مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 53 | أ.د علي جمعة

مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 53 | أ.د علي جمعة - إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الإحياء مع الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى، وفي كتاب العلم وهو الذي صدر به إحياءه، وما زال يتكلم ويدندن
حول العلم المحمود والعلم المذموم وما بينهما، وأن المحمود إنما هو. الذي يوصل إلى الله وهو الذي نلتزم فيه الأدب مع الله سبحانه وتعالى، والمذموم بخلافه، وما تردد بينهما إذا مال إلى الأول فهو منه وإذا مال إلى الآخر فهو منه. وهو يعدد أنواع وشروط المناظرات ويبين عيوبها، وقد تناولنا في حلقات سابقة سبعة من الشروط أو الأنواع، واليوم ندخل في الثامن. اقرأ قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين: الثامن
أن يناظر من يتوقع الاستفادة منه ممن هو مشتغل بالعلم، والغالب أنهم يحترزون من مناظرة الفحول والأكابر خوفاً من ظهور الحق على ألسنتهم، فيرغبون فيمن دونهم طمعاً في ترويج الباطل عليهم. ووراء هذه شروط دقيقة كثيرة، ولكن في هذه الشروط الثمانية ما يهديك إلى من يناظر لله ومن يناظر لعلة. نعم، فينبغي أن يكون الناظر لله مقصود العلم الممدوح عند الله، وأن تتعلم الأدب مع الله، وأن تفعل الشيء لله وليس لغرض الرياء والسمعة والتفاخر والجدل والمداهنة ونحو ذلك من آفات القلوب. نعم واعلم بالجملة
أن من لا يناظر الشيطان وهو مستولٍ على قلبه وهو أعدى عدو له ولا يزال يدعوه إلى هلاكه، ثم يشتغل بمناظرة غيره في المسائل التي المجتهد فيها مصيب أو مساهم للمصيب في الأجر، فهو ضحكة للشيطان وعبرة للمخلصين. يبقى إذاً الضمير هنا عائداً على الشيطان، يعني الشيطان. مُستاءٌ منه وهو لا يُناقِشُه، فذهب يُناقش أخاه المسلم وهو لا يُناقش الشيطان. نعم، ولذلك شمِتَ الشيطان به عندما غمسه في ظلمات الآفات التي نُعدِّدها ونذكر تفاصيلها. فنسأل الله حسن العون والتوفيق، آمين يا رب. نعم، بيان آفات المناظرة وما يتولد منها من مُهلِكات الأخلاق.
اعلم وتحقق أن المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة والإفحام وإظهار الفضل والشرف والتشدق عند الناس وقصد المباهاة والمماراة واستمالة وجوه الناس هي منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله المحمودة عند عدو الله إبليس، ونسبتها إلى الفواحش الباطنة من الكبر والعجب والحسد والمنافسة وتزكية النفس وحب الجاه وغيرها كنسبة شرب الخمر إلى الفواحش الظاهرة من الزنا والقذف والقتل والسرقة، وكما أن الذي خُيِّر بين الشرب وسائر الفواحش استصغر الشرب فأقدم عليه، فدعاه ذلك إلى ارتكاب بقية الفواحش في سكره، فكذلك من غلب عليه حب الإفهاء، وكذلك
من غلب عليه حب الإفحام والإفهام والغلبة في المناظرة وطلب الجاه والمباهاة، دعاه ذلك إلى إضمار الخبائث كلها في النفس وهيَّج فيها جميع الأخلاق المذمومة، وهذه الأخلاق ستأتي أدلة ذمها من الأخبار والآيات في ربع المهلكات، ولكننا نشير الآن إلى مجامع ما تهيجه المناظرة. يبقى إذن لا تحتقرن صغيرة، فإن الجبال من الحصى، وسموا الخمر أم الخبائث لأنها إذا شُربت ذهب العقل، وإذا ذهب العقل ارتكب الإنسان المحظورات دون سيطرة. على نفسه أو دون وعي الموبقات فيقتل ويرتكب الفاحشة ويكذب ويضيع المال إلى آخره، يصبح إذاً الخمر
أم الخبائث. لماذا بالرغم من أن شربها في حد ذاته لا يضر أحداً؟ هذا في ذاتها يعني أنها مجرد قليل من الخمر أشربه، لكن لا، فهي تحجب العقل، وعند حجبها للعقل تجعل الإنسان مندفعاً لفعل... كل موبقة ضد الآخرين أيضاً فهي أم الخبائث، فكذلك في عالم الباطن هناك أخلاق هي أم الخبائث، منها هذا الخلق الذي أشار إليه، فإنه إذا ما استجاب له تسلطت عليه كل أنواع الخبائث الباطنية: الحقد، الحسد، الكذب، الكبر من هذا المدخل. فلا
