مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 61 | أ.د علي جمعة

مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 61 | أ.د علي جمعة - إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، مع إمام الأئمة وحجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين، في كتابه الإحياء وفي أول كتبه التي
جعلها مدخلاً للدين في عباداته ومعاملاته ومدخلاً لعلوم الآخرة. في تخلية القلب من القبيح وتحليته بالصحيح، فبدأ بكتاب العلم، فشرف العلم فوق كل شرف، ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف. وهو يتحدث عن أركان العلم، فيتكلم عن العلم الممدوح والمذموم وما تردد بينهما، ويتكلم أيضًا عن الطالب وعن الأستاذ وعن المنهج والكتاب وهذا الجو الذي يعيش فيه الجميع من أجل تلقي
العلم ويكون مقصود الكل هو الله سبحانه وتعالى، ويتعمق في هذا المعنى ويعيده ويزيد عليه حتى يستقر في الوجدان. وقد انتهينا من صفات طالب العلم المتعلم، ونحن ندخل بعد ذلك في صفات ووظائف المعلم. والمعلم ركن من أركان العلم، وبدون المعلم يتصل الإنسان مباشرة بالمعلومات فيفقد ترتيبها ويفقد القدرة على الوصول. بينها وعلى كيفية هذا الوصل،
فإذا كانت معك معلومتان فإن الذكاء هو قوة الربط بين المعلومتين. هذا هو تعريف الذكاء. كيف تتفاوت عقول الناس؟ تتفاوت في الذكاء، هذا ذكي وهذا ليس بذكي. وما الذكاء؟ هو قوة ربط المعلومات. تجيب على الفور هكذا عندما يسألونك: قوة ربط المعلومات، قوة الربط بين. المعلومتين لأنك إن أحسنت الربط بينهما استنتجت منهما معلومة ثالثة صحيحة مطابقة للواقع. ما هي الكيفية؟ كيفية كيف تربط بين المعلومات؟ تحتاج إلى دربة وتحتاج إلى شيخ... دعنا نقول
إلى أستاذ يدربك عليها، لأن عندما نقول شيخ الآن يذهب الذهن إلى علوم الشريعة فقط. لا، هذا في أي علم. لا بد لك فيه من كبير، كانوا قديماً يقولون هكذا: "الذي ليس له كبير فليشترِ له كبيراً". من أين أتت هذه القصة؟ أتت من أن الصانع، النجار والحداد وما شابه ذلك، كان يذهب إلى أحدهم ليتعلم منه، فإذا رأى في نفسه كفاءة وأنه استطاع أن يتقن الصنعة وأن يصبح من أهل هذه المهنة فإنه يذهبُ إلى كبيرِ المهنةِ للالتحاقِ بها، فيأمرهُ مِن ضمنِ الأوراقِ التي يطلبونها أن يأتيَ بكبيرِهِ. مَن
كبيرُه؟ إنه أستاذُه الذي هو شيخُه الذي علّمَه الصنعةَ. فيأتي شيخُه هذا، الذي هو مُسجلٌ مِن قبل، ويشهدُ للولدِ أنه قد تدرّب على يديه، وأنه أتقنَ الصنعةَ، وأنه الآن يستطيعُ أن يُسجّلَ في هذه. النقابة كأنها نقابة التي هي فكرة النقابات جاءت بعد ذلك فيها وهذا التسجيل لا بد فيه من شهادة الكبير، حسناً افترض أن الكبير الذي لي مات أو سافر، ماذا أفعل؟ قالوا إن من ليس له كبير يشتري له كبيراً حتى يتسجل في النقابة الخاصة بهذه المهن، من ليس له كبير يشتري له. كبير لكي يدخل
المرحلة الثانية من حياته، بدلاً من أن يكون تحت التدريب أصبح قادراً وماهراً على العطاء والاستقلال، فيذهب إلى شخص لم يُدرَّب بشكل صحيح ويقول له: تعال اشهد على قوم يختبرون هكذا، فيجده يمسك الفأرة جيداً، ويمسك المنشار جيداً، صانع واضح أن يده فيها ملكة، فيذهب ليشهد أنه... إن هذا الشاب. جيد، وكانت من الأوراق المطلوبة أن تأتي بجدك. حسناً، وما المشكلة مع جدي؟ جدي أنا الآن ما شأنه؟ قالوا جدك لأنك ستأخذ لقباً مثل الأحوال المدنية، وسيصبح من اسمك، فلا بد أن يوافق فلان الفلاني النجار، فلان الفلاني المُبطل، فلان الفلاني
البني، فلان الفلاني كذا. فلأجل هذا أنا سأغير اسم عائلتك. بهذا الشكل فلا بد أن يوافق جدك. حسناً، الجد غير موجود. قالوا إذن لا بد أن يوافق الأب. حسناً، الأب غير موجود. إذن لا بد أن يوافق العم. فإذا كنت قد أُعطيت اللقب، وإذا لم تكن تستطيع التسجيل بدون لقب، فلن نسميك البنّاء ولا النجار ولا غير ذلك إلى آخره. لماذا؟ لأن العائلة رفضت. قال: "لا، لا نُسمى هكذا، خلاص لا تتسموا هكذا. لكنك ستصبح نجاراً رسمياً بحيث ترعاك النقابة". إذا لم يكن هذا الذي نسمعه في مجال الدين وحده، بل كان في الحياة كلها، وقاموا على هذا ووضعوا دساتير للمهنة.
