مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 51 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رضي الله تعالى عنه وأرضاه وجعل الجنة مثوانا ومثواه ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين. ما زال يتكلم
عن العلم الممدوح والمذموم وما بينهما، وأن الممدوح إنما هو يوصلنا إلى الله سبحانه وتعالى فهو غاية المراد، فيقول اقرأ. وبالجملة، فالمرضي عند العقلاء أن تقدر نفسك في العالم وحدك مع الله، وبين يديك الموت والعرض والحساب والجنة والنار، وتأمل فيما يعنيك مما بين يديك، ودع عنك ما سواه، والسلام. وقد رأى بعض الشيخ
حديث أبي أمامة رضي الله. عنه قال الترمذي حسن صحيح، ثمَّ قرأ: "مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ". وفي الحديث في معنى قوله تعالى: "فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ" الآية، هم أهل الجدل الذين عناهم الله بقوله تعالى: "فَاحْذَرْهُمْ". وقال بعض السلف: يكون في آخر الزمان قوم يُغلق عليهم باب العمل ويُفتح. لهم باب الجدل وفي
بعض الأخبار أنكم في زمان ألهمتم فيه العمل وسيأتي قوم يلهمون الجدل وفي الخبر المشهور أبغض الخلق إلى الله تعالى الألد الخصم متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها وفي الخبر ما أوتي قوم المنطق إلا منعوا العمل والله أعلم إذاً فهناك ما يسميه أهل الله الباقيات الصالحات، والباقيات الصالحات هي العمل الذي يبقى لك بعد موتك. فمن هذه الباقيات الصالحات الصدقة الجارية، ومن هذه الباقيات الصالحات الذكر، ومن هذه الباقيات الصالحات
العبادة كركعتين في جوف الليل، ومن هذه الباقيات الصالحات قراءة القرآن وتدبره، وخيركم من تعلم القرآن وعلمه، ومن هذه الباقيات الصالحات رفع الهم. عن الناس والسعي في مصالحهم، وهكذا هناك ما يُسمى بالباقيات الصالحات، باقيات لأنها تبقى بعد الموت. ليس منها الجدل، وليس منها نوافل العلم، ولا العلم المذموم، ولا التصدر، ولا الجاه، ولا غير ذلك إلى آخره. ليست من الباقيات الصالحات، ولذلك ذهبت العبارات وسقطت الإشارات، ولم تبقَ إلا ركعات كنا نصليها في... في جوف الليل
عندما رأى أولياء الله في المنام، سُئلوا: "ماذا فعل الله بكم؟" فقال قوم منهم: "هذا الكلام من الباقيات الصالحات". ومن هذه العبارة قالوا إن الباقيات الصالحات هي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فهذه الكلمات الخمس يسميها أهل الذكر الباقيات الصالحات. محمد راشد وهو كان من كبار علماء الأزهر، وكان عندما تكونت هيئة كبار العلماء كان هو من هيئة كبار العلماء سنة ألف وتسعمائة وإحدى عشرة. الشيخ محمد راشد كان عجيباً غريباً في الاطلاع والعلم، والشيخ محمد راشد جلس مرة في الأزهر
لتفسير القرآن فبدأ في تفسير الحواميم فقال... قال أحد الطلاب: "يا مولانا، لا تقل لنا 'حميم' والله أعلم بمراده. نريد أن نفصّل معنى 'حميم'، ما معناها؟" فأجاب: "حسناً، تريد تفصيلاً؟ يعني هل نتوقف عند 'حميم' اليوم، أم تأخذ أسبوعاً أو شهراً أو سنة؟" فقال الطالب: "يعني ستستغرق سنة في ماذا؟" فرد عليه: "كما أقول لك هكذا". قال له الطالب: "حسناً، شهر إذن". جلس معنا فيها شهراً، فبقي الشيخ شهراً يفسر في سورة حم، وكنا نقول إنه ينقل من الكتب والمخطوطات نقولاً