تحقر أبداً صغيراً، لا تستصغر الأمور لأنهم قالوا. هكذا قالوا: معظم النار من مستصغر الشرر، وقالوا: لا تحقرن صغيرة، إن الجبال من الحصى. نعم، فمنها الحسد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"، رواه أبو داوود من حديث أبي هريرة، وقال البخاري: لا يصح، وهو عند ابن ماجة. من حديث أنس بإسناد ضعيف، وفي تاريخ بغداد بإسناد حسن، ولا ينفك المناظر عن الحسد، فإنه تارة يَغلِب وتارة يُغلَب، وتارة يُحمَد كلامه وأخرى يُحمَد كلام غيره، فما دام يبقى
في الدنيا واحد يُذكَر بقوة العلم والنظر، أو يُظَن أنه أحسن منه كلاماً وأقوى نظراً، فلا بد أن يحسده ويحب. زوال النعم عنه وانصراف القلوب والوجوه عنه إليه والحسد نار محرقة، فمن ابتلي به فهو في العذاب في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأعظم. ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: "خذوا العلم حيث وجدتموه، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم في بعض، فإنهم يتغايرون كما تتغاير التيوس في الزريبة"، يعني هذه. راعاها علماء الجرح والتعديل وقالوا إنه لا يُسمع قول الأقران بعضهم في بعض لأن المعاصرة حجاب، فهو
لأنه معاصري يسمع عني فيتكلم في شيء من الانتقاص. من الذي سيعرف علمي من غير مؤاخذة ولا من غير تحيز ولا من غير ضدية؟ من بعدنا يأتي الذي بعدي يقرأ الكتب ويقول: الله. هذا كان عالِماً جيداً، في حين أن المعاصر قال: "لا، هذا ليس عالِماً أبداً، إنه يختلف معي في كذا وكذا"، ويتغاير بدلاً من أن يقول: "هذا وجه وهذا وجه" أو كذا، لا يقبل. فقالوا: لا يُسمع قول الأقران، يعني الأقران الذين في عصر واحد. لماذا؟ قالوا: لأن المعاصرة حجاب يحجب الحقيقة. عن الناس واستدلوا أن الإمام مالك كان بينه
وبين ابن أبي ذئب كلام، فالإمام مالك ينتقد ابن أبي ذئب وابن أبي ذئب ينتقد الإمام مالك، فلم يُسمع كلام كل واحد منهما في الآخر. لماذا؟ لأن الإمام مالك هذا رجل كبير وواضح علمه وكل شيء، لكنه كان غاضباً بعض الشيء. من ابن أبي ذئب وكذلك ما تكلم فيه الإمام مالك في محمد بن إبراهيم بن أبي يحيى، فمحمد بن إبراهيم بن أبي يحيى يقول عنه الشافعي: "حدثني الثقة". الإمام مالك غاضب منه، قال: "لا، إنه كان فاسقاً". هكذا هو الإمام البيهقي جاء بعدهم بقرنين أو ثلاثة قرون وقليل
وبحث في مروياتهم. محمد بن إبراهيم بن أبي يحيى فوجدها كلها سليمة، إذاً هذا البحث بيّن أن الرجل كان متنبهاً، ولم يكن الإمام مالك متنبهاً له، فقالوا: لا تسمع كلام الأقران في بعضهم، وعندما سألوهم قالوا: الله! وماذا عن الإمام الشافعي الذي يقول: حدثني الثقة، والإمام مالك يُفسِّقه؟ قالوا... لعله أخذ منه صغيراً فهابه، يعني الشافعي جالس والرجل محمد بن إبراهيم بن أبي إحدى رجل كبير، فالإمام الشافعي جالس أمامه متأدباً وهائباً، يعني عليه شيء من الجلال والمهابة، لكن الإمام مالك سنه مساوٍ لسنه فليس هناك مهابة. قال: من عرفته صغيراً لا توقره كبيراً،
لأنني كنت ألعب معه. فلن يحدث شيء. قالوا هكذا، لكن كل هذا الإمام. ها هو ابن عباس يقول: "لا تسمعوا كلام الأقران بعضهم في بعض، فإنهم يتغايرون كما تتغاير التيوس في الزريبة". التيس مع التيس ينطحان بعضهما هكذا، يجلسان ينطحان بعضهما. فهذا لا، لا تأخذ بالنطحة، هؤلاء يلعبون، يلعبون مع بعضهم. هذان التيسان الصغيران يلعبان. معاً فليمررها؛ ولذلك درج العلماء على أنهم لا يكرهون أحداً، فيذهبون إلى الكل ويأخذون من هنا ومن هناك. حتى لو شتم الشيخ الكبير أو فعل شيئاً ما للشيخ الثاني، وهم يتصارعون، فأنا لا أتدخل، وإنما أذهب إلى
هنا وإلى هناك وإلى هناك. كان السلف الصالح يفعل هكذا، نعم. ومنها التكبر والترفع على الناس، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "من تكبر وضعه الله، ومن تواضع رفعه الله". قال: رواه الخطيب من حديث عمر بإسناد صحيح، وقال: غريب من حديث الثوري. وابن ماجه روى نحوه من حديث أبي سعيد بسند حسن. وقال صلى الله عليه وآله وسلم حكاية عن... قال الله تعالى: "العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قصمته". رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة، وهو عند مسلم بلفظ "الكبرياء رداؤه" من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما.
ولا ينفك المناظر عن التكبر على الأقران والأمثال والترفع إلى فوق قدره حتى. إنهم يتقاتلون على المجالس ويتنافسون فيها في المواقع المرتفعة والمنخفضة، والقرب من وسادة الصدر والبعد عنها، والتقدم عند مضايق الطرق. وربما يتعلل الجاهل والمخادع منهم بأنه يريد صيانة عز العلم، وأن المؤمن منهي عن إذلال نفسه، كما جاء في الحديث: "نهي المؤمن عن إذلال نفسه" الذي رواه الترمذي وصححه. وابن ماجه من حديث حذيفة "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه". فيُعبِّر عن التواضع الذي أثنى الله عليه وسائر أنبيائه بالذل، وعن التكبر الممقوت عند الله بعز الدين،
تحريفاً للاسم وإضلالاً للخلق به، كما فعل في اسم الحكمة والعلم وغيرهما. يحكي هذا مشايخنا أن أحد... كان الشيخ الأحمد الظاهري من شيوخ الأزهر الكبار. توفي الناس ولم يعرف أحد عنهم. وكانت عند الشيخ الأحمد الظاهري خادمة ضعيفة تعمل في البيت، فتوسلت إليه أن يأخذ الولد عنده لمدة خمس سنوات في الأزهر. فأخذه وعلّمه القرآن وأنفق عليه حتى حصل على شهادة العالمية. وفي يوم حصوله على العالمية، كان الذي يمتحنه الشيخ. الظاهري أحد أعضاء اللجنة، وبعد ذلك أصبح الشيخ الظاهري
شيخاً للأزهر، أي أنه كان شيخاً للأزهر. كان في مرحلة العالمية، انتهى منها وحصل على العالمية، ونطقوا بالحكم. فقام هذا الولد وقال له: "يا شيخ الأحمدي"، فأجابه: "نعم"، فقال له: "الآن تساوت الرؤوس". كيف تساوت الرؤوس؟ ما هذا؟ هذا أبوك الذي رباك. شيخك الآن مباشرةً، فيقولون للولد: "أنت تقول هكذا، العزة للعلم". هذا نفس الكلام الذي يقوله الشيخ هنا: "عزة للعلم". هذه ليست عزة للعلم، هذه التي تقدم وتُجرئ الناس. بدلاً من أن تقول لهم: "الشيخ هكذا"، فالشيخ الظاهري قال له: "نعم يا بني، تساوت الرؤوس".
حسناً، هذا هو الشيخ الظاهري، نعرفه، هذا الولد. مَنْ نحن لا نعرفه ذهب في التاريخ لا نعرفه ولا نعرف ما اسمه ولا القصة ولا الرواية ولا أي شيء، وليس له شيء ولا له كتاب ولا له نفع أو غير ذلك. الله كريم لأن الشيخ الأحمدي رجل عالم، وهو لم يفعل شيئاً يستحق أن يعاقب عليه، لقد زل. يعني أستميحك عذراً وأنت تريد رد الإهانة بعزة، فإذا هذا المسكين قد اختلط عليه الفرق بين التواضع وهو مأمور به، وبين التكبر الذي اعتقد أنه عزة للعلم، فقال: هذا مكار خداع. هذا الصنف لأنه يخدع
نفسه ويبرر لنفسها ما ليس لها. إلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.