حتى المِهنة أو المَهنة، الاثنان جائزان كما أشار حمد، فيجوز أن نقول مِهنة. ومهنة وضعوا دستوراً لها، ما القواعد؟ متى تكون مخطئاً؟ ما صفات الشخص المعتاد؟ متى تضمن ومتى لا تضمن؟ ما الأخلاق التي يجب أن تتخلق بها حتى تكون في هذه المهنة، أي منسوباً إليها عن حق؟ ومن أبدع من كتب في هذا الأتراك في القرن السابع الهجري، فقد أنشأوا طريقة صوفية لأجل... هذه القصة تُسمى "أخو قرآن"، و"أخو قرآن" هم طريقة صوفية لكنها مهتمة
بوضع دستور المهنة، وقد وضعوا بالفعل كتاباً اسمه "الحدائق"، وهو كتاب كبير. هذا هو كل ما في الأمر، ما هي قصته؟ إذا كانت هذه حضارة والمسلمون عاشوا حضارة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيدها إليهم وعليهم، لأن الناس لا تعرف. هذا الكلام كله وهو يظن أن أولئك الذين كانوا في الماضي، عندما حدث الزلزال، لم يُصب البيت الذي بُني منذ ثلاثمائة سنة بأي ضرر، بينما تضرر البيت الذي بُني بعد عام ستين. إذًا، إذا كان هذا البيت قد بُني على أساس متين، لم يضره الزلزال، والذي سقط هو الأشياء الحديثة وليست الأشياء القديمة. والهرم هذا لم يحدث له شيء، لماذا؟ لأنهم بنوه على أساس مسجد السلطان
حسن، نعم، بنوه على أساس أن يكون. كان هناك علم، ونحن نريد هذا العلم، لأن بهذا العلم تتم عبادة الله وعمارة الأرض وتزكية النفس، ومن دونه نكون في متاهات. ها نحن جالسون نتخبط في الدنيا والدنيا تتخبط فينا فنسمع. الآن من الشيخ محمد آداب المعلم الذي هو ركن ركين في العملية. عندما فقدنا المعلم فقدنا خيراً كثيراً. كان المعلم يعلّمك حتى يفهمك البديهيات. الآن المعلم نفسه أحياناً لا يعرف، فلا يُعد معلماً. من الذي أجازه بالتعليم قبل أن يتعلم؟ الفوضى التي نعيش فيها أن يتصدروا قبل أن يتعلموا. ومن تصدر قبل أن يتعلم كمن تطبب
قبل أن يتحذق، فيصبح طعاماً نيئاً وهو يظن أنه حصين، فعندما تأتي لتتذوقه تجده فاسداً، وأنت كنت تحسب أنه سيكون طعاماً لذيذاً. وهكذا، هيا بنا نذهب إلى هذا المثمن الذي تركه لنا الإمام الغزالي: الوظائف الثمانية للمعلم. اقرأ يا شيخ محمد بسم الله الرحمن. الرحيم قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين: بيان وظائف المرشد المعلم. اعلم أن للإنسان في علمه أربعة أحوال كحاله في اقتناء الأموال، إذ لصاحب المال حال استفادة فيكون مكتسباً، وحال ادخار لما اكتسبه فيكون به غنياً عن السؤال، وحال إنفاق
على نفسه فيكون منتفعاً، وحال بذل لغيره فيكون به سخياً متفضلاً، وهو أشرف أحواله. فكذلك العلم يُقتنى كما يُقتنى المال، فله حال طلب واكتساب، وحال تحصيل يُغني عن السؤال، وحال استبصار وهو التفكر في المُحصَّل والتمتع به، وحال تبصير وهو أشرف الأحوال. فمن علِم وعمِل وعلَّم فهو الذي يُدعى. عظيماً في ملكوت السماوات فإنه كالشمس تضيء لغيرها وهي مضيئة في نفسها، وكالمسك الذي يُطيب غيره وهو طيب، والذي يعلم ولا يعمل به كالدفتر الذي يفيد غيره وهو خالٍ عن العلم، وكالمسن الذي يشحذ غيره ولا يقطع، والإبرة التي تكسو غيرها
وهي عارية، وذبالة المصباح تضيء لغيرها وهي تحترق كما. قيل إنما هو كالذبالة التي أُوقدت لتضيء للناس وهي تحترق، ومهما اشتغل بالتعليم فقد تقلد أمراً عظيماً وخطراً جسيماً، فليحفظ آدابه ووظائفه. يُبيّن أهمية ما هنالك ويشير إلى قضية ربط المعلومات، فيقول إنه في حالة التحصيل المُغنية عن السؤال بعد ذلك يتم التفكر والاستبصار، فيتم حينئذ الربط بين المعلومات فتصل. إلى معلومة لم تتلقها ولكنها ناتجة مما تلقيته، عرفتها من ربطك لهذا، ثم بعد ذلك تعطي
