي حديث يُحتج به ويكون من أصول الإسلام أو تحتاج إليه في العقيدة أو الشريعة أو الأخلاق لا يخرج عن هذا، إنما يخرج... عن هذا مزيد التوثيق وبعض الروايات التي يمكن أن تفيد فوائد، لكن هذا القدر لا يضيع معه شيء من أصول الإسلام، والحمد لله رب العالمين. نعم، وأما
الاقتصاد فيه فأن تضيف إليهما ما خرج عنهما مما ورد في المسندات الصحيحة، وأما الاستقصاء فما وراء ذلك إلى استيعاب كل ما. نُقِلَ مِنَ الضَّعِيفِ وَالقَوِيِّ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ مَعَ مَعرِفَةِ الطُّرُقِ الكَثِيرَةِ فِي النَّقلِ وَمَعرِفَةِ أَحوَالِ الرِّجَالِ وَأَسمَائِهِم وَأَوصَافِهِم. وَحَاوَلَ الإِمَامُ السُّيُوطِيُّ أَن يُحَصِّلَ ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَم يَستَطِع، فَأَلَّفَ كِتَابَهُ الجَامِعَ الكَبِيرَ، وَلَكِن استَدرَكَ عَلَيهِ عُلَمَاءٌ، مِنهُمُ الإِمَامُ المُنَاوِيُّ، فَإِنَّهُ استَدرَكَ أَحَادِيثَ فِي كِتَابٍ اسمُهُ الجَامِعُ الأَزهَرُ جَمَعَ. هناك أكثر
مما جمع السيوطي، أو هناك أحاديث كثيرة في الجامع الأزهر لم يذكرها السيوطي في الجامع، ومنها ما ذكره الإمام العراقي الفاسي. وهذا العراقي ليس عبد الرحيم العراقي المعروف لدينا هنا، الذي هو شيخ ابن حجر، بل هو شخص آخر. وقد استدرك العراقي الفاسي أيضاً على السيوطي، وكذلك فعل المناوي الذي استدرك على السيوطي أيضاً. وإذا جمعنا كل ذلك فإن الأحاديث لا تزيد عن خمسين ألف نص بما فيها الضعيف والضعيف المنجبر الذي يؤخذ به في الأحكام، ولا تصل إلى خمسين ألفاً. والصحيح من ذلك بما لا خلاف عليه نحو خمسة عشر ألف حديث من الخمسين ألفاً، والباقي إنما هو ورد ما
بين الضعيف الذي يُحتج. به والضعيف المردود الذي لا يُحتج به. نعم، أما الفقه فالاقتصار فيه على ما يحويه مختصر المزني رحمه الله، وهو الذي رتبناه في خلاصة المختصر، والاقتصاد فيه ما يبلغ ثلاثة أمثاله، وهو القدر الذي أوردناه في الوسيط من المذهب، والاستقصاء ما أوردناه في البسيط إلى ما وراء ذلك من. المطولات: فالإمام الغزالي ألف أربعة كتب، الكتاب الأول سماه "الوجيز"، ثم توسط فسماه "الوسيط"، ثم بسطه فسماه "البسيط"، واختصر "الوجيز" في "الخلاصة"، فأصبحت أربعة كتب: "الخلاصة"
فـ"الوجيز" فـ"الوسيط" فـ"البسيط". هو يضرب الأمثال عملياً بأن هذا من العلم الممدوح، فقد كتب فيه وكتب في الأصول "المستصفى" الذي ما زال عمدة في أصول الفقه. إلى يومنا هذا، وكتب في العقيدة وكتب في المنطق وكتب في كل علم رأى أنه يحفظ الدين أو أنه يساعد المسلمين على رد الشبهات أو الإجابة على أصحاب الأديان الأخرى، أو من يريد أن يهتدي إلى الإسلام ونجيب عنه بما قد خطر في باله، أو الرد على الفلاسفة. أو نحو ذلك من الأمور الشرعية المرعية التي هي أيضاً من العلم الممدوح لأنها في النهاية تدعو إلى الله سبحانه وتعالى. نعم، وأما
الكلام فمقصوده حماية المعتقدات التي نقلها أهل السنة من السلف الصالح إلى غير ذلك، وما وراء ذلك طلب لكشف حقائق الأمور من غير طريقتها، ومقصود حفظ السنة تحصيل. رتبة الاقتصار بمعتقد مختصر وهو القدر الذي أوردناه في كتاب قواعد العقائد من جملة هذا الكتاب، والاقتصار فيه ما يبلغ قدر مائة ورقة وهو الذي أوردناه في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد، ويحتاج إليه لمناظرة مبتدع ومعارضة بدعته بما يفسدها وينزعها عن قلب العامي، وذلك لا ينفع إلا مع العوام قبل. اشتداد تعصبهم. وأما المبتدع بعد أن يعلم
