مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 55 | أ.د علي جمعة

مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 55 | أ.د علي جمعة - إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، وهو لا يزال يحدثنا في كتاب العلم عن الممدوح والمقدوح وما يتردد بينهما، وأن الإنسان لا بد أن يخلي قلبه من كل قبيح
وأن يحليه. بالصحيح وهو يطلب العلم ويؤديه مع الإمام الغزالي الذي يراعي مقصد الشريعة الغراء وهي في النهاية عبادة الله، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، وأنه يشوش على الإنسان أثناء سيره إلى الله ببعض الملهيات، والملتفت لا يصل، وأنه يجب علينا أن نتخلى وأن نعمل على التخلية من هذه الزوائد إن... صحيح التعبير أو الآفات أو الفواحش ولو كانت باطنة. اقرأ ما قاله الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في
الدارين آمين: "فإن قلت إن في الرخصة في المناظرة فائدة وهي ترغيب الناس في طلب العلم، إذ لولا حب الرياسة لاندرست العلوم، فقد صدقت فيما ذكرته". من وجهٍ ولكنه غير مفيد، إذ لولا الوعد بالكرة والصولجان واللعب بالعصافير ما رغب الصبيان في المكتب، وذلك لا يدل على أن الرغبة فيه محمودة. ولولا حب الرياسة لاندرس العلم، ولا يدل ذلك على أن طالب الرياسة ناجٍ، بل هو من الذين قال - صلى الله عليه وسلم - فيهم: "إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم"، رواه النسائي من حديث أنس بإسناد صحيح. وقال
صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"، متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. فطالب الرياسة في نفسه هالك وقد... يصلح بسببه غيره إن كان يدعو إلى ترك الدنيا وذلك فيمن كان ظاهر حاله في ظاهر الأمر ظاهر حال علماء السلف ولكنه يضمر قصد الجاه فمثاله مثال الشمع الذي يحترق في نفسه ويستضيء به غيره فصلاح غيره في هلاكه فأما إذا كان يدعو إلى طلب الدنيا فمثاله مثال النار المحرقة التي تأكل نفسها وغيرها، فالعلماء ثلاثة: أما مُهلِك نفسِه وغيره، وهم المصرِّحون بطلب الدنيا
والمقبلون عليها، وإما مُسعِد نفسِه وغيره، وهم الداعون الخلق إلى الله سبحانه ظاهراً وباطناً، وإما مُهلِك نفسِه مُسعِد غيره، وهو الذي يدعو إلى الآخرة وقد رفض الدنيا في ظاهره وقصده في الباطن قبول الخلق وإقامة الجاه. فانظر من أي الأقسام أنت ومن الذي اشتغلت بالاعتداد له، فلا تظنن أن الله تعالى يقبل غير الخالص لوجهه تعالى من العلم والعمل، وسيأتيك في كتاب الرياء، بل في جميع ربع المهلكات ما ينفي عنك الريبة فيه إن شاء الله تعالى. بسم الله ما شاء الله.
نعم، الباب الخامس في آداب المتعلم والمعلم. أما المتعلم، فآدابه ووظائفه الظاهرة كثيرة، ولكن تنتظم متفرقاتها في عشر جمل. الوظيفة الأولى: تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف، إذ العلم عبادة القلب وصلاة السر وقربة الباطن إلى الله تعالى، وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة. إلا بتطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث، فكذلك لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته من خبائث الأخلاق ورذائل الأوصاف. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "بُنِيَ الدين على النظافة". قال:
لم أجده هكذا. وفي الضعفاء لابن حبان من حديث عائشة رضي الله عنها: "تنظفوا فإن الإسلام نظيف". وللطبراني في الأوسط بسند ضعيف جداً من حديث ابن مسعود: "النظافة تدعو إلى الإيمان"، وهو كذلك باطناً وظاهراً. قال الله تعالى: "إنما المشركون نجس"، تنبيهاً للعقول على أن الطهارة والنجاسة غير مقصورة على الظواهر المدركة بالحس. فالمشرك قد يكون نظيف الثوب، مغسول البدن، ولكنه نجس الجوهر، أي باطنه ملطخ بالخبائث. والنجاسة عبارة عما يُجتنب ويُطلب البعد منه، وخبائث صفات الباطن أهم بالاجتناب، فإنها مع خبثها في الحال مهلكات في المآل،
