مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 68 | أ.د علي جمعة

مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 68 | أ.د علي جمعة - إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع الإمام الغزالي في إحيائه نعيش هذه اللحظات، وهو يعلمنا الآفات التي يجب أن نحذرها طبقاً لما ورد في الكتاب والسنة وآثار السلف
الصالح. نعم، قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا. نفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين. وقال سفيان الثوري رحمه الله: "يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل". وقال ابن المبارك، وهكذا انتقلنا إلى القرن الثاني الهجري. فسفيان الثوري توفي سنة مائة وأربعة وستين، أو بالأحرى مائة وواحد وستين، مائة وواحد وستين، مائة وواحد وستين. والإمام أبو حنيفة توفي سنة مائة وخمسين وكذلك. الإمام جعفر الصادق يعني هؤلاء أهل القرن الثاني الهجري، وصلنا بالفعل إلى مئة وواحد وستين، الثوري وابن المبارك كذلك عبد الله بن المبارك وهكذا، فبدأنا يعني انظر كيف يذكرهم بالتسلسل، ها هو
سيدنا النبي ثم الصحابة ثم التابعين ثم العلماء المتقدمين كالخليل بن أحمد، ثم دخلنا الآن في القرن الثاني الهجري. نعم وقال ابن المبارك: "لا يزال المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل" هكذا دائماً. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "إني لأرحم ثلاثة: عزيز قوم ذلّ، وغني قوم افتقر، وعالماً تلعب به الدنيا". عزيز قوم ذلّ يُبتلى بفقدان الجاه، والغني بفقدان المال، ولكن الثالث... هذه مصيبة عظيمة، وهي حال الإنسان الذي تتلاعب به الدنيا. وكان من دعاء السلف الصالح: "اللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا". فتكون في أيدينا، لأن الزهد لا
يتحقق إلا إذا كانت في يدك ثم تزهد فيها، فهي بذلك لا تتلاعب بك بل أنت الذي تتحكم بها. قال غيري... غيري غيَّري نعم. وقال الحسن: "عقوبة العلماء موت القلب". وكان يقصد الحسن البصري، والحسن البصري في الحقيقة هو ربيب أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها، أي تربى في بيتها. وقد أدرك الحسن البصري الإمام عليًا، وتثبت روايات الصوفية السماع بين الحسن البصري وعلي، لأنه عندما توفي علي... كان الحسن البصري عمره خمسة عشر عاماً، وكانوا أذكياء وأجسامهم طويلة، وفي سن الخامسة عشرة كان يتلقى العلم جيداً عن سيدنا علي رضي الله عنه. فتلقى عنه الطريق،
وفي سلسلة الطريق يأتي الحسن البصري عن علي، ولذلك ترى أن الهنود ألّفوا في هذا الموضوع كتاباً باسم "الحسن في سماع الحسن" في مجلدين. يثبت سماع الحسن البصري من علي، والحسن البصري من أئمة التابعين، يعني هو تربى في بيت أم سلمة، وأيضاً كانت أمه تخدم السيدة أم سلمة، ولقي الصحابة وما إلى ذلك، وعاشر ولازم سيدنا علي بن أبي طالب، وإذا أُطلق الحسن انصرف إليه وليس إلى الحسن بن علي، لا فما لي. يختلط الناس في هذا الأمر فيقولون هذا الحسن بن علي، فيُقال: لا، هذا ليس الحسن
بن علي بل هو الحسن البصري. نعم، وقال الحسن: "عقوبة العلماء موت القلب، وموت القلب أن يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة". وأنشدوا: "عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى، ومن يشتري دنياه بالدين أعجب، وأعجب من هذين من باع دينه بدنيا سواه". فهو من ذين أعجب وفي أعجب منه حصل في عصرنا وهو أنه باع دينه ودنياه بدون مقابل فإنا لله وإنا إليه راجعون. نعم وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إن العالِم ليُعذَّب عذاباً يطيف به أهل النار استعظاماً لشدة عذابه". أراد به العالِم الفاجر. قال الحافظ العراقي: لم أجده بهذا. اللفظ
وهو معنى حديث أسامة رضي الله عنه المذكور بعده وقال أسامة بن زيد رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يُؤتى بالعالم يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيطيف به أهل النار فيقولون ما لك فيقول كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه. قال الحافظ العراقي: متفق عليه بلفظ "رجل" بدل "العالم". وإنما يضاعف عذاب العالم في معصيته لأنه عصى عن علم، ولذلك قال الله عز وجل: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار؛
لأنهم جحدوا بعد العلم، وجعل اليهود شراً من النصارى مع أنهم ما جعلوا لله سبحانه ولداً ولا قالوا إنه ثالث ثلاثة إلا أنهم أنكروا بعد المعرفة، إذ قال الله: "يعرفونه كما يعرفون أبناءهم"، وقال تعالى: "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين"، وقال تعالى في قصة بلعام بن بعوراء: "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه". الشيطان فكان من الغاوين حتى قال فمثله كمثل الكلب إن تحمل
عليه يلهث أو تتركه يلهث فكذلك العالم الفاجر فإن بلعام أوتي كتاب الله تعالى فأخلد إلى الشهوات فشبه بالكلب أي سواء أوتي الحكمة أو لم يؤت فهو يلهث إلى الشهوات وقال عيسى عليه السلام مثل علماء السوء كمثل صخرة وقعتْ على فمِ النهر، لا هي تشربُ الماء ولا هي تتركُ الماء يصلُ إلى الزرع. ومَثَلُ علماءِ السوء مثلُ قناةِ الحَشّ، ظاهرُها جِصٌّ وباطنُها نَتِنٌ. ومَثَلُهم كَمَثَلِ القبور، ظاهرُها عامرٌ وباطنُها عظامُ الموتى. هذا يعني أنَّ الآية يُقصَدُ بها هذا الرجل المذكور،
هذا هو المقصود. من روايات غير موثقة عن أهل الكتاب وحُكي في كلام كثير عن بلعام بن باعوراء هذا، وهل هو من البشر أو من غير البشر، وأن طوله كيلومتر ونصف أو شيء مثل ذلك. كل هذه أساطير ليس لها أساس عندنا، والقرآن علّمنا عدم الاهتمام بهذه التفاصيل، ولا نهتم بها إلا بقدر إثبات. ما ورد في الكتاب يعني نهتم مثلاً بالطوفان في أيام نوح حتى نثبت للآخرين أنه حدث لأن بعضهم ينكره، أو مثلاً قصة أهل الكهف ووجودهم،
أو قصة سيدنا إبراهيم وأنهم بنوا له بنياناً حتى يلقوه في الجحيم كما ورد في القرآن. كل هذه القصص يمكن توثيقها لكن ما لون كلب أهل الكهف وما اسمه مثلاً هذا لم يهتم به القرآن، وهذا يعني علم لا ينفع والجهل به لا يضر. وتكلم القرآن أن آزر هو أبو إبراهيم، أما اسم أمه فما هو؟ يعني هذا ما حاله؟ لكن بعض الناس اهتموا
بهذا الصنف من المعرفة إذا كان أبوه. إذن أمه كان اسمها ماذا وهكذا، وكان طلبة العلم رأيناهم - يعني كنا نحن صغاراً وهم أكبر منا بعشرين أو ثلاثين سنة تقريباً - يهتمون جداً بهذه الأشياء لأنهم يسألون بعضهم فلا يحدث أن يتحرج أحدهم أو لا يجيب، وعلمنا منهم أن أم إبراهيم كان اسمها نونة. نعم، نونة وأنها أم سيدنا موسى هي موجودة في القرآن، اسمها يوخندا أو يوخنذا، يا يوخندا، يا يوخنذا، وأنه وهكذا.
وكانوا يهتمون بأن لون كلب أهل الكهف كان بنياً، قال يعني كانوا حاضرين ورأوا أن لونه بني. أتفهم كيف؟ وهكذا. فالمهم أنهم كانوا يحفظون هذه الأشياء لأنهم كانوا يجعلونها مثل الألغاز وكل هذا كأنه علم لا ينفع والجهل به لا يضر أصلاً لأن القرآن إنما هو للموعظة والهداية. وكانت هناك أسئلة في الحقيقة، انظر انظر الفرق بين ما اسم أمه؟ حسناً، اسمها نونة. نونة هذه أوردها السهيلي في الروض الأنف، يعني إذا
كنت تريد أن تعرف. أين، لكن هناك ما هو أعمق من ذلك وهو أن إبراهيم دعا بالغفران لوالديه "اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين"، "اغفر لي ولوالدي". فلما توجه إليه اللوم توجه إلى أبيه فقط، فهل أسلمت أمه وصدَّقته؟ يعني ما هو الجمع بين الآيتين؟ يقول هكذا أنها صدَّقته. أهذا هو التفسير أم أنه آزر وليس أباه؟ وأنه هو عمُّه وأن أباه وأمه أسلموا وهكذا
لأجل الإشكال المتعلق بأنه لامه على أبيه ولم يلمه على أمه. حسناً، تفضل وذكّره أيضاً قليلاً. فهذه الأخبار والآثار تبين أن العالم الذي هو من أبناء الدنيا أخس حالاً وأشد عذاباً من الجاهل، وأن الفائزين المقربين هم العلماء. الآخرة ولهم علامات فمنها ألا يطلب الدنيا بعلمه، فإن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها، وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها. ويعلم أنهما متضادتان، وأنهما كالضرتين، مهما
أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، وأنهما ككفتي الميزان، مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى، وأنهما كالمشرق والمغرب، مهما قربت من أحدهما بَعُدَت عن الآخر وإنهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ، فبقدر ما تصب منه في الآخر حتى يمتلئ يفرغ الآخر. فإن مَن لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذتها بألمها ثم انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل، فإن المشاهدة والتجربة ترشد إلى ذلك، فكيف يكون من العلماء. من لا عقل له ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوامها ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر مسلوب
الإيمان فكيف يكون من العلماء من لا إيمان له ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن الجمع بينهما طمع في غير مطمع فهو جاهل بشرائع الأنبياء كلهم بل هو كافر بالقرآن كله من أوله إلى آخره، فكيف يُعَدُّ من زُمْرَة العلماء؟ ومن علم هذا كله ثم لم يُؤْثِر الآخرة على الدنيا، فهو أسير الشيطان، قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شِقْوَتُه، فكيف يُعَدُّ من حِزْب العلماء من هذه درجته؟ وهذا كله على سبيل الموعظة والتحذير والنصح، والحقيقة عند الله. يجوز حمله على التكفير أن نكفّر العلماء لأنني أرى أنه من أهل الدنيا فأكفّره، هذا كلام فاسد لم يقصده
الإمام إطلاقاً، بل هو قصد التوجه بموعظة شديدة للعلماء حتى يرتدعوا من التلاعب بالعلم أو تضليل الناس أو عدم التعلق بالله سبحانه وتعالى أو صرف العلم في غير ما هو له. إلى آخره فيقول له أنت على خطر عظيم، أنت على خطر الكفر والعياذ بالله، ولكن ليس هذا من قبيل إصدار الأحكام، فإن أهل السنة يبتعدون عن التكفير حتى مهما كان من بلاء من تحقق بهذا، فإنهم يحذرون وينصحون وما إلى ذلك، لكن لا يقعون في التكفير،
والله تعالى أعلى وأعلم. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.