مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 60 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين، ومع هذه الآداب للمتعلم التي ينال بها العلم المحمود
حتى يصل بها إلى الله سبحانه وتعالى. نقرأُ أو ما زِلنا نقرأُ معه في هذا الباب من كتاب العلم الذي صَدَّرَ به كتابه الإحياء. بسم الله الرحمن الرحيم. قال الإمام أبو حامد حُجَّة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين في تتمة الوظيفة العاشرة من آداب المتعلم. واعلم أن هذا هو حق. اليقين عند العلماء الراسخين أعني أنهم أدركوه بمشاهدة من الباطن هي أقوى وأجلى من مشاهدة الأبصار، وترقوا فيه عن حد التقليد لمجرد السماع، وحالهم حال من أُخبر فصدّق، ثم شاهد
فحقّق، وحال غيرهم حال من قَبِل بحسن التصديق والإيمان ولم يحظَ بالمشاهدة والعيان. فالسعادة وراء علم المكاشفة، وعلم المكاشفة وراء... علم المعاملة التي هي سلوك طريق الآخرة وقطع عقبات الصفات وسلوك طريق محو الصفات المذمومة وراء علم الصفات، وعلم طريق المعالجة وكيفية السلوك في ذلك وراء علم سلامة البدن ومساعدة أسباب الصحة، وسلامة البدن بالاجتماع والتظاهر والتعاون الذي يتوصل به إلى الملبس والمطعم والمسكن، وقلنا أن هذا كله إنما هو على التوازن، فهذا وصل إلى حالة التوازن بين الظاهر
والباطن، بين النظر والعمل، بين العلم والأخلاق، بين عمارة الدنيا وعمارة الآخرة، بين الجسد والروح، وهكذا. لكن في المجمل هو أمرك في أعلى أنواع التوازن، لأن التوازن هو سنة من سنن الله سبحانه وتعالى في كونه، يدرك هذا من كل كلمة. قالها الإمام الغزالي وهو يشرح لنا هذا التركيب العجيب الذي لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها في صورة متوازنة، أي يرسم بها لوحة متوازنة للحياة الدنيا. هذا التوازن ضُرِب في الفكر الغربي وادَّعوا أن
الدنيا بُنيت على الفوضى، ومن هنا خرجوا من سُنَّة التوازن وأنكروها وبدأت الدعوة إلى الفوضى. الخلاقة حتى في عالم السياسة حتى في عالم الصناعة فإن فكرة الفوضى الخلاقة بدأت مع إنشاء الغسالة، غسالة الملابس. أول ما بدأت، بدأت أن جعلت الملابس تلف وتدور بصورة منتظمة فيها شيء من التوازن. فلما جعلوها تمشي بصورة مضطربة لا برنامج لها، خرجت الملابس أكثر بياضاً من الملابس التي في التوازن، فقالوا. إذن هي تحقق المصلحة المادية أسرع وأفضل في
أدائها لهذا، لكنهم نسوا في الوقت نفسه، ولأن هذا الفكر بُنِيَ على الاستهلاك وليس على عمارة الدنيا، أن هذا القميص الذي يخرج أبيض يعيش فترة أقل والنسيج يتهالك أكثر، ولذلك إذا كان هذا القميص قد عاش سنتين فذاك لن يعيش إلا ستة أشهر. صحيح أنه يخرج أبيض لكنه يستهلك أكثر. قال: ما هو خير، أنا أريد أن يستهلك أكثر. ودخلنا في مشكلات بيئية لأن موارد الأرض محدودة والبشر يتزايدون، فاضطروا إلى أن ينشئوا علماً للبيئة ويدافعوا عن البيئة. وظهرت
طوائف تسمى بطوائف الخضر، وطوائف الخضر تحاول أن تسد هذه البلية التي حدثت وأخذت من الهندسة والصناعة. إلى علم السياسة إلى الأفكار إلى المجتمع حتى رأينا زعماء الدول يدعون إلى الفوضى الخلاقة، أما هذا الشيخ فهو يدعو إلى عبادة الله وإلى عمارة الدنيا وإلى تزكية النفس، ويجعل هذا هو برنامج الإنسان وليس تحصيل المنفعة الآنية "سلامات يا رأسي، عشني اليوم وأمتني غداً، إن جاء الطوفان ضع ابنك". تحت رجلك من
أجل رأسك، هذه القيم لسنا معتادين عليها، ولذلك نحن حزانى ونتصرف كاليتامى على مائدة اللئام. لكن هذا هو الوضع، انظر إلى ما يدعو إليه: إنه يدعو إلى سُنَّة التوازن. هذه سُنَّة ستساعدك على الوصول إلى الله وعمارة الدنيا. إذا ألغيت التوازن، فافعل ما شئت. هل تريد أن تستمتع قبل أن... أموت وأنا لا أعلم ماذا سيحدث بعد الموت، فسيحدث اختلال في البيئة، وقلة في الموارد. المشكلة الاقتصادية كما يعرفونها ويقولون: إنها قلة الموارد
بالنسبة إلى كثرة الحاجات. لو أنك التزمت بهذا المنهج، لا تكون هناك قلة موارد أصلاً، فلا تكون هناك مشكلة اقتصادية. وإذا أنت تسببت في مشكلة اقتصادية... تكون أنت الذي تفعلها، وليس الكون هو الذي يفعلها. هذه المشكلة من أين تأتي؟ من الخروج من هذا التوازن. مسألة في غاية العمق، وهذا الرجل كان مفكراً فقيهاً مجتهداً متصوفاً، لكنه كُشِفت له هذه الحقائق الدقيقة والواسعة حتى تأثر به الجميع هناك؛ لأنه ذكر الله كثيراً فكشف الله له. حقائق الأشياء.