فإنها مع خبثها في الحال مهلكات في المآل، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب" متفق عليه من حديث أبي طلحة الأنصاري رضي الله. عنه والقلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم ومحل استقرارهم، والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة فأنّى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب؟ ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب إلا بواسطة الملائكة، وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل
رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء، وهكذا. ما يُرسَلُ من رحمةِ العلومِ إلى القلوبِ، وهكذا ما يُرسَلُ من رحمةِ العلومِ إلى القلوبِ، إنما تتولاها الملائكةُ الموكَّلونَ بها، وهم المقدَّسون المطهَّرون المبرَّؤون من الصفاتِ المذمومةِ، فلا يلاحظونَ إلا طيباً، ولا يَعمُرونَ بما عندهم من خزائنِ رحمةِ اللهِ إلا طيباً طاهراً، ولستُ أقولُ المرادَ بلفظِ البيتِ هو القلبُ وبالكلبِ. هو الغضب والصفات المذمومة، ولكني أقول: هو تنبيه عليه، وهناك فرق بين تعبير الظواهر إلى البواطن وبين التنبيه للبواطن من ذكر
الظواهر مع تقرير الظواهر. فافترق، فافترق، فافترق عن الباطنية بهذه الدقيقة، فإن هذه طريق الاعتبار، وهو مسلك العلماء، وهو مسلك العلماء والأبرار، إذ معنى الاعتبار أن يعبر مما ذُكر، إذ معنى... الاعتبار أن يعبر ما ذُكر إلى غيره فلا يقتصر عليه، كما يرى العاقل مصيبة لغيره فتكون فيها له عبرة بأن يعبر منها إلى التنبه لكونه أيضاً عرضة للمصائب، وكون الدنيا بصدد الانقلاب. فعبوره من غيره إلى نفسه ومن نفسه إلى أصل الدنيا عبرة محمودة، فاعبر أنت أيضاً من البيت الذي...
هو بناء الخلق إلى القلب الذي هو بيت من بناء الله تعالى، ومن الكلب الذي ذُمّ لصفته لا لصورته، وهو ما فيه من سبعية ونجاسة إلى الروح الكلبية وهي السبعية. إذ هنا أصل ذلك كله قوله تعالى في عبارة وجيزة معجزة يشرحها الغزالي رحمه الله تعالى في كل ما ذكر. واتقوا الله ويعلمكم الله، فكانت التقوى بالنسبة للعلم كالطهارة بالنسبة للصلاة. التنبيه والإشارة التي أشار بها لتفسير هذه الآية هي ذلك الربط بين الطهارة والصلاة. ومعلوم أن الصلاة لا تُقبل ولا تقع شرعاً إلا
إذا تقدمتها طهارة. كذلك العلم فإنه لا يُعتد به شرعاً ولا يُؤخذ. به ولا يكون موصلاً إلى الله ولا يُعَدُّ في حسنات الإنسان إلا إذا كان بعد تطهير القلب بواسطة التقوى، والتقوى كما قالوا: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. يعني الإنسان إذا كان متحلياً بهذه الصفات فهو يتقي الله سبحانه وتعالى. وقال: اتركْ الذنوب صغيرها وكبيرها، ذاك التقَى واصنع كماشاً فوق أرض الشوك يحذر ما يرى، لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى أيضاً.
تخلية الأمر من المعاصي كبيرها وصغيرها، فهذه الآية الكريمة كأنها مرتكز الغزالي وهو يشرحها بكل هذا الشرح ويشير إلى هذا المعنى، وهو معنى أن التقوى بالنسبة للعلم كالطهارة بالنسبة للصلاة. هكذا يتضح الحال. ويكون أمراً سهلاً ومعلناً. القضية الثانية أن الإمام الغزالي رحمه الله تعالى صرح هنا بما قد ذكرناه من قبل، وهو الفرق بين الإشارة وبين التفسير الباطني الذي ينكر الظاهر. فتكلم هنا في كلمات ليتك يا شيخ محمد تلتقط هذه الفائدة، فهي فائدة عظيمة لأنها
واضحة في كلامهم، لكنه هنا... صرح بها وقال إن هناك فارقًا بين ما أقول وبين الباطني، حيث إنني لا أنكر الحقائق والظاهر، بل إنني أقول إن هذا ينبه إلى هذا. هذه هي الإشارة، وهذا الإنكار هو الباطنية. الباطنية تصل بنا إلى إنكار الدين وإلى هدمه وإلى ألا نعرف إلى ما ندعو، يعني ننتظر هذا الضلالي. الذي يؤول الصلاة ويؤول الحج ويؤول الجهاد ويؤول البيع ويؤول الزواج ويؤول الطلاق إلى أشياء من توهيماته، ننتظره إذن هو لكي يقول لنا ما المعنى، وليس في لغة ولا في إجماع ولا في مقاصد ولا في مآلات، فذهبت الشريعة بالكلية، ولذلك كانوا
