مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 58 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدلله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رحمه الله تعالى، وهو يُعلِّمنا أشياء حول المتعلم
والمعلم، وذكر لنا وظائف ونُكمل هذه الوظائف. أقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في... الدارين آمين. الوظيفة الرابعة: أن يحترز الخائض في العلم في بداية الأمر عن الإصغاء إلى اختلاف الناس، سواء كان ما خاض فيه من علوم الدنيا أو علوم الآخرة، فإن ذلك يدهش عقله ويحير ذهنه ويفتر رأيه ويؤيسه عن الإدراك والاطلاع. بل ينبغي أن يتقن أولاً الطريقة الحميدة الواحدة المرضية عند أستاذه ثم بعد ذلك يصغي إلى المذاهب والشبه وإن لم يكن أستاذه مستقلاً باختيار
رأي واحد وإنما عادته نقل المذاهب وما قيل فيها فليحذر منه فإن إضلاله أكثر من إرشاده فلا يصلح الأعمى لقود العميان وإرشادهم ومن هذا حاله يُعد في عمل حيرة وتيه الجهل ومنع المبتدئ عن الشبه يضاهي مُنِعَ حديثُ العهدِ بالإسلامِ عن مخالطةِ الكفار، ونُدِبَ القويُّ إلى النظرِ في الاختلافات، يُضاهي حثَّ القويِّ على مخالطةِ الكفار. ولهذا يُمنَعُ الجبانُ عن التهجمِ على صفِّ الكفار، ويُندَبُ الشجاعُ له. ومن الغفلةِ عن هذه الدقيقةِ ظنَّ بعضُ الضعفاءِ أنَّ الاقتداءَ بالأقوياءِ فيما يُنقَلُ عنهم من المساهلاتِ جائزٌ، ولم يدرِ أن... وظائف الأقوياء تخالف وظائف الضعفاء،
وفي ذلك قال بعضهم: "من رآني في البداية صار صديقاً، ومن رآني في النهاية صار زنديقاً"، إذ النهاية ترد الأعمال إلى الباطل وتُسكن الجوارح إلا عن رواتب الفرائض، فيتراءى للناظرين أنها بطالة وكسل وإهمال، بل يتعدى ما بينهن من الضرر إليه حتى ينجر إلى معصية. الله تعالى في طلبه رضاهن، فما أفلح من قاس الملائكة بالحدادين. نعم، هذا الكلام فيه شرح طويل. نعم، إذ كان له من القوة ما تتعدى منه صفة العدل إلى نسائه وإن كثرت. يعني أنا قرأتها أولاً
"ما يتعدى منه صفته"، وهي المفروض مرفوعة، يعني تتعدى الصفة إلى النساء بالمقابلة الثانية. أنه هو كالبحر، لأن البحر عندما استولى على النجاسة حوّلها إلى ماء طاهر، ولكن النجاسة استولت على كمية الماء التي في الكوز فنقلت إليها صفتها. فالصفة هي التي تتعدى في البداية. ماذا يقول الرابع؟ نعم، هنا كان مشايخنا رحمهم الله تعالى يحذرون من عدة أمور في بداية الطلب. العلم الأمر الأول هو الاهتمام بالخلافيات وترك أصول العلم، كانوا يحذرون جداً من هذا، فلا بد من الاشتغال أولاً بتحصيل مفاتيح
العلم وقواعده وأسسه حتى نتعلم بعد ذلك كيف ننطلق. ولذلك ترانا ونحن في البداية نتعلم الأبجدية ألف وباء حتى نحسن الخط ونحسن القراءة، ولا ندخل في متاهات النحو ولا. اللغة وكذا إلى آخره ولا يحيط باللغة إلا نبي، لكن في البداية الاهتمام بهذا: من لم يُحسن الأبجدية فإنه لا يُحسن لا الكتابة ولا القراءة، وفي النهاية لا يتقدم أبداً. فكان أول شيء هو الاهتمام بالأسس دون الاهتمام بالاختلافات. كانت النصيحة الثانية هي أننا لا بد أن نُتم الكتاب إذا... دخلنا في كتاب قراءة فلا بد أن نُتم الكتاب.