عجيبة، حتى أنه نقل شيئاً من كتاب "هز القحوف شرح منظوم أبي شدوف". هذه منظومة هزلية وعليها شرح، فكان يقرأ ويأخذ منها ما يفيد في هذا الموضوع. وقد سجلوا عليه فوجدوا ستة وخمسين شرحاً لسورة حم. ستة وخمسين معنى وذهب الشهر، مضى الشهر، فقالوا: خلاص يا مولانا، عرفنا أن الله حق وستة وخمسين في كراسة. قال: ولكن اعلموا أن كل حاميم لها تفسير، يعني هناك سبع حواميم عندنا في القرآن، سبع حواميم وربع، ونزل وربع، هذه الأولى، ولكن كل حواميم لها تفسير آخر. الشيخ
كان بالإضافة... إلى أنه أستاذ كبير في التفسير، كان أستاذاً في الكيمياء وكان أستاذاً في تجليد الكتب وفي تذهيبها، وذهب إلى إسطنبول لدراسة هذا المعنى وقدومه. فلما التقى بالشيخ محمد أمين البغدادي رضي الله تعالى عنه، الشيخ محمد ذهب إليه في البيت فوجد مكتبة كبيرة ضخمة في حجرتين، والحجرات التي كانت في ذلك الزمان في ستة أمتار والكتب موجودة حتى السقف، فقال له: "يا شيخ محمد راشد، أقرأت كل هذا؟ أقرأت كل هذا؟" قال: "نعم، كل هذا أنا قرأته صفحة صفحة وكلمة كلمة، بل ولي عليها تعليقات". قال له:
"أين قلبك من هذا؟ أين وجدت قلبك؟" قال له: "لم أجده، لم أجد قلبي". بعد ذلك، قال: "فلماذا اتبعتك إذن؟ لكي أجد قلبي الذي لم أجده. ها قد كُتِبَ وانتهى الأمر". قال له: "ألا تفعل شيئاً لله؟" قال: "نعم، منذ أربعين سنة وأنا أصلي ركعتين في الليل لا يعلم عنهما أحد ولا أهلي". يقوم في الليل ويتسلل ويتوضأ ويصلي ركعتين لا يعرف عنهما أحد أبداً، لا أهله ولا زوجته. تَعرفُ عنه هذا الكلام منذ أربعين سنة وسار
مع الشيخ محمد أمين البغدادي ووجد قلبه، هو اعترف أنه وجد قلبه. وتُوفي الشيخ محمد راشد لأنه كان أكبر سناً من الشيخ محمد أمين البغدادي، يعني الكبير كان يتبع الصغير، وتوفي في حياة الشيخ محمد أمين البغدادي. ركعتان في جوف الليل الذي هو... يحكي عنهم الشيخ الغزالي هنا: ركعتان في جوف الليل لا يعرف عنهما أحد شيئاً، أي بينه وبين الله، فلا يكون فيهما رياء ولا سمعة، ولا أحد يريد أن يقول له: أنت شجاع أو أنت تقي، أو شيء من هذا القبيل. نعم، وفي بعض الأخبار: "إنكم في زمانٍ ألهمتم فيه العمل، وسيأتي قوم يُلهمون..." قال الحافظ العراقي: "لم أجده"، وقال عن
الأثر الآخر: "ما أوتي قوم المنطق إلا منعوا العمل" لم أجد له أصلاً. نعم، هذه - يعني هو لم يوردها الإمام الغزالي على أنها أحاديث، إنما لأنه قال: "في الخبر"، وكلمة الخبر عنده أوسع من الأحاديث، قد تكون واردة عن أحد الحكماء. قد تكون كلمة "المنطق" أي كلمة حديثة أو مصطلح حديث لم يكن في الكلام النبوي، فهي كلمة الخبر هنا وليست حديثاً حتى تُتَتَبَّع، ولذلك لا تجد هذه الأخبار وليست بأحاديث. نعم، الباب الرابع في سبب إقبال الخلق على علم الخلاف، وتفصيل آفات المناظرة والجدل، وشروط إباحتها. اعلم أن الخلافة بعد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم تولاها الخلفاء الراشدون المهديون وكانوا أئمة علماء بالله تعالى فقهاء في أحكامه وكانوا مستقلين بالفتاوى في الأقضية فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادرا في وقائع لا يستغنى فيها عن المشاورة فتفرغ العلماء لعلم الآخرة وتجردوا لها وكانوا يتدافعون الفتاوى وما يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا وأقبلوا على الله تعالى بكنه اجتهادهم كما نُقل من سِيَرهم، فلما آلت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم
لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول وملازم صفو الدين ومواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طُلِبوا هربوا وأعرضوا، فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات، فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم، فاشرأبوا لطلب العلم توصلاً إلى نيل العز وإدراك الجاه. قبل الولاة فأكبوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على الولاة وتعرفوا إليهم وطلبوا الولايات والصلات منهم، فمنهم من حُرم ومنهم من أنجح،
والمنجح لم يخلُ من ذل الطلب ومهانة الابتذال. فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة. بالإقبال عليهم إلا من وفّقه الله تعالى في كل عصر من علماء دين الله، وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار على علم الفتاوى والأقضية لشدة الحاجة إليها في الولايات والحكومات، ثم ظهر بعدهم من الصدور والأمراء من يسمع مقالات الناس في قواعد العقائد ومالت نفسه. إلى سماع الحجج فيها فغلبت رغبته
إلى المناظرة والمجادلة في الكلام فأكب الناس على علم الكلام وأكثروا فيه التصانيف ورتبوا فيه طرق المجادلات واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات وزعموا أن غرضهم الذب عن دين الله والنضال عن السنة وقمع المبتدعة كما زعم من قبلهم أن غرضهم بالاشتغال بالفتاوى الدين وتقلد أحكام المسلمين إشفاقًا على خلق الله ونصيحة لهم، ثم ظهر بعد ذلك من الصدور من لم يرتضِ الخوض في الكلام وفتح باب المناظرة فيه، لِما كان قد تولد من فتح بابه من التعصبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلى إراقة الدماء وتخريب البلاد، ومالت
نفسه إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى. من مذهب الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما على الخصوص، فترك الناس الكلام وفنون العلم، وانثالوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة، على الخلافيات والمناظرات لا غير. ولو مالت نفوس أرباب
الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة، أو إلى علم آخر من العلوم، لمالوا أيضاً معهم ولم... يسكتوا عن التعلل بأن ما اشتغلوا به هو علم الدين وأن لا مطلب لهم سوى التقرب إلى رب العالمين. الله سبحانه وتعالى يجعلنا متبعين لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ويقين هذا الذي يحذر منه ذلك الإمام الأعظم الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، وهذا هو الكلام الذي اعتمده من بعده. وأن الله سبحانه وتعالى لطف بهذه الأمة فلم يدخلها في اتباع شيء مما حظر فيه في غالب تأليفها بعد ذلك، بل قاموا
لنصرة السنة وللعودة إلى العربية وللعودة إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قام بذلك أئمة في كل عصر، ولله حجة قائمة في كل عصر، والنبي. صلى الله عليه وسلم يقول: "يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد لأمتي أمر دينها". وقد كان، فأرسل الله سبحانه وتعالى من العلماء على رأس كل مائة سنة من يجدد للأمة أمر دينها، ويُظهر لهم شيئاً جديداً في عصرهم، يسيرون فيه على سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، نعم. بيان التلبيس في تشبيه هذه المناظرات بمشاورات الصحابة ومفاوضات
