مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 69 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين لإمام الأئمة وحجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى ورضي الله عنه ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين. مع
الكتاب الأول، كتاب العلم، وكنا وصلنا إلى آفات العلم. يحذرنا منها، وهذا الكتاب "كتاب العلم لإحياء علوم الدين" جدير بأن يُشرح شرحاً واسعاً من الناحية التعليمية والتربوية والخلقية والقيمية، فكل كلمة وراءها قاعدة تُبنى على مثلها العقول النيرة التي تسعى لتحصيل العلم لعبادة الله، ولعمارة الدنيا كما أمر الله، ولتزكية النفس كما أمر الله سبحانه وتعالى، فيكون العبد بذلك عبداً ربانياً، فإذا دعا الله استجاب الله له. هذا أساس كبير فقدته الحضارات الأخرى، وكانت قضية الدين
أو الألوهية تكمل الحياة وتجيب على الأسئلة الكبرى، لكنها ليست ما تُبنى عليها الحياة. أما هذا الإسلام فقد بنى الحياة على القضية الحقيقية للكون وهي أنه لا إله إلا الله وأن هذا القرآن. هو من عند الله الذي نعبر عنه بكلمة "وأن محمداً رسول الله". نستمر في القراءة والشرح، وإن كان هذا الكتاب يحتاج إلى شروح مستفيضة. كتاب العلم وحده تأسيساً لأنه هو المفتاح، ولذلك جعله الغزالي أول كتاب قبل أن يدخل في العبادات والمعاملات والمهلكات والمنجيات وما إلى آخره. تكلم عن مفتاح... الأمر هو العلم ولا نجاة لنا
لا في طريق الدنيا ولا في طريق الآخرة إلا بالعلم. اقرأ يا شيخ محمد: بسم الله الرحمن الرحيم، قال حجة الإسلام أبو حامد بن الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين، وفي أخبار داوود عليه السلام حكاية عن الله تعالى. إن أدنى ما أصنع بالعالِم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي. يا داود، لا تسأل عني عالِماً قد أسكرته الدنيا فيصدك عن طريق محبتي، أولئك قطّاع الطريق على عبادي. يا داود، إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً. يا داود، من رد إليّ هارباً كتبته جهبذاً ومن كتبته جهبذاً لم أعذبه
أبداً، ولذلك قال الحسن رحمه الله: "عقوبة العلماء موت القلب، وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة". ولذلك قال يحيى بن معاذ: "إنما يذهب بهاء العلم والحكمة إذا طُلب بهم الدنيا". وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: "إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فهو لص". وقال عمر رضي قال الله عنه: "إذا رأيتم العالِمَ محباً للدنيا فاتّهموه على دينكم، فإنّ كلّ محبٍّ يخوض فيما أحبّ". وقال مالك بن دينار رحمه الله: "قرأتُ في بعض الكتب السالفة أنّ الله تعالى يقول: إنّ أهون ما أصنع بالعالِم إذا أحبّ الدنيا أن أُخرِجَ حلاوة مناجاتي من قلبه".
وكتب رجلٌ إلى أخٍ له. إنك قد أوتيت علماً فلا تُطفئن نور علمك بظلمة الذنوب، فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم. وكان يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله يقول لعلماء الدنيا: "يا أصحاب العلم، قصوركم قيصرية، وبيوتكم كسروية، وأثوابكم ظاهرية، وأخفافكم جالوتية، ومراكبكم قارونية، وأوانيكم فرعونية، ومآثمكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية، فأين". الشريعة المحمدية، قال الشاعر: وراعي وراعي الشاة يحمي الذئب عنها، فكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟ وقال آخر: يا معشر القراء يا ملح البلد،
ما يصلح الملح إذا الملح فسد. وقيل لبعض العارفين: أترى أن من تكون المعاصي قرة عينه لا يعرف الله؟ فقال: لا أشك أن من تكون الدنيا عنده... آثر من الآخرة أنه لا يعرف الله تعالى وهذا دون ذلك بكثير، ولا تظنن أن ترك المال يكفي في اللحوق بعلماء الآخرة، فإن الجاه أضر من المال. ولذلك قال بشر: "حدثنا باب من أبواب الدنيا"، فإذا سمعت الرجل يقول: "حدثنا"، فإنما يقول: "اوسعوا لي". ودفن بشر بن الحارث بضعة عشر. ما بين قمطرة وقوصرة من الكتب، وكان يقول: أنا أشتهي أن أحدث، ولو ذهبت عني شهوة الحديث
لحدثت. وقال هو وغيره: إذا اشتهيت أن تحدث فاسكت، فإذا لم تشته فحدث. وهذا لأن التلذذ بجاه الإفادة ومنصب الإرشاد أعظم لذة من كل تنعم في الدنيا، فمن أجاب شهوته فيه فهو من... أبناء الدنيا، ولذلك قال الثوري: "فتنة الحديث أشد من فتنة الأهل والمال والولد". وكيف لا تخاف فتنته وقد قيل لسيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾. وقال سهل رحمه الله: "العلم كله دنيا، والآخرة منه العمل به، والعمل كله هباء إلا". الإخلاص: وقال الناس
كلهم موتى إلا العلماء، والعلماء سكارى إلا العاملين، والعاملون كلهم مغرورون إلا المخلصين، والمخلص على وجل حتى يدري ما يُختم له، والمخلص على وجل حتى يدري ماذا يُختم له به. وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: إذا طلب الرجل الحديث أو تزوج أو سافر في طلب المعاش... فقد ركن إلى الدنيا وإنما أراد به طلب الأسانيد العالية أو طلب الحديث الذي لا يحتاج إليه في طلب الآخرة، وقال عيسى عليه السلام: "كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته وهو مقبل على طريق دنياه، وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به لا ليعمل". قال صالح
بن كيسان البصري: أدركت الشيوخ وهم يتعوذون بالله من الفاجر العالم بالسنة. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من طلب علماً مما يُبتغى به وجه الله تعالى ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة". قال الحافظ العراقي: أخرجه أبو داود وابن ماجه بإسناد جيد. إذاً هنا أمور، الأمر الأول: بعض الضبط. الجهبذ على شكل واحد وهو بالكسر، وهي كلمة فارسية. وفي القاموس أنها بالكسر فقط، لا
يوجد جَهبذ. فكلام العوام يقول لك: هذا جَهبذ، يعني ماذا؟ خطأ. فكما قال الشيخ وهو يتلو: الجِهبذ والجِهبذ. هو الخبير أو الخريت الحاسب أو المدقق أو نحو هذا المعنى، يعني هو الأستاذ الجهبذ المتعمق. وسعيد بن المسيب كما عند أهل العراق، أو ابن المسيب عند أهل الحجاز، أو ابن المسيب كما عند أهل العراق، لكن سعيد كان يحب أن يُنادى بالكسر: سعيدُ بنُ المسيب. وتكلموا في أدب. التلاوة أننا نذكر ما أحبه الإنسان، يعني يُنادى الإنسان
بأحب الألفاظ إليه، وكان من طرائف ذلك أن يقول: "سيَّب الله من سيَّبني"، يعني المُسيَّب يكون مفعولاً به، فكان يقول: "سيَّب الله من سيَّبني"، فهو ابن المسيِّب بالأدب وليس في التحرير، حتى لو كان ابن المسيَّب، لكننا نقول ماذا؟ ابن المسيب ومثله المبرد وكان يقال له المبرد ومثله الغزالي وكان يقال له الغزالي وكل ذلك كانوا يكرهون هذه الأشياء فنذكرها على ما كانوا يحبون نقول المبرد الغزالي ابن المسيب ونحو ذلك وهذا المعنى الذي ذكره الإمام تكلم
عنه أهل التصوف واسموا حالة عالية من العلاقة مع الله بأهل الحديث وأهل الحديث معناها أهل الحديث مع الله في هذا المعنى، وهو من دخل في المناجاة في حاجة مثل طبقة، أي في مقام يُسمى مقام المناجاة، يصل فيه الإنسان إلى حد الحديث مع الله، مثلما كان سيدنا موسى، أي أن الله يلهمه بإلهامات ويفتح عليه بفتوح، وهو أيضًا يعبد الله سبحانه. وتعالى وتكون هناك مراوحة وهذا يُسمى بأهل الحديث. ليسوا هم أهل الحديث الذين هم أهل السند والبخاري ومسلم وأبو داود، لا.
عند هؤلاء الناس وفي مصطلحهم أن أهل الحديث هم أهل الحديث مع الله، وهو يتحدث عنهم دون أن يُسميهم بأهل الحديث كما سماهم الصوفية، إنما هؤلاء أقوام دخلوا في طبقة. أو في مرتبة أو في درجة تُسمى بالمناجاة، وهذه المناجاة تُحدِث لذة عظيمة في القلب لأنه يناجي ربه. وقد اهتم كثير من أصحاب الطرق بالوصول إلى درجة المناجاة حتى سمّوا كتبهم المناجاة، أي سمّوها باسم المقام أو الدرجة أو المرتبة التي تصل إليها في الحديث مع الله، وهي
المناجاة وفي حالة... المناجاة: رأينا سيدنا موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال له ربه: "وما تلك بيمينك يا موسى". قال: "هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى". الله سبحانه وتعالى سأله ما هذا الذي في يمينك يا موسى. كان يمكنه أن يقول له "عصاي" فقط. ما الذي جعله... يقول أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى. كان سيزيد ويكثر، فقال: "ولي فيها مآرب أخرى". قالوا إن المعنى هو
طول الأنس بالله، يعني أنه حدثت له حالة من اللذة والفرحة والمناجاة لم يستطع معها أن يمسك نفسه، يريد أن يتكلم ويتكلم ويتكلم، بالرغم من أن المناجاة تصنع حالة من الانبساط. ربما يكون من الأدب أن أجيب بقدر السؤال، كما في "وما تلك بيمينك يا موسى" وهو أعلم بها أو بالعصا، لكن القضية أن هذا يشير إليك إلى أن هذا المقام هو مقام بسط وليس مقام قبض وخوف وحشمة من الله سبحانه وتعالى، بل هو مقام انبساط وفرح. وتلذَّذ بحدثٍ له فاستمرَّ فيه، هذا كذلك قالوا لمعنى طول الأنس بالله سبحانه
وتعالى. الشيخ الغزالي أرشد إلى أن هذه المناجاة وتلك اللذة قد يُحرم منها العبد بسوء أدبه، وأنها تُسلب منه فيأتي ليناجي فتصبح مناجاة لفظية، يجلس يدعو ويدعو وقلبه لا يتحرك، وبذلك يكون قد خسر كثيراً جداً. ذاق عرف ومن عرف اغترف فمن يعرف قيمة المناجاة يتحسر عليها كثيراً إذا فقدها بسبب سوء أدب صدر منه. فهو يحفز ويستثير العلماء ليدخلوا في المناجاة وأن يشعروا بلذتها وأن يحافظوا عليها،
لأن هذه اللذة ستحميهم من الوقوع في الآفات المحظورة التي توجه علمهم إلى الدنيا وليس إلى الآخرة، ولذلك إذا... مَنَّ اللهُ على أحدكم بالدخول في المناجاة فليعلم أنَّ هذا كنزٌ كبيرٌ يستحق الحفاظ عليه والتأدب معه والدعاء بأن يديم اللهُ سبحانه وتعالى عليه هذه النعمة، وهي نعمةٌ تساوي كنوزَ الدنيا وما فيها. مقابلها هو الحجاب والعياذ بالله تعالى، فتكون محجوبًا عن هذه المناجاة، فإذا حصل حجابٌ فلا بدَّ عليك. أن تسعى لمعرفة سبب وجوده حتى تزيله ولمعرفة كيف تتعداه وتتجاوزه وتعود مرة أخرى إلى
المناجاة. القضية الثالثة هنا: هؤلاء الأكابر: الفضيل بن عياض، الحسن البصري، يحيى بن معاذ، سليمان الداراني، هؤلاء هم أئمة الهدى الذين علموا الناس العلاقة بين الإنسان وبين ربه. القضية الرابعة هي أنه بشر بن الحارث. أو بشر الحافي أو أمثال هؤلاء عندما يدفن الكتب فهذا يسميه العلماء بالحال، وتلاحظ أنه حصل له حال، والأحوال لا يقف عندها الرجال، يعني لا تأخذ منها حكمًا لأن هذه حالة خاصة بينه وبين الله هكذا. ولذلك تراهم
أنه وضعها في صندوق ودفنها ولم يحرقها، فالحرق يكون تدميرًا أما الدفن فهو إبعاد. لعل الله سبحانه وتعالى أن يقدر لها من يستخرجها ويستفيد منها إذا كان حاله مع الله على الحال الطيب، ونستفيد من هذا أن المسلمين في حال علمهم وحضارتهم والتزامهم بدينهم لم يحرقوا الكتب أبداً، وأن الفرية الكاذبة التي يقال إنهم أحرقوا مكتبة الإسكندرية هي أوهام، فهم لم يحرقوا الكتب. أبداً إلا عندما أصابهم الجهل، فكانت السيدات وهن يطبخن ويضعن الكتب وقوداً للنار. آه، هذا حال الجهل، هذا ليس له علاقة بالإسلام، هذا جهل حصل في الأمة. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.