مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 72 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع إمام الأئمة حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى، رضي الله تعالى عنه ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين. نعيش سوياً في كتاب الإحياء وفي كتاب العلم منه،
وهو يؤسس لنا نظرية معرفية عميقة. يجعل فيها العلم ولا بد أن يتصل وأن يدل على الله سبحانه وتعالى وأن كل معلومة لا توصل إلى الله فلا فائدة فيها بل قد تكون سلبية تضر ولا تنفع وهذه النظرية جاءت للإمام الغزالي من أمرين: الأمر الأول أنه تدبر النصوص الشرعية وتعمق فيها وأخذ منها ما هو مقبول. وليس بمردود، والمقبول قد يكون صحيحًا وقد يكون حسنًا وقد يكون ضعيفًا، والضعيف
منه ما هو يخالف الأصول فيُرد، ومنه ما هو يوافق الأصول فنأخذه بالأصول ونستأنس به الضعيف، لأننا حتى لو أنكرناه أثبتنا معناه في الأصول، وهذا هو الذي عليه السلف الصالح من العلماء والمفكرين رضي الله تعالى عنهم ومن. المجتهدون العظام ومن تبعهم إلى يومنا هذا، وهناك من الأخبار والآثار ما هو مردود وذلك لأنه يخالف الأصول أو يكر عليها بالبطلان أو كأنه ليس منها وهو خارج عن قواعدها، وحينئذ يدركه العالم فيستبعده. بنى الإمام الغزالي أولاً بعد تدبره في
النصوص من صحيحها ومقبولها من قرآنها وسنتها وآثار الصحابة وأقوال أئمة الفضلاء المتبوعين من أهل الله ومن التفكر والتدبر في أحوال الخلق وفي سنن الله الجارية التي لا نجد لها تبديلاً ولا نجد لها تحويلاً، وخرج بهذه النظرية التي عرضها على الأمة فتقبلها الناس من العلماء وغيرهم، وصار إحياء علوم الدين يلازم كل بيت وكأنه البخاري، وانتدب الله له أناساً. عبر التاريخ يُخرِجونه ويُبيِّنون مآخذه ويشرحونه وهكذا، لكن كتاب "إحياء علوم الدين"
اختصره المقدسي في كتاب اسمه "منهاج القاصدين". نعم، حسناً، لكن هذا المطبوع هو الخاص بالمقدسي "منهاج القاصدين" الذي طُبع. سمَّاه مختصراً لسبب ما، لا بأس، لا يحدث شيء، ولكن اكتفى فيه المقدسي بالوارد. الصحيح أي الذي لا نزاع فيه بين الناس، فكان هو هو، أي ما توصل إليه الإمام من أفكار ونظريات معرفية هي هي لم تتغير. فكانت الزيادة
إنما هي زيادة مقبولة لأنها لا تخالف الأصول وتؤيد وتؤكد الواقع. وظل الإحياء موجوداً في كل مكان، ولما طُبع الإحياء، طُبع طبعة نادرة من... غير تخريج العراقي وهي طبعة نادرة جداً بحيث إنك لو طلبتها ما وجدتها، التي هي طبعة الإحياء من غير التخريج. ثم طُبِعت مرات لا نعلم عددها ولكن بتخريج العراقي. ويُقال إن العراقي ألّف تخريجات ثلاثة: واحد موسّع، والثاني وسط، والثالث صغير مختصر، وهو الذي نُشِر في هذه
الأسطر القليلة واستعان بي. المرتضى الزبيدي في شرحه بكل ذلك، اقرأ يا شيخ محمد: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد بن الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين، ومنها أن تكون عنايته بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغِّب في الطاعات، مجتنباً للعلوم التي يقل نفعها ويكثر. فيها الجدال والقيل والقال، فمثال من يُعرِض عن علم الأعمال ويشتغل بالجدال، كمثل رجل مريض به علل كثيرة وقد صادف طبيباً حاذقاً في وقت ضيق يخشى فواته، فاشتغل بالسؤال عن خاصية العقاقير والأدوية وغرائب الطب وترك مهمته التي هو مؤاخذ
بها، وذلك محض السفه. وقد رُوي أن رجلٌ جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "علّمني من غرائب العلم"، فقال له: "ما صنعت في رأس العلم؟"، فقال: "وما رأس العلم؟"، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "هل عرفت الرب تعالى؟"، قال: "نعم"، قال: "فما صنعت في حقه؟"، قال: "ما شاء الله"، فقال صلى الله عليه. وآله وسلم هل عرفت الموت؟ قال: نعم. قال: فما أعددت له؟ قال: ما شاء الله. قال صلى الله عليه وآله وسلم: اذهب فاحكم ما هناك ثم تعال نعلمك من غرائب العلم. قال الحافظ العراقي: رواه ابن السني وأبو نعيم وأبو