يسمون حالهم فضائح الباطنية، هذه فضيحة وليست. نصيحة الإمام الغزالي كما رأينا، أي أنه كان يقول عن نفسه إن بضاعته في الحديث مزجاة، فهو يروي الحديث بمعناه ولكنه يرويه بألفاظ بعيدة عما ورد. كما شاهدنا هنا أنه يتحدث عن النظافة فقال: "لم أجد له هذا اللفظ، وما وجدته إلا أنه أقرب شيء إليه هكذا"، وأخرج الترمذي حديثاً أقرب. من هذا أن الله نظيف يحب النظافة، هذا يعني أبلغ فيه أن الإسلام بُني على النظافة وكذلك قضية أخرى، حديث آخر ضعيف: "نظفوا أفنيتكم". لكن هنا جعل الإسلام مبنياً
على النظافة، وهو هكذا صحيح، فهو مبني على الوضوء وعلى التطهر من النجاسات وعلى الاغتسال، والطهارة ممدوحة في كل. في القرآن وفي السنة معلومة أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، يعني بالنص هكذا أن الله يحب التوابين طهارة القلب، ويحب المتطهرين. فيه رجال يحبون أن يتطهروا بالنص، يعني نعم الإسلام هو النظافة بدون شك. باب النجاسة وباب الأحداث بدون شك كل المسلمين اتفقوا على أن... النظافة من الإيمان، لكن هل هذا حديث هكذا؟ وأيضاً الإمام الغزالي يستعمل
لغات أهل اللغة لا يرضونها، ومنها "طبيعياً"، ف"طبيعية" هي فعيلة، لكن النسبة إليها "فعلي"، "بديهة" "بدهي"، "طبيعة" "طبيعي"، "غريزة" "غريزي"، وقس على هذا. لكنه يعمل على ما هو شائع: "طبيعة" "طبيعي"، وتتبعوا أن هذا كان. لغة عصرهم، أي أن كل الأدباء والفقهاء كانوا يكتبون هكذا. أما في اللغة، فما كان على وزن فعيلة يصبح فَعْلي وليس فعيلي. طبعاً الشيخ محمد يخالفني في هذا ويقول: "لا، إن أنستاس ماري الكرملي كتب مقالة في صفحة مائة وستة عشر". أليس كذلك يا شيخ محمد؟ وافقتنى بعد ذلك. الحمد لله. يا الله!
واعلم أن القلب المشحون بالغضب والشره إلى الدنيا والتكالب عليها والحرص على تمزيق أعراض الناس هو كلب في المعنى وقلب في الصورة. فنور البصيرة يلاحظ المعاني لا الصور، والصور في هذا العالم غالبة على المعاني، والمعاني باطنة فيها. وفي الآخرة تتبع الصور المعاني وتغلب المعاني، فلذلك يُحشر كل شخص على... صورته المعنوية فيُحشر الممزق لأعراض الناس كلباً ضارياً، والشره إلى أموالهم ذئباً عادياً، والمتكبر عليهم في صورة نمر، وطالب الرئاسة في صورة أسد، وقد وردت بذلك الأخبار وشهد به الاعتبار عند ذوي البصائر والأبصار. قال عند قوله: "فيُحشر
الممزق لأعراض الناس كلباً ضارياً" حديث حشر الممزق لأعراض الناس في صورة. كلب ضار رواه الثعلبي في التفسير من حديث البراء بسند ضعيف. نعم، فإن قلت: كم من طالب! طبعاً هي الآخرة عكس الدنيا، قوانينها عكس الدنيا. فإذا كانت الصور هي الظاهرة والمعاني هي الباطنة، فهناك على العكس المعاني ستكون هي الظاهرة والصور هي التي ستكون باطنة، فسيكون إنساناً نعم، ولكن له... هيئة كأنها هيئة حيوان نمر أو أسد أو كلب أو ما شابه ذلك من هذه الصفات التي لا يتمناها الإنسان. ليس إنساناً كاملاً. ما الذي جعله هكذا؟ لأن المعاني هي التي غلبت وانعكس الحال، انعكست بدلاً من الصور
التي أكرمنا الله بها وأحسن خلقنا. هي الظاهرة والمعاني هي الباطنة وأعطى الله. لنا فرصة لتصحيحها، فإذا لم تُصحح فإنها هي التي ستبرز، والصورة ستكون هي ما وراء ذلك. تفهم منها، نعم. إذاً في هذا الحال يدعونا إلى الاستقامة وإلى أن نبادر بالبدء في تغيير أخلاقنا الرديئة، وندعو الله سبحانه وتعالى بالأخلاق المرضية، أن يكرمنا ربنا بالأخلاق المرضية وأن يطهرنا من الأخلاق الرديئة. وهذا دائم، أي لا تسكت، كل يوم تفعل ذلك لأن الحياة هكذا. كل
يوم الإنسان من الممكن أن يقع في الرديء وينسى المرضي، فكل يوم يجتهد أن يبرئ نفسه من الذميم ويحلي نفسه بالكريم. إلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.