كانت هناك شهوة أن الإنسان يقرأ كتاباً، ينتهي من الفصل الأول والثاني، ثم يذهب إلى كتاب ثانٍ، فكتاب ثالث، فكتاب رابع، وكلها هذا قرأ ثلثه، وهذا قرأ ربعه، وهذا قرأ نصفه، ولم يُتم كتاباً. فلا بد من قراءة الكتاب من أوله إلى آخره. آخر الأمر الثالث: أن نُتم علماً، يعني عندما نأتي لنقرأ نُكمل الفقه حتى ننتهي منه، وليس أن نترك الفقه في المنتصف هكذا، ثم نذهب قائلين: "أصلاً أنا أرغب في قراءة الحديث أو التفسير أو غيره". الأمر الرابع: ألا نهتم بالغرائب، وليس بالاختلاف فقط، بل أيضاً بغرائب المسائل، فهناك
أناس تحب أن تكون... حفظة القراءات الشاذة لا تهتم أولاً بالشواذ، اهتم بالأصل حتى تكون لديك الخبرة بعد ذلك لمعرفة الصحيح من الشاذ. لكن عندما تحفظ الشواذ تصبح عندك كأنها هي الأصل، فتجيز بها ما لا يجوز. فكان الاهتمام بالغرائب والشواذ أيضاً مما ينهون عنه في البداية، بعد ذلك يأتي في نهاية العلم وعندما تتقوى مثل... البحر ستطلع على الخلاف فلا يضرك وعلى الغرائب فلا يضرك وعلى الاستثناءات فلا يضرك بل سيزيدك علماً، إذ كل قدر من هذا له وقت. نعم، تفضل الوظيفة الخامسة: ألا يدع طالب العلم فناً من العلوم
المحمودة ولا نوعاً من أنواعه إلا وينظر فيه نظراً يطّلع به على مقصده وغايته، ثم إن ساعده العمر طلب التبحر فيه وإلا اشتغل بالأهم منه واستوفاه وتطرف من البقية فإن العلوم متعاونة وبعضها مرتبط ببعض ويستفيد منه في الحال الانفكاك عن عداوة ذلك العلم بسبب جهله فإن الناس أعداء ما جهلوا قال تعالى وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم قال الشاعر ومن يكذى فمن مرض يجد ماءً عذباً مُرّاً في مذاقه. فالعلوم على درجاتها، إما سالكة بالعبد إلى الله تعالى، أو معينة على السلوك نوعاً
من الإعانة. ولها منازل مرتبة في القرب والبعد من المقصود، والقائمون عليها حفظة كحفاظ الرباطات والثغور، ولكل واحد رتبة، وله بحسب رتبته أجر في الآخرة. إذا قُصد به وجه الله تعالى، ومن هنا جاءت فكرة العلوم الأساسية والعلوم المساعدة، ومن هنا أيضاً تطورت الفكرة في الجامعات الكبرى إلى العلم، حيث يوجد مقرر جامعي ومعه اختياري، مقرر اختياري يختار منه الطالب، فيختار هذا ولا يختار ذاك وهكذا إلى آخره، وهم يعتمدون على نظام الساعات، كل ذلك جاء من هذا. الفكرة أن هناك علومًا أساسية
سنتبحر فيها كما تبحرنا في الفقه. الفقه يحتاج إلى لغة ويحتاج إلى حديث ويحتاج إلى تفسير ويحتاج إلى تاريخ ويحتاج إلى سيرة، ولكن ليست تخصصي، ولكن لا بد أن أطّلع عليها على سبيل العلوم المساعدة. أقرأ هذه العلوم وعيني على الفقه، فإن كنت عيني على... التفسير كذلك عيني على الحديث، كذلك أقرأ الفقه باعتباره علماً مساعداً. كان عبد الحميد العبادي رحمه الله تعالى، وكان من كبار المؤرخين، يقول: "لا يبلغ المؤرخ مبلغ العلماء في تاريخ الإسلام حتى يطلع على الفقه، ولا يبلغ الفقيه مبلغ الفقه حتى يطلع على التاريخ". طبعاً
الفقه بعيد عن التاريخ وأحداثه. وهكذا إلى آخره، لكنك لن تفهم لماذا حدثت هذه الأحداث وكيف كان هذا الترتيب ولماذا إلا إذا قرأت الفقه. ولن تفهم الفقه لماذا قيل هذا الكلام ومتى وكيف ولماذا إلا إذا قرأت التاريخ. إذاً فكرة العلوم التي تتعاون، فكرة العلوم المساعدة، والتعمق يكون في العلم الذي تختص به، ويقول لك. إذا كان لك عمر فهذا يشير إلى أنه لا يستطيع الإنسان أن يحيط بكل العلوم إحاطة واحدة ومتبحرة، ولم يحدث هذا. يعني مثلاً شخص مثل سيدنا ابن حجر العسقلاني، فقد كان أمير المؤمنين في الحديث، إلا أنه
كان دقيقاً في الفقه، وتلميذ الفيروزآبادي في اللغة، وبالرغم من ذلك إلا... أنه لم يكن بفقه البلقيني، فلما جاء الإمام السيوطي وذهب ليشرب ماء زمزم في الحج دعا الله سبحانه وتعالى أن يصبح في الحديث كابن حجر وفي الفقه كالبلقيني. حسناً، لماذا لا تقول كابن حجر؟ لا، فابن حجر لم يكن مثل البلقيني في الفقه، لم يكن كذلك، فإذا هي... علوم أساسية ثم علوم معاونة وهذا ما تسير عليه الجامعات في الشرق والغرب إلى يومنا هذا، أهو مأخوذ من الإمام الغزالي أو من المسلمين؟ لأن الغزالي يترجم عما كان قد استقر في وجدان المسلمين نقلاً للعلم