السلف. اعلم أن هؤلاء قد يستدرجون الناس إلى ذلك بأن غرضنا من المناظرات المباحثة عن الحق ليتضح، فإن الحق مطلوب، والتعاون على النظر في العلم وتوارد الخواطر مفيد ومؤثر. هكذا كانت عادة الصحابة رضي الله. عنهم في مشاوراتهم كتشاورهم في مسألة الجد والإخوة وحد شرب الخمر ووجوب الغرم على الإمام إذا أخطأ كما نُقل من إجهاض المرأة جنينها خوفاً من عمر رضي الله عنه وكما نُقل من مسائل الفرائض وغيرها وما نُقل عن الشافعي وأحمد ومحمد بن الحسن ومالك وأبي يوسف وغيرهم من العلماء رحمهم الله. الله تعالى ويُطلعك على هذا التلبيس ما أذكره وهو أن التعاون
على طلب الحق من الدين ولكن له شروط وعلامات ثمان، الأول: ألا يشتغل به وهو من فروض الكفايات من لم يتفرغ من فروض الأعيان، ومن عليه فرض عين فاشتغل بفرض كفاية وزعم أن مقصده الحق فهو كاذب. ومثاله من يترك الصلاة في نفسه ويتجرد في تحصيل الثياب ونسجها ويقول غرضي أستر عورة من يصلي عرياناً ولا يجد ثوباً، فإن ذلك ربما يتفق ووقوعه ممكن كما يزعم الفقيه أن وقوع النوادر التي عنها البحث في الخلاف ممكن، والمشتغلون بالمناظرة مهملون لأمور هي فرض عين بالاتفاق ومن توجه عليه. رد الوديعة في الحال، فقام وأحرم
بالصلاة التي هي أقرب القربات إلى الله تعالى. عصى به فلا يكفي في كون الشخص مطيعاً كون فعله من جنس الطاعات ما لم يراعِ فيه الوقت والشرط والترتيب. يبقى في أولويات الرجل عليه وديعة، وبدلاً من أن يذهب ويحضرها، يقول الله. أكبرُ ويدخلُ في الصلاة، إذا يؤخر رد الوديعة، أهذه صلاة مقبولة؟ هذا تهرب وليس عبادة، لا يصح. وقِس على هذا كثيراً، بل إنه حصل في الناس أكثر من هذا. حدث أن انشغل بعض العُبّاد بالصلاة واستغرق فيها إلى أن ضيّع الفرض، يعني يجلس من الظهر للعصر يصلي
ركعتين. ركعتين ركعتين ركعتين ولم يصلِّ الظهر، ما هذا؟ هذا عبث. هو يظن أنه عبد الله وصلى مائة ركعة ما بين الظهر والعصر، إلا أن هناك أساسًا لم يفعله وهو أنه لم يصلِّ الظهر. كيف هذا؟ هذا عبث. هذه ليست الطاعة لأن العبادة مبنية على الطاعة وليست مبنية على كثرة العمل. هو يقول لك صلِّ أربع ركعات فأنت صليت مائة، هذا عبث. فلا بد من مراعاة الشرط والزمان والمكان والحال، وإلا فإننا نكون نفعل عبثًا. هذا أمر
مهم لأننا قد ابتلينا في عصرنا الحاضر بأشباه هذا، أنه يترك فرض العين من أجل أن يشتغل بفرض الكفايات، يترك شيئًا مختلفًا عليه من. أجل، ويقع في كبيرة من الكبائر تحت عناوين كثيرة. يترك شيئاً مختلفاً فيه يفعله، يفعل الشيء المختلف فيه، ويعق والديه. هذا عقوق الوالدين، هذه مصيبة. يقول: "لا، في الأصل أنا اعتكفت وقال لي لا تعتكف". خلاص، ما دام أبوك وأمك قالا لك لا تعتكف، فلا تعتكف. يعني أنت تستهين بالعبادة ويجلس يجادلك. في كلامٍ ما أنزل الله به من سلطان، ما الذي جعل ربنا سبحانه وتعالى يحنن قلب أبيه وأمه فقالا له: نعم يا بني، اذهب واعتكف وربنا يفتح
عليك؟ بخلاف الذي قال له: لا، لا تعتكف، لا تعتكف، فلا يعتكف؛ لأن الاعتكاف نافلة وطاعة الوالدين فرض، وهذا عقوق للوالدين وإحزان لهما. الوالدين ومعارضة الوالدين كبيرة، وهكذا لم نتخلص أبداً من هذه العقلية، العقلية التي هي عقلية الكم وليست عقلية الكيف. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.