نعم، فإن قلت: لمَ شبَّهت علم الطب والفقه بإعداد الزاد والراحلة؟ فاعلم أن الساعي إلى الله تعالى لينال قربه هو القلب دون البدن. ولست أعني بالقلب اللحم المحسوس، بل هو سر من أسرار الله عز وجل لا يدركه الحس، ولطيفة من لطائفه، تارة يُعبَّر عنه بالروح وتارة بالنفس. المطمئنة والشرع يعبّر عنه بالقلب لأنه المطية الأولى لذلك السر وبواسطته صار جميع البدن مطية وآلة لتلك اللطيفة وكشف الغطاء عن ذلك السر من علم المكاشفة وهو مضمون به بل لا رخصة في ذكره وغاية المأذون فيه أن يقال
هو جوهر نفيس ودر عزيز أشرف من هذه الأجرام المرئية وإنما هو أمر إلهي كما قال تعالى: "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي". وكل المخلوقات منسوبة إلى الله تعالى، ولكن نسبته أشرف من نسبة سائر أعضاء البدن، فلله الخلق والأمر جميعاً، والأمر أعلى من الخلق. وهذه الجوهرة النفيسة الحاملة لأمانة الله تعالى، المتقدمة بهذه الرتبة على السماوات والأرضين والجبال. إذ أبين أن يحملنها وأشفقن منها من عالم الأمر، ولا يُفهم من هذا أنه تعريض بقِدَمها، فإن القائل بقدم الأرواح مغرور جاهل لا يدري
ما يقول. فلنقبض عنان البيان عن هذا الفن، فهو وراء ما نحن بصدده. والمقصود أن هذه اللطيفة هي الساعية إلى قرب الرب. لأنها من أمر الرب فمنه مصدرها وإليه مرجعها، وأما البدن فمطيتها التي تركبها وتسعى بواسطتها، فالبدن لها في طريق الله تعالى كالناقة للبدن في طريق الحج، وكالراوية الخازنة للماء الذي يفتقر إليه البدن، فكل علم مقصده مصلحة البدن فهو من جملة مصالح المطية، ولا يخفى أن الطب. كذلك فإنه قد يُحتاج إليه في حفظ الصحة على البدن، ولو كان الإنسان وحده لاحتاج إليه.
والفقه يفارقه في أنه لو كان الإنسان وحده ربما كان يستغني عنه، ولكنه خُلق على وجه لا يمكنه أن يعيش وحده، إذ لا يستقل بالسعي وحده في تحصيل طعامه بالحراثة والزرع والخبز والطبخ وفي... تحصيل وفي تحصيل الملبس والمسكن وفي إعداد آلات ذلك كله فاضطر إلى المخالطة والاستعانة، ومهما اختلط الناس وثارت شهواتهم تجاذبوا أسباب الشهوات وتنازعوا وتقاتلوا، وحصل من قتالهم هلاكهم بسبب التنافس من الخارج كما يحصل هلاكهم بسبب تضاد الأخلاط من الداخل، وبالطب يُحفظ الاعتدال في الأخلاط المتنازعة من الداخل وبالسياسة والعدل. يحفظ الاعتدال في التنافس من الخارج، وعلم طريق اعتدال الأخلاط
هو الطب، وعلم طريق اعتدال أحوال الناس في المعاملات والأفعال هو الفقه، وكل ذلك لحفظ البدن الذي هو مطية، فالمتجرد لعلم الفقه أو الطب إذا لم يجاهد نفسه ولا يصلح ولا يصلح قلبه كالمتجرد لشراء الناقة وعلفها وشراء الراوية وخرزها إذا لم يسلك بادية الحج والمستغرق عمره في دقائق الكلمات التي تجري في مجادلات الفقه كالمستغرق عمره في دقائق الأسباب التي بها تستحكم الخيوط التي تخرج بها الراوية للحج، ونسبة هؤلاء من السالكين لطريق إصلاح القلب الموصل إلى علم المكاشفة كنسبة أولئك
إلى سالكي طريق الحج أو ملابسي أركانه، فتأمل هذا أولاً. واقبل النصيحة مجاناً ممن قام عليه ذلك غالباً ولم يصل إليه إلا بعد جهد جهيد وجرأة تامة على مخالفة الناس العامة والخاصة في الابتعاد عن تقليدهم بمجرد الشهوة، فهذا القدر كافٍ في واجبات المتعلم، رضي الله تعالى عنه، فإنه حفظ لنا هذا الفكر العميق، والعلاقة بين الطب والفقه علاقة عجيبة. لأننا نرى أن كبار الأطباء بعد أن يتعلموا الطب ومناهجه تصبح عقولهم فاهمة
