مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 54 | أ.د علي جمعة

مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 54 | أ.د علي جمعة - إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين لإمام الأئمة حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى، نعيش هذه اللحظات وهو ما زال يتحدث في
كتاب العلم، ويخبرنا عن ملامح ومعالم العلم المحمود الذي يوصلنا إلى الله، والعلم المغشوش والفاسد الذي... يحجبنا عن الله وما تردد من العلوم بينهما بقدر قربه من الممدوح أو من المقدوح. اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين، في بيان آفات المناظرة وما يتولد منها من مُهلكات الأخلاق، قال: ومنها الحقد. فلا يزال المناظِر ومنها الحقد، فلا يكاد المناظِر يخلو عنه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "المؤمن ليس بحقود"، قال:
لم أقف له على أصل، وورد في ذم الحقد ما لا يخفى، ولا نرى مناظراً يقدر على ألّا يضمر حقداً على من يحرك رأسه من كلام خصمه ويتوقف. في كلامه فلا يقابله بحسن الإصغاء بل يضطر إذا شاهد ذلك إلى إضمار الحقد وتربيته في نفسه وغاية تماسكه الإخفاء بالنفاق ويترشح منه إلى الظاهر لا محالة في غالب الأمر وكيف ينفك عن هذا ولا يتصور اتفاق جميع المستمعين على ترجيح كلامه واستحسان جميع أحواله في إرادة وإصداره بل لو صدرَ من خَصمِه أدنى سببٍ فيه قلةُ مبالاةٍ بكلامِه أن غرسَ في صدرِه حقداً لا يقتلعُه مدى الدهرِ إلى آخرِ العمرِ، وكأنه
قد عكَّر باطنَه بهذه المناظرةِ، وكلُّ هذا لا يكونُ إلا حجاباً يحجبُ الإنسانَ قلبَه ونفسَه عن اللهِ سبحانَه وتعالى. نعم، ومنها الغيبةُ وقد شبَّهها اللهُ بأكلِ الميتةِ ولا لا يزال المناظر مثابراً على أكل الميتة، فإنه لا ينفك عن حكاية كلام خصمه ومذمته، وغاية تحفظه أن يصدق فيما يحكيه عليه ولا يكذب في الحكاية عنه، فيحكي عنه لا محالة ما يدل على قصور كلامه وعجزه ونقصان فضله، وهو الغيبة، فأما الكذب فبهتان، وكذلك لا... يقدر على أن يحفظ لسانه عن التعرض لعرض من يُعرض عن كلامه، ويصغي إلى خصمه ويُقبل
عليه حتى ينسبه إلى الجهل والحماقة وقلة الفهم والبلادة. ومنها تزكية النفس، قال الله تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}، وقيل لحكيم: ما الصدق القبيح؟ فقال: ثناء المرء على نفسه، ولا يخنو. المناظر من الثناء على نفسه بالقوة والغلبة والتقدم بالفضل على الأقران، ولا ينفك في أثناء المناظرة عن قوله: "لست ممن يخفى عليه أمثال هذه الأمور، وأنا المتفنن في العلوم، والمستقل بالأصول، وحفظ الأحاديث"، وغير ذلك مما يتمدح به تارة على سبيل الصلف، وتارة للحاجة إلى ترويج كلامه، ومعلوم
أن الصلف. المديح والتباهي مذمومان شرعاً وعقلاً حتى لو كان فيهما صدق وكان هذا مطلعاً أو كان سبحان الله عنده مزيد علم أو هو الأعلم، لكن هذا المديح بهذه الطريقة فإنه مكروه أو حرام. نعم، ومنها التجسس وتتبع عورات الناس، وقد قال تعالى: "ولا تجسسوا"، والمناظر لا ينفك عن طلب عثرات أقرانه وتتبع. عورات خصومه حتى إنه ليخبر بورود مناظر إلى بلده فيطلب من يخبره ببواطن أحواله ويستخرج بالسؤال معايبه حتى
يجعلها ذخيرة لنفسه في فضحه وإخجاله إذا احتاج إليه، حتى أنه يستكشف عن أحوال صباه وعن عيوب جسده لعله يعثر على زلة أو على عيب. به من قرع أو غيره فعساه يعثر على هفوة أو على عيب به من قرع أو غيره، ثم إذا أحس بأدنى غلبة من جهته عرّض به إن كان متماسكاً، ويستحسن ذلك منه ويُعَدّ من لطائف التسبب، ولا يمتنع عن الإفصاح به إن كان متبجحاً بالسفاهة والاستهزاء كما حُكي عن قومٌ من أكابر المناظرين المعدودين من فحولهم، وقد
رأينا هذا الحال الذميم. وكان بعض الناس يرد على بعض بكتب ورسائل، فقال أحدهم: "من فن الرد ألا ترد بكل شيء، بل تدّخر لرد الرد". إنه لا ينصح لله ولا لرسوله، وإنما يكتب ويرد على قدر معين من أجل أن يستدرج. الخصم للرد عليه فيرد هو على الرد، ورأينا ما هو أقبح من ذلك وما دخل في حدود الكذب. رأيت أحدهم رد على مشتغل بالحديث فطبع