هذا لغيرك وتفيد. فالمعلم يوفر عليك أعماراً كثيرة، فإذا لم يكن لك معلم ضاعت أعمارك سدى. تجلس لكي تحصل على علم واحد وأنت لا تعرف كيف تحصله، بينما عندما يكون لك معلم فإنه يوفر عليك ذلك. لك يضيف عمره إلى عمرك، ولذلك رأينا المسلمين الأوائل وإلى عهد قريب يجلسون إلى معلمين كُثُر، فالواحد يكون له سبعون أستاذاً أو ثمانون أستاذاً. في الزمان الماضي كان يكون له سبعمائة أستاذ، وكلما زاد عدد الأساتذة كلما زاد عمره، فكل واحد منهم يضيف إليه
عمره. كان الشيخ محمد بخيت المطيعي رضي... الله تعالى عنه آية من آيات الله في العلم. كان مفتي الديار، والشيخ رحمه الله كان مالكياً، حفظ مختصر خليل. مختصر خليل هذا صعب، لكنه كان حافظه، وكذلك وفي إحدى المداولات والمناقشات في الأزهر حابسين أنفسهم يذاكرون طوال الليل والنهار، قالوا له: "أنت تريد أن تخرج يا شيخ بخيت" زميلهم، فقال له. أريد أن أصبح قاضياً، أنا أحفظ باب القضاء جيداً. قال له: أي قاضٍ هذا؟ إن القاضي لا يكون إلا حنفياً. كان في الماضي القاضي لا يكون إلا حنفياً،
كانت الدولة العثمانية لا تزال قائمة. هذا الكلام في أواخر القرن التاسع عشر، يعني المالكية لا يصلحون. قال له: لا، لا يُقبل المالكية في القضاء. قال: توكلنا. على الله صرنا حنفيةً وبدأ دراسة المذهب الحنفي من جديد، فكان يجلس عند الشيخ محمد راضي ليقرأ عليه "مراقي الفلاح"، ويجلس عند الشيخ البحراوي ليقرأ عليه "مراقي الفلاح" أيضاً. يعني أنه يقرأ "مراقي الفلاح" عند الشيخ محمد راضي، ثم ينتقل إلى الشيخ البحراوي ليقرأ عليه أيضاً "مراقي الفلاح". هذا حنفي وذاك حنفي والكتاب واحد. حنفي بدأ من مراقي الفلاح يعني من البداية، فقالوا
له: "لماذا يا شيخ بخيت تضيع وقتك؟ أنت لديك وقت لتذهب وتقرأ مراقي الفلاح على الشيخ راضي، وتذهب لتقرأ في مراقي الفلاح مرة أخرى على الشيخ البحراوي، وهو يعني قارب على الانتهاء، يعني خطوة ويصبح من الأساتذة"، فقال: "لكل مذاقه"، يعني هذا يشرح. بطريقة يهتم فيها بتحليل الألفاظ، ويهتم بها، وهذا يشرح بطريقة أخرى يهتم فيها بتشقيق الأحكام بالأدلة، وبكيفية استنباط الأحكام من الأدلة، ففيها نمطان ومذاقان، فيريد أن يحصل على الاثنين. وفعلاً أصبح من كبار قضاة مصر وأصبح مفتياً للديار رحمه
الله، وكان واسع الاطلاع. كانت، كما يقولون، الفتوى تأتينا فيرد في خلال. ثمانية وأربعين ساعة فتوى محررة منقولة من الكتب والنصوص وكل شيء، وبعد ذلك عندما انتهى في سنة ألف وتسعمائة وعشرين، جاء بعدهم بعض الناس ليس بالعلم الذي لديه، فكانت الفتوى تستغرق شهرين أو ثلاثة وتضيع عند أمناء الفتوى. نعم، إذاً الوضع اختلف لماذا؟ لأن الشيخ بخيت غير موجود الذي هو... المعلم الذي هو هذا وكذلك حدث في الجماعة الشرعية سيدنا الشيخ محمود خطاب السبكي، عندما كان موجوداً كانت الهمة موجودة،
فألَّف تسعة مجلدات من "الدين الخالص" سرداً هكذا. كان مالكياً، وعندما توفي لم يستطيعوا إخراج أي مجلد، أخرجوا التاسع فقط لأنه كان مكتملاً، وقد طُبع فقط، لكنهم لم يستطيعوا، وهكذا يوفر. الأوقات وهو صاحب همة ينقلها إلى الآخرين. كان أبو إسحاق الإسفراييني رحمه الله تعالى يقرأ الفاتحة يعوذ بها تلاميذه، وكانوا كثيرين، ثلاثمائة شخص، فكان يخاف عليهم الحسد. انظر كيف كان قلبه! أنا منكم
مثل الوالد للولد. إلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.