بعمق لما عليه الفقيه، والفقيه إذا ما تبحر في الفقه وأدرك أن الفقه مبني على قواعد وأن هذه القواعد لها فروع وأن من هذه الفروع هناك استثناءات لا تدخل تحت القاعدة وأن هذه الاستثناءات قد تكون من القاعدة وقد خرجت منها بسبب آخر، وقد تكون مشتبهة بما عليه فرع القاعدة وليست منها، إنما ينظر إليها الإنسان على بادئ الرأي فيظنها من القاعدة وهي ليست منها، ويأتي المتعمق في الفقه لينفي نسبة
هذا الفرع لهذه القاعدة، وإذ بهذا الحال على هذا الوضع، وأيضاً الفرع المتردد. بين قاعدتين وأيضاً الفرع الحائر بين قاعدتين وليس مترددًا بينهما إنما هو حائر بينهما يشتبه لكل منهما، كل ذلك في الطب، ولذلك فقد يصدر الطبيب كلاماً لا يحسن تعليله فيقول لك: "والله هي اعمل كذا وكذا وكذا"، تقول له: "لماذا تشرح حالي هكذا؟"، فيقول لك: "لا أعرف"، الملكات المكونة وكذلك الفقيه. الطبيب المتميز الحاذق يدرك
عقلية الفقيه وأنه في بعض الفروع قد يكون هذا الفرع مترددًا أو حائرًا أو كذا أو كذا لأنه عنده هو نفسه هذه المشكلة. المعلومات مختلفة، فهذا يتكلم عن الصلاة والزواج والبيع وما إلى ذلك، ولكن هذا يتكلم عن البدن من حيث الصحة والمرض، فإذًا المضمون مختلف لكن... الهيكل هو أحد الأئمة هنا وهو يكرر ويزيد في مقارنة الطب بالفقه، وهو شخص يبدو أنه خالط أو درس الأمرين. وكان الإمام الشافعي قد اهتم بالطب واهتم بعلم الفراسة واهتم بالفقه واهتم
بأصوله واهتم بالحديث، فاهتم بعلوم شتى ووضع منهج التفكير في الرسالة. هذا المنهج منهج ضابط ظاهر الذي أتى. به يُشير الغزالي هنا إلى أنه أضاف إليه أيضًا المنهج الباطن ووقف عند حد تقف عنده اللغة، وهو الذي يسميه بعلم المكاشفة، حيث إنه مبني على التذوق، والأذواق نسبية، ولذلك لا يستطيع أن يخوض فيها؛ لأنك قد تنكرها لأنك لم تتذوقها، فتنكر حقيقة وهي موجودة، فيكون وبال ذلك أكثر من نفعه ومصلحته. فحتى التذوق قال: فمن ذاق عرف ومن
عرف اغترف، فيقف عند النافع في النقل. القضية الأخرى أنه جعل الله سبحانه وتعالى في السعي إليه ركناً من أركان العلم، وهذا هو عين قوله تعالى: "واتقوا الله ويعلمكم الله" بمعنى أن العلم أصبح مرتبطاً بفتح الله وليس بتحصيل المعلومات، ومن هنا تشابكت. قضية المعلومات مع القيم مع الملكات مع المقصد وأصبح المقصد في العلم هو جزء لا يتجزأ من البناء ولم يعد الأمر أن فلاناً قد حصل من المعلومات كذا وكذا فإن العلم لا يقاس
بالمتر بل العلم هو فتح رباني منحة ربانية ونفحة رحمانية يفتح الله بها من فضله على من يشاء من عباده، ولذلك قالوا: على قدر إخلاص نية الشيخ وإخلاص نية الطلاب يكون الفتح. وما هذا الإخلاص؟ هذا أمر غير منضبط لا يُقاس. كل هذا رُفع من عند هؤلاء المساكين. ولأننا فرّطنا في ما يقوله الإمام، فقد أصبحنا أكثر مسكنة من هؤلاء المساكين، لأننا فقدنا الريادة والقيادة ثم
فقدنا. أنفسنا وهذا هو حال آخر الزمان، فاللهم مُنَّ على هذه الأمة بأمر رشدٍ من عندك، فضعنا فيه في الريادة والقيادة، وافتح آفاق أفهامنا حتى نفهم ما خطه السلف الصالح في هذا، رضي الله تعالى عنه وأرضاه. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.