من الجدل ولو شيئاً يسيراً فقلما ينفع معه الكلام. إنا لله وإنا إليه راجعون. نعم، فإنك إن أفهمته لم يترك مذهبه وأحال بالقصور على نفسه وقدّر أن عند غيره جواباً ما وهو عاجز عنه، وإنما أنت ملبس عليه بقوة المجادلة. وأما العامي إذا... صرف عن الحق بنوع من الجدل يمكن أن يُرَدَّ عليه بمثله قبل أن يشتد التعصب للأهواء، فإذا اشتد تعصبهم وقع اليأس منهم، إذ التعصب سبب يرسخ العقائد في النفوس، وهو من آفات العلماء السوء، فإنهم يبالغون في التعصب للحق
وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار فتنبعث. منهم الدعوة بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، وتتوافر بواعثهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نُسِبوا إليه، ولو جاءوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد للنبي أن يكون. رحمة مهداة، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، ولذلك فإن التعصب بهذه الطريقة الغبية للحق يضر ولا ينفع، وهو للحق ولكن لا بد من اللطف في
الكلام، ولا بد أن تهتم بمن تجادله، وأن تتمنى هدايته، وليس أن تتمنى ضلاله أو أن تنشق الأرض وتبلعه، وهذه القسوة التي نراها كثيراً. في القلوبِ نعم، ولكن لمّا كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا يستميل الأتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم، وسموه ذباً عن الدين ونضالاً عن المسلمين. وهذا هو الحاصل في النابتة الناشئة التي ظهرت عندنا، فكثيرٌ منهم يشتمون الناس ويشتمون العلماء من أجل أن يجمعوا الأتباع. فهذا ليس غرضه الله ولا يوصل إلى الله، هذا يوصل إلى زعامةٍ يريدها وإلى فخارٍ أو
تصدُّرٍ يسعى إليه، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وفيه على التحقيق هلاك الخلق ورسوخ البدعة في النفوس، وهذا لا يستجيب إليه العوام بعد التعصب كما رأيناه وسمعناه، وهنا يتدخل الله سبحانه وتعالى. نعم، وأما الخلافيات... التي أُحدِثَت في هذه العصور المتأخرة وأُبدِع فيها من التحريرات والتصنيفات والمجادلات ما لم يُعهَد مثلها في السلف، فإياك أن تحوم حولها، وإياك أن تحوم حولها، واجتنبها اجتناب السم القاتل، فإنها الداء العضال، وهو الذي ردَّ الفقهاء كلهم إلى طلب المنافسة والمباهاة على
ما سيأتيك. تفصيل غوائلها وآفاتها، وهذا الكلام ربما يُسمع من قائله فيُقال: "الناس أعداء ما جهلوا"، فلا تسنن ذلك، فعلى الخبير سقطت. فاقبل هذه النصيحة ممن ضيّع العمر فيه زماناً، وزاد فيه على الأولين تصنيفاً وتحقيقاً وجدلاً وبياناً، ثم ألهمه الله رشده وأطلعه على عيبه فهجره واشتغل بنفسه، فلا يغرنك قول من يقول: الفتوى عماد الشرع ولا تُعرف عِلَلُه إلا بعلم الخلاف، فإن علل المذهب مذكورة في المذهب، والزيادة عليها مجادلات لم يعرفها الأولون ولا الصحابة، وكانوا
أعلم بعلل الفتاوى من غيرهم. بل هي مع أنها غير مفيدة في علم المذهب ضارة مُفسدة لذوق الفقه، فإن الذي يشهد له حدس المفتي إذا... صحيحٌ أن ذوقه في الفقه لا يمكن إخضاعه لشروط الجدل في أكثر الأمر، فمن اعتاد طبعه رسوم الجدل أذعن ذهنه لمقتضيات الجدل وجبُن عن الإذعان لذوق الفقه، وإنما يشتغل به من يشتغل لطلب الصيت والجاه ويتعلل بأنه يطلب علل المذهب، وقد ينقضي عليه العمر ولا تنصرف همته. إلى عِلم المذهب فكم فكن من شياطين الجن في أمان، واحترز من شياطين الإنس فإنهم أراحوا
شياطين الجن من التعب في الإغواء والإضلال. فاللهم أبعدنا عنهم وأبعدهم عنا آمين يا رب. وإلى لقاء آخر نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.