من القرون التي سبقته، وليس هو يخترع هذا اختراعاً، بل إنه قد ذكر ما... هو يجري في الحضارة الإسلامية وبهذه القواعد والكيفية، وجدنا أنه حتى في عصور يمكن أن نسميها بعصور فتن أو ضيق أو اضطراب أو ما إلى ذلك، كان العلم قائماً. لماذا؟ لأنه يقوم على قواعد ثابتة ويسير كما هو، حتى لو ضعفت الحالة السياسية أو حتى لو اختلت الحالة الاقتصادية فإن... العلم بقواعده كان يسير سيراً مطرداً كما يطرد، ولذلك بعض الناس يتعجب، يعني ما هذا؟ هناك فرق كبير بين هذه النهضة الضخمة وبين الحالة التي كانت موجودة سياسياً واقتصادياً أو اجتماعياً. نعم، لأن هذا العلم أُسس على فكر
عميق، وعلى إخلاص عجيب، وعلى تعدد وإحاطة بَنَت الشخصية في النفس. والعقلية اقرأ الوظيفة السادسة: ألا يخوض في فن من فنون العلم دفعة واحدة، بل يراعي الترتيب ويبتدئ بالأهم، فإن العمر إذا كان لا يتسع لجميع العلوم غالباً، فالحزم أن يأخذ من كل شيء أحسنه ويكتفي منه بشمه، ويصرف جُمام قوته في الميسور من علمه إلى استكمال العلم الذي هو أشرف العلوم. وهو علم الآخرة أعني قسمي المعاملة والمكاشفة، فغاية المعاملة المكاشفة وغاية المكاشفة معرفة الله تعالى، ولست أعني به الاعتقاد الذي يتلقفه العامي وراثة أو تلقفاً، ولا طريق تحرير الكلام والمجادلة
في تحصين الكلام عن مراوغات الخصوم كما هو غاية المتكلم، بل ذلك نوع يقين هو ثمرة نور يقذفه الله تعالى. في قلب عبد طَهُرَ بالمجاهدة باطنه عن الخبائث حتى ينتهي إلى رتبة إيمان أبي بكر رضي الله عنه الذي لو وُزِنَ بإيمان العالمين لرجح كما شهد له به سيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم. قال: رواه ابن عدي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بإسناد ضعيف ورواه البيهقي. في الشِّعب موقوفاً على عمر رضي الله عنه بإسناد صحيح، فما عندي أن ما يعتقده العامي ويرتبه المتكلم الذي لا يزيد على العامي إلا في صنعة الكلام، ولأجله سُميت صناعته كلاماً، وكان يعجز عنه
عمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم، حتى كان يفضلهم أبو بكر بالسر الذي وقر. في صدره، والعجب ممن يسمع مثل هذه الأقوال من صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه، ثم يزدري ما يسمعه على وفقه، ويزعم أنه من ترهات الصوفية، وأن ذلك غير معقول. فينبغي أن تتمهل في هذا، فعنده ضيعت رأس المال، فكن حريصاً على معرفة ذلك السر الخارج عن. بضاعة الفقهاء والمتكلمين ولا يرشدك إليه إلا حرصك في الطلب وعلى الجملة فأشرف العلوم وغايتها معرفة الله عز وجل وهو بحر لا يدرك منتهى غوره وأقصى درجات البشر فيه رتبة الأنبياء ثم الأولياء ثم الذين يلونهم
وقد روي أنه روي صورة حكيمين من الحكماء المتقدمين في مسجد وفي يد أحدهما رقعة فيها إن أحسنت كل شيء فلا تظنن أنك أحسنت شيئاً حتى تعرف الله تعالى وتعلم أنه مسبب الأسباب وموجد الأشياء في يد الآخر. كنت قبل أن أعرف الله تعالى أشرب وأظمأ، حتى إذا عرفته رويت بلا شرب. يعني أنا أسأل الله أن يروينا بلا شرب، وهذا لما قال: خسرت. رأس المال يعني التي يسمونها الخسارة المدمرة، ليس أنك خسرت بمعنى أنك لم تربح، فعدم ربحك خسارة، أو خسرت عملك، أو عدم خسارة بعض شيء بسيط
من رأس المال هي خسارة، لكن لا، بل أنت خسرت رأس المال كله، وكان هذا يحدث مع التجار الكبار في قضية. غرقت السفينة بما عليها، خلاص خسر كل رأس المال. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الرابحين في الدنيا والآخرة. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وللسفر بقية.