مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 57 | أ.د علي جمعة

فرسان رسول الله وآله وصحبه ومن والاه مع الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين وهو يتكلم في باب العلم عن آداب المتعلم والمعلم وهما كما لا يخفى ركنان
من أركان العملية التعليمية الشاملة التي تشتمل على التحصيل تحصيل المعلومات والتي تشتمل على تحصيل المهارات والتي تشتمل على تحصيل الأخلاق. والقيم وهذه الثلاثة هي التي يتكون منها العلم، فالعلم له آدابه وأخلاقه، يعني أن العلماء يجب أن يتخلقوا بهذه الأخلاق، وكذلك له قواعده ومعلوماته، وكذلك له مهاراته التي تنشئ الملكات، وقياس العلم ينبغي أن يتم بهذه الثلاثة ولا يتم بواحدة
منها، فعندما يُعطى العالم الإجازة ينبغي أن يكون هذا مشتملاً. على هذه الثلاثة يقوم في أخلاقه ويكون صالحًا في مسائله وقواعده ويكون أيضًا صاحب مهارة. والمسلمون عبر التاريخ كانوا يطبقون ذلك، فكان الطالب يتعلم من الشيخ كل شيء؛ يتعلم المعلومات ويتعلم القيم ويتعلم المهارات، وعندما كان يريد أن يأخذ الإجازة فإنه ينادي في الأزهر
أن الشيخ فلان كان... كل المشايخ هناك يحضرون ليصبحوا شيوخاً، فيقول: "والشيخ فلان يريد أن يلقي الدرس". وإلقاء الدرس معناه أنه سيجلس بعد أن كان طالباً في مقام الأستاذية، يجلس على الكرسي فيجتمع الأساتذة والطلاب ويصيرون تلامذة عنده، يجلسون هكذا مستمعين إليه، فيحرر الدرس ويلقيه ثم يتم ما يسمى بالمناقشة. وكانت هذه المناقشة تُسمى عندهم تعجيزاً، فإذا قال كبير الجلسة تعجيز
أو قال الطالب تعجيز، معناها أنه قد انتهى من سرد الدرس وأنه مستعد للأسئلة. فيبدأ الأساتذة في طرح الأسئلة حتى يتبين لهم مدى عمق فهمه، وحتى يتبين لهم مدى صبره ومدى جودة طريقة إلقائه، فطريقة الإلقاء هذه تتبع المهارات والصبر على التحمل. الناس وأنه لا يحتد عليهم ولا يجيب باستهزاء مثلاً وتعالٍ، فهذا هو مقياس القيم، لأنه قد يكون عالماً محافظاً لكن ليس لديه ملكة الاتصال، فإذا ما سُئل سؤالاً ضايقه، يعني أظهر الغضب، أو أنه أظهر التكبر، أو شيء من هذا القبيل، فتتم المناقشة بعد كلمة تعجيز،
وكانت هذه. الكلمة يقررها أيضاً المشايخ في الدرس، فالشيخ مثلاً نحن يقرأ ويشرح ألفية ابن مالك، فالدرس اليوم في المبتدأ، فيقرر الدرس وكل واحد من الطلبة الحاضرين قرأ شرحاً، هذا قرأ ابن عقيل وهذا قرأ ابن الناظم وهذا قرأ كذا وكذا ابن أمير الجيوش، كل واحد قرأ الذي تحت يديه وعندما قرؤوا. خطرت في أذهانهم أسئلة حدث كذا إلى آخره فيتحدثون مع الشيخ حول هذا، وهو الشيخ يقول تعجيزًا يعني إذا استطعتم أيها الصبيان أن تعجزوني فعجزوني، ويبدأ التعجيز، يعني
نوعًا من أنواع الدعابة والمنافسة والابتكار في التدريس حتى يعطي الطالب ثقة في نفسه قليلاً، وما كان الطالب يكون قد... أدرك شيئاً لم يدركه الأستاذ قليل جداً، واحد في الألف، لكن في النهاية أيضاً يحدث هذا نوعاً من أنواع أن الطالب أيضاً يعني كأنه عالم واستطاع أن يُعجز الأستاذ. هذا الإنسان الذي وضعوه، كانوا يطلعون النتيجة ويجتمعون ويقولون هذا أخذها من الأولى، أخذها من الأولى، إذاً يستطيع أن يدرس. في كل علم أو
من السنة الثانية، يجب أن يدرس في أغلب العلوم ويُنَصّ عليها. هذا جيد في التفسير وفي الحديث، لكن ليس بهذا القدر في الفقه. اترك الفقه واختص بالتفسير والحديث، أو كن أنت حديث السنة الثالثة علم واحد فقط. يُقال له: "أنت يظهر عليك أنك جيد في الحديث، لكن بقية العلوم..." ما أنت أيضاً يعني محصَّل فيها أيضاً، لكن ليس لدرجة أنك تجلس فيها. أو الرابعة أنه يقول له لا تصلح، فيرجع مرة ثانية طالباً كما كان. إذا كان التقويم يتم من جهات ثلاث: من المعلومات، ومن القيم، ومن المهارات. مرة
واحد رفض وكان عنده صفة العند، فهو عنيد، قال: لا، أنتم... كلكم أنا هذه صحيح أجلس يعني أجلس عشرين سنة أدرس وأنا كنت كالحائط، سأجلس للدرس يعني سأجلس للدرس والذي على آخركم اركبوه، فهذا على الفور تجتمع المشايخ ويلقون القبض عليه كأنه يدمر المجتمع ويحكمون إما بالفصل وإما بالفصل مع التشهير، يحكم عليه إما بالفصل فيذهب إلى بلده وإما... بالفصل مع التجريس، ما هو هذا التجريس؟
إنها تأتي من الجرس. التجريس مشتقة من الجرس، حيث يقومون بإمساكه ويسودون وجهه بالسخام، ويقيدون يديه خلف ظهره، ويركبونه على دابة بشكل مقلوب، ويطوفون به في المدينة وأمامه جرس لكي يصبح فضيحة للناس وجرسًا. ماذا تعني "جرسة"؟ تعني أن أمامه جرسًا يُعلم المتفرجين الذين... يشتري ليشاهد، أحضره، خلوة، الناس تشاهد، ويشهر به في المدينة وينادي وهم يسيرون به: "هذا الذي يريد أن يغير الشرع الشريف". يعني يفعل به هكذا لوجه الله لأنه سيضيع
الدنيا بالعناد الذي لديه، غير راضٍ أن يسمع، يظن في نفسه أنه سلطان. حسب الحال يقول فيفصِل ويُشهِر به. افهم أنت الآن كلمة "يُشهِر به" هذه لأنها مشروحة. في موضعٍ آخر، ربما لا يكون معي كلام الإمام في الإحياء، سنراه وكأنه ينقذنا من هذه الحالة ويُنمّي القيم لدى الطالب، طالب العلم، حتى يبني نفسيته وشخصيته. الشخصية عبارة عن العقلية والنفسية، لا بد أن تُبنى العقلية ولا بد أيضاً أن تُبنى النفسية حتى تكتمل الشخصية، فهو يراعي هذا، يراعي جانب المعقول، العقل. ويراعي جانب النفس والقيم حتى
تكتمل الشخصية، فعندما يكبر ويتصدر وقد اكتملت أدواته. نقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين، في سياق الوظائف العشر التي تنتظم آداب المتعلم: الوظيفة الثانية أن يقلل علائقه. من الانشغال بالدنيا والابتعاد عن الأهل والوطن فإن العلائق شاغلة وصارفة وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ومهما توزعت الفكرة قصرت عن إدراك الحقائق ولذلك قيل العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك فإذا
أعطيته كلك فأنت من عطائه إياك بعضه على خطر والفكرة المتوزعة على أمور متفرقة كجدول تفرَّق ماؤه فجفَّت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ المزدرع، يعني الجدول معناه النهر الصغير. وهنا يقول الإمام الشافعي فيما نُسب إليه من شعر: أخي لن تنال العلم إلا بستة، سأنبئك عن تفصيلها ببيان، ذكاء وحرص واجتهاد وبُلغة، وإرشاد أستاذ وطول زمان، يبقى إذا... لا بد من الأستاذ
ولا بد من التفرغ، والتفرغ على أنواع. وهنا في البداية قال أنه يتفرغ، لا بد أن تعطي العلم كلك، كل وقتك. لا يوجد شيء أن تكون دراستك سنوية هكذا، يجب أن تعطيه كل وقتك، وهذا الذي سماه الإمام الشافعي البُلغة، أي أن يكون عندك مصروف أو منحة لتتفرغ. بها للعلم حتى تعطيه كل جهدك، فإذا أعطاك بعضه شيئًا بسيطًا كهذا، فلابد أن تعرف أن الله فوق كل ذلك عليم، وأنت أيضًا ما لديك من علم يجب أن تتواضع به لله. فكلما ازددت علمًا ازددت معرفة بما تفتقده. عندما تدرك
أن العلم ألف قطعة وأنت عرفت منها مائة فقط، فبمجرد أن تعرف المائة ستجد أن العلم... ليس ألفاً، إن العلم خمسون ألفاً، فمائة بالنسبة لخمسين ألفاً أصبحت ضئيلة جداً. اجتهدت حتى أصل إلى ألف، وبمجرد أن وصلت إلى الألف، أجد أن العلم صار خمسمائة ألف، فأنا دائماً في يأس من أن أحصل على العلم، "وفوق كل ذي علم عليم". ومن هنا، وبناءً على هذا الكلام، فإن العلم لا يعرف النهاية. الأخيرة ما أنت اليوم ما أنت هذه، وقل رب زدني علماً. كل يوم تقول يا رب زدني علماً. العلم واسع وبحر، كلما أبحرت فيه اتسع، ليس ضيقاً، والمسافة ليست قريبة بل بعيدة. ولذلك يزداد تواضعاً بالرغم من أنه
معه خمسة آلاف وأنا معي مائة فقط، أي أنني عندي. شيءٌ من التفاخر بعلمي أكثر منه لأنه يعرف أن العلم خمسة ملايين وهو يملك خمسة آلاف، أي ما يعادل خمسة في الألف، بينما أنا صاحب المائة أظن أن العلم ألف، فيكون معي عشرة في المائة. فما الفرق بين الذي يعرف أن لديه خمسة في الألف وهم ليسوا خمسة في... الألف ولا شيء من هذا، هم خمسة في الملايين، وما بين الذي يظن أنه يملك عُشر العلم، والحمد لله، وفي النهاية هذا يساوي ذاك خمسين مرة. ولذلك كلما ازداد الإنسان علماً، كلما
ازداد لله تواضعاً. وهذا ما قالوه: "طلبنا هذا العلم لغير وجه الله، فأبى العلم إلا أن يكون [لوجه الله]". لله يعني يجعله هو نفسه يقول: "لا، هذا، هذا أنا، لا والله، هذا أنا فهمت الآن، هذا لله" وهكذا. نعم، الوظيفة الثالثة ألا يتكبر على العلم ولا يتأمر على المعلم، بل يلقي إليه زمام أمره بالكلية في كل تفصيل، ويذعن لنصيحته كما يذعن المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق. وينبغي أن يتواضع لمعلمه ويطلب الثواب والشرف بخدمته. قال الشعبي: صلى زيد بن ثابت رضي الله عنه على جنازة، فقُرِّبت إليه بغلته ليركبها، فجاء ابن عباس رضي الله
عنهما فأخذ بركابه، فقال زيد: خلِّ عنه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما هكذا أُمِرْنا أن نفعل بالعلماء والكبراء، فقبَّل زيد بن ثابت يده وقال: هكذا أُمِرْنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. قال: رواه الطبراني والحاكم والبيهقي في المدخل، إلا أنهم قالوا: هكذا نفعل. قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم. وقال صلى الله عليه وآله. وسلم ليس من أخلاق المؤمن التملق إلا في طلب العلم. قال: رواه ابن عدي من حديث معاذ وأبي أمامة رضي الله عنهما بإسنادين ضعيفين. فلا
ينبغي لطالب العلم أن يتكبر على المعلم، ومن تكبره على المعلم أن يستنكف عن الاستفادة إلا من المرموقين المشهورين، وهو عين الحماقة، فإن العلم سبب. النجاة والسعادة، ومن يطلب مهرباً من سبعٍ ضارٍ يفترسه، لم يفرق بين أن يرشده إلى الهرب مشهورٌ أو خامل. وضراوة سباع النار بالجهال بالله تعالى أشد من ضراوة كل سبع. فالحكمة ضالة المؤمن، يغتنمها حيث يظفر بها، ويتقلد المنة لمن ساقها إليه كائناً من كان. فلذلك قيل: العلم حرب للفتى. المتعالي كالسيل حرب للمكان العالي، فلا يُنال العلم إلا بالتواضع
وإلقاء السمع. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾. ومعنى كونه ذا قلب أن يكون قابلاً للعلم فهماً، ثم لا تعينه القدرة على الفهم حتى يلقي السمع وهو شهيد حاضر القلب. ليستقبل كل ما ألقي إليه بحسن الإصغاء والضراعة والشكر والفرح وقبول المنة، فليكن المتعلم لمعلمه كأرض دمثة نالت مطراً غزيراً فشربت جميع أجزائها وأذعنت بالكلية لقبوله، ومهما أشار عليه المعلم بطريق في التعلم فليقلده وليدع رأيه، فإن خطأ مرشده أنفع له
من صوابه في نفسه إذ التجربة تطلع على دقائق. يستغرب سماعها مع أنه يعظم نفعها، فكم من مريض محرور يعالجه الطبيب في بعض أوقاته بالحرارة ليزيد في قوته إلى حد يحتمل صدمة العلاج، فيعجب منه من لا خبرة له به. وقد نبه الله تعالى بقصة الخضر وموسى عليهما السلام حيث قال الخضر: "إنك لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر". على ما لم تُحِطْ به خُبْراً، ثم اشترط عليه السكوت والتسليم فقال: "فإن اتَّبَعْتَني فلا تسألني عن شيء حتى أُحدِثَ لك منه ذِكْراً"، ثم لم يصبر ولم يزل في مراودته إلى أن كان ذلك سبباً للفراق بينهما. وبالجملة،
كل متعلم استبقى لنفسه رأياً واختياراً دون اختيار المعلم فاحكم عليه بالإخفاق. والخسران، فإن قلتَ: قد قال الله تعالى "فاسألوا أهل الذِّكر إن كنتم لا تعلمون"، فالسؤال مأمورٌ به. فاعلم أنه كذلك، ولكن فيما يأذن المعلم في السؤال عنه، فإن السؤال عمّا لم تبلغ مرتبتك إلى فهمه مذموم. ولذلك منع الخضر موسى عليه السلام من السؤال، أي دَع السؤال قبل أوانه. فالمعلم... اعلم بما أنت أهل له وبأوان الكشف وما لم يدخل أوان الكشف في كل درجة من مراقي الدرجات لا يدخل أوان السؤال عنه،
وقد قال علي رضي الله عنه: إن من حق العالم ألا تكثر عليه بالسؤال ولا تعنته في الجواب ولا تلح عليه إذا كسل ولا تلح عليه. إذا كسل ولا تأخذ بثوبه إذا نهض ولا تفشي له سراً ولا تغتابن أحداً عنده ولا تطلبن عثرته وإن زلَّ قبلت معذرته وعليك أن توقره وتعظمه لله تعالى ما دام يحفظ أمر الله تعالى ولا تجلس أمامه وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته نعم فهذا شأن بعض طلبة العلم أنه يكون ملحّاً على أستاذه ولا يثق فيه ويجادله،
وهذا الجدل في غير وقته. يعني نحن تكلمنا عن التعجيز، اسأل نعم، هو يقول لك اسأل. وكان مطرف بن الشخير من تلاميذ ابن عباس، وكان نبيهاً وكان من كبار التابعين، إلا أنه لم يستفد من ابن عباس كما استفاد. غيره وذلك لأن مطرف بن الشخير كان كثير التعنت في السؤال لابن عباس حتى يضيق منه بالرغم من أنه كان ثبتًا وإمامًا وما إلى ذلك، لكن ضاعت بركة ابن عباس فيه من كثرة الإلحاح في السؤال
والعناد. فهذا كلام طيب يُعاد مرة وثانية وثالثة لأنه أدب. حسناً، ما بين الطالب والمتعلم إلى لقاء آخر نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.