من الرد خمسين نسخة وأرسل منها نسخة للمردود عليه حتى يرد عليها، فقلت له: ولِمَ تطبع خمسين نسخة؟ قال: بعد أن يرد وينشر أُغيِّر في... ردِّ واطبع طبعة واسعة فيتبين كذبه. قلت له: "هو الكذاب؟ هو الكذاب أم أنت الكذاب؟". هذا صرَّح له وحزن جداً وانزعج مني أني قلت: "حسناً، ومن الكذاب يعني؟ أنت ترد عليه ثم
تغير كلامك حتى يتهم الناس ظلماً بالكذب، وتغير أنت كلامك من أجل هذا. إلى هذا الحد وصلت؟" المناظرات طبعاً هذا يدخل في إطار الكذب والافتراء الذي يتحدث عنه الشيخ. الفقه والحديث والتفسير من غير تصوف بلاء، يتحول إلى علوم الدنيا وإلى منازعات بين الناس. نعم، ومنها الفرح لإساءة الناس والحزن لسرورهم، ومن لا يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه فهو بعيد عن أخلاق المؤمنين. فكل من... طلب المباهات بإظهار الفضل يسره لا محالة ما يسوء أقرانه وأشكاله الذين يساوونه في الفضل، ويكون التباغض
بينهم كما بين الضرائر. فكما أن إحدى الضرائر إذا رأت صاحبتها من بعيد ارتعدت فرائصها واصفر لونها، فهكذا ترى المناظر إذا رأى مناظراً تغير لونه واضطرب عليه فكره، فكأنه يشاهد شيطاناً. ماردًا أو سبعًا ضاريًا، فأين الاستئناس والاسترواح الذي كان يجري بين علماء الدين عند اللقاء، وما نُقل عنهم من المؤاخاة والتناصر والتشارك في السراء والضراء، حتى قال الشافعي رضي الله عنه: "العلم بين أهل الفضل والعقل رحم متصل"، فلا أدري كيف يدّعي الاقتداء بمذهبه جماعة صار العلم بينهم عداوة قاطعة. فهل يُتصوَّر أن ينسب الأنس بينهم
مع طلب الغلبة والمباهاة؟ هيهات هيهات! وكفاك بالشر شراً أن يُلزمك أخلاق المنافقين ويُبرئك من أخلاق المؤمنين والمتقين. إذ هذا هو المفتاح: أخلاق المنافقين في مقابل أخلاق المؤمنين. والمقصود أن العلم المحمود هو الذي يوصلك إلى الله بالتخلية والتحليق، نعم، ومنها النفاق فلا يحتاج. إلى ذكر الشواهد في ذمهم وهم مضطرون إليه، فإنهم يلقون الخصوم ومحبيهم وأشياعهم ولا يجدون بداً من التودد إليهم باللسان وإظهار الشوق والاعتداد بمكانتهم وأحوالهم، ويعلم ذلك المخاطِب والمخاطَب وكل من يسمع منهم أن ذلك كذب وزور ونفاق وفجور، فإنهم متوددون
بالألسنة متباغضون بالقلوب، نعوذ بالله العظيم منهم، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا تعلم الناس العلم وتركوا العمل وتحابوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب وتقاطعوا في الأرحام لعنهم الله عند ذلك فأصمهم وأعمى أبصارهم". رواه الحسن. قال: الحديث رواه الطبراني من حديث سلمان بإسناد ضعيف، وقد صح ذلك بمشاهدة هذه الحالة، يعني هذا الكلام وإن كان السند ضعيفاً إلا... إنه من الواضح والمعلوم أن الناس كانوا يسمونها في العرب الأوائل "تقبيل اللحية"، أي أن قبلته تأتي على لحيته هكذا، وما في القلب يبقى في القلب. والعامة يقولون: "من الأمام
مرآة وفي القفا سلاية"، والسلاية تعني الشوكة، أي كأنه يعانقه وفي يده خنجر سيطعنه به، فإذا حضر مدح وهلل وما إلى ذلك. لكي يُقال عنه أنه كريم الإفادة، وإذا ولّى يتحدث عنه بالسوء وليس يواجهه بما يستحق، أو ينصح، أو ما شابه ذلك، أو يمسك لسانه أثناء الغيبة. نعم، ومنها الاستكبار عن الحق وكراهته والحرص على المماراة فيه، حتى إن أبغض شيء إلى المناظر أن يظهر الحق على لسان خصمه، ومهما ظهر استعد. لجحده وإنكاره بأقصى جهده وبذل غاية إمكانه في المخادعة والمكر والحيلة لدفعه حتى تصير المماراة فيه