نعيم في كتاب الرياضة لهما وابن عبد البر من حديث عبد الله بن الحسوان مرسلاً وهو ضعيف جداً، بل ينبغي أن يكون المتعلم من جنس ما رُوي عن حاتم الأصم تلميذ شقيق البلخي رضي الله عنهما أنه قال له شقيق: "منذ كم صحبتني؟" قال حاتم: "منذ ثلاث وثلاثين سنة". قال: "فما تعلمت مني في هذه المدة؟" قال: "ثماني مسائل". قال: شقيق له: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل. قال: يا أستاذ، لم أتعلم غيرها، وإني لا أحب أن أكذب. فقال: هات هذه الثماني مسائل حتى أسمعها. قال حاتم: نظرت
إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوباً، فهو مع محبوبه إلى القبر، فإذا... وصل إلى القبر فارقه فجعلتُ الحسناتِ محبوبي، فإذا دخلتُ القبر دخل محبوبي معي. فقال: أحسنتَ يا حاتم، فما الثانية؟ سبحانه هو الحق، فأجهدتُ نفسي في دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله تعالى. الثالثة أني نظرتُ إلى هذا الخلق فرأيتُ كل من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه
وحفظه، ثم نظرتُ... إلى قول الله عز وجل "ما عندكم ينفذ وما عند الله باقٍ"، فكلما وقع معي شيء له قيمة ومقدار وجهته إلى الله ليبقى عنده محفوظاً. الرابعة أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب، فنظرت فيها فإذا هي لا شيء، ثم نظرت. إلى قول الله تعالى "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريماً. الخامسة
أن هذا الخلق يبغي بعضهم على بعض ويقاتل بعضهم بعضاً، فرجعت إلى قول الله عز وجل "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً" فعاديته وحده واجتهدت في أخذ حذري منه لأن الله تعالى شهد. عليه أنه عدو لي فتركت عداوة الخلق غيره. السابعة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد
منهم يطلب هذه الكسرة، فيذل فيها نفسه، ويدخل فيما لا يحل له. ثم نظرت إلى قوله تعالى: "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها"، فعلمت أني واحد من هذه الدواب التي على الله رزقها فاشتغلت بمال الله تعالى عليّ وتركت مالي عنده. الثامنة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيتهم كلهم متوكلين على مخلوق، هذا على ضيعته، وهذا على تجارته، وهذا على صناعته، وهذا على صحة بدنه، وكل مخلوق متوكل على مخلوق مثله. رجعت إلى قوله تعالى:
"ومن يتوكل على الله فهو حسبه". فتوكلت على الله عز وجل فهو حسبي. قال شقيق: "يا حاتم، وفقك الله تعالى، فإني نظرت في علوم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم، فوجدت جميع أنواع الخير والديانة وهي تدور على هذه الثماني مسائل، فمن استعملها فقد استعمل الكتب الأربعة. فهذا الفن من العلم لا يُهتم بإدراكه، فهذا الفن من..." العلم لا يهتم بإدراكه والتفطن له إلا
المتميزون، ولكن هنا في هذا الكلام أمور. الأمر الأول أن ابن القيم رحمه الله تعالى ألف كتاباً ماتعاً وأسماه "المنار المنيف في معرفة الصحيح من الضعيف"، وذكر فيه ملامح الحديث الابتدائية التي يمكن أن نحكم على الحديث بداءةً من خلالها قبل التفتيش عن سنده كما هو. أهل كما هو دأب أهل الصناعة، ولذلك فالحديث الأول الذي بدأ به الباب فيه محادثة طويلة،
وهذه المحادثة الطويلة ليست من شأن الأحاديث، يعني الأحاديث الواردة إلينا ليس فيها هذا الحديث الطويل والأخذ والرد وماذا فعلت وما إلى ذلك بهذه الطريقة. الأمر الثاني هو هذا الحديث الذي جرى بين الأستاذ. وبين تلميذ، ومن هنا نرى أن الأستاذ لا يأنف أن يتعلم من التلميذ وأن يعتمد كلامه بالرغم من أنه كان سبباً في تحصيل هذه المسائل. الأمر الثالث هو أن شقيق أثبت أنه يبحث في مصادر الأديان في التوراة والإنجيل والزبور وكتب السابقين، لكن بعين ناقدة، أولاً يأخذ منها
ليس طرف. الأحكام ولا العقائد ولا الأمور المُشكِلة بين الأديان، بل يأخذ منها طريقة في معرفة الأدب مع الله، وهذا يحتاج إلى علم كبير نُهينا عنه إذا لم تكن لدينا القدرة على هذا، فنُهينا أن ننظر بهذه الطريقة في كتب الأولين لأننا إذا اعتبرناها مصادر سهلة هكذا، نفعل فيها من الشأن. حدثَ التشويشُ إنّما الإنسانُ الذي بلغَ مبلغَ الرشدِ والتحقيقِ فإنّه ينظرُ ولا يهتمُ لأنّه يعرفُ المقاييسَ والمعاييرَ التي ينتقي بها الكلامَ. إذاً هذا معناهُ الجوازُ لكاملِ
الآلةِ البحثيةِ، وأيضاً معناهُ عدمُ الجوازِ لمن ليست آلتُهُ البحثيةُ كاملةً. بعضُ الناسِ لا، أبداً، إمّا أن يُجيزَ مطلقاً أو يمنعَ مطلقاً، وهذا خطأٌ. إنما أمثال من في [مكانة] رطبة ومقامي وقامة شقيق هو يفعل هذا، أما