عادة طبيعية، فلا يسمع كلاماً إلا وينبعث من طبعه داعية الاعتراض عليه والمراء في مقرره، والمراء حتى يغلب ذلك على قلبه في أدلة القرآن وألفاظ الشرع فيضرب البعض منها بالبعض والمراء في. مقابلة الباطل محذور، إذ ندب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ترك المراء، فقال: "من ترك المراء بالحق على الباطل بنى الله له بيتًا في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتًا في أعلى الجنة". رواه الترمذي وابن ماجه من حديث
أنس مع اختلاف. قال الترمذي: حديث حسن. وقد سوّى الله تعالى بين من افترى على الله كذباً وبين من كذب بالحق، فقال تعالى: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه"، وقال تعالى: "فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه". نعم تفضل، ومنها الرياء وملاحظة الخلق والجهد في استمالة قلوبهم. وصرف وجوههم، والرياء هو الداء العضال الذي يدعو إلى أكبر الكبائر كما سيأتي في كتاب الرياء. والمناظر لا يقصد إلا الظهور عند الخلق وانطلاق ألسنتهم بالثناء عليه. فهذه
عشر خصال من أمهات الفواحش الباطنة سوى ما يتفق لغير المتماسكين منهم من الخصام المؤدي إلى الضرب. واللَكْمُ واللَّطْمُ وتمزيقُ الثيابِ والأخْذُ باللِّحَى وسَبُّ الوالدين وشَتْمُ الأساتذةِ والقَذْفُ الصريحُ، فإنَّ أولئك ليسوا معدودين في زُمرة الناس المُعتبرين، وإنما الأكابر والعقلاء منهم هم الذين لا ينفكُّون عن هذه الخِصال العشر. نعم، قد يَسلم بعضُهم من بعضها مع مَن هو ظاهرُ الانحطاط عنه أو ظاهرُ الارتفاع عليه أو هو بعيداً عن بلده وأسباب معيشته، ولا ينفك أحد منهم عنه مع أشكاله المقارنين له في الدرجة. يعني
هؤلاء الناس ربطوا المناظرة، وكانت كثيرة في عصر الغزالي وما قبله، بلقمة العيش؛ لأن الأمراء كانت تصرف على هذه المناظرات العلمية وتعدها من المذاكرة. فعندما يدخل في لقمة العيش، ولا يُسمع هذا أبداً. يقول لك آفات أو ليست آفات، هذا أمر متكرر في عصرنا في الإعلام. تجد أخانا قد ربط لقمة عيشه بظهوره، فإذا نصحته بأن هذا فيه آفات وفواحش لا ينتهي أبدًا لأنها مصدر رزقه، ويتساءل كيف سيطعم الأطفال؟ وأصبحت هذه مصيبة مثل هذه الآفات بالضبط، ولكن تغير المجال، فبدلاً
من المناظرة أصبحوا يسمونها الآن الدعوة. والداعية والدعاة الجدد وهكذا، طيب ما هم الدعاة الجدد؟ ماذا درسوا؟ ماذا عملوا؟ ماذا أصلحوا؟ ماذا حلّوا؟ بماذا تحلّوا؟ الله عليم. نسأل الله السلامة، فإذا نصحت وقلت هذا لا يجوز أو كذا لا يصح، قل ما تشاء لمن تخاطبه، لأن القضية كلها مرتبطة بأموال أصبحت مرتبة ومتدفقة لا يستطيع أن يستغني عنها. نعم ثم يتشعب من كل واحدة من هذه الخصال العشر عشر أخرى من الرذائل لم نطول بذكرها وتفصيلها. أين هو
الذي يقرأ ومن الذي يناجيه ولا يحس بالخشوع في قلبه مع استغراق العمر في العلوم التي تعين في المناظرة مع أنها لا تنفع في الآخرة من تحسين العبارة وتسجيع. اللفظ وحفظ النوادر إلى غير ذلك من أمور لا تحصى، والمناظرون يتفاوتون فيها على حسب درجاتهم، ولهم درجات شتى، ولا ينفك أعظمهم دينًا وأكثرهم عقلًا عن جمل
من مواد هذه الأخلاق، وإنما غايته إخفاؤها ومجاهدة النفس بها. واعلم أن هذه الرذائل لازمة للمشتغل بالتذكير والوعظ أيضًا إذا كان قصده طلب. القبول وإقامة الجاه ونيل الثروة والعزة وهي لازمة أيضاً للمشتغل بعلم المذهب والفتاوى إذا كان قصده طلب القضاء وولاية الأوقاف والتقدم على الأقران، وبالجملة هي لازمة لكل من يطلب بالعلم غير ثواب الله تعالى في الآخرة. فالعلم لا يُهمِل العالِم بل يُهلكه هلاك الأبد أو يُحييه حياة الأبد. أشد الناس... عذاباً
يوم القيامة عالِمٌ لا ينفعه الله بعلمه، فلقد ضرَّه مع أنه لم ينفعه، وليته نجا منه رأساً برأس، وهيهات هيهات. فخطر العلم عظيم، وطالبه طالب الملك المؤيد والنعيم السرمدي، فلا ينفك عن الملك أو الهلك، وهو كطالب الملك في الدنيا، فإن لم يتفق له الإصابة في الأموال لم يطمع. في السلامة من الإذلال، بل لا بد من لزوم أفضح الأحوال، والله أعلم. وإلى لقاء آخر،
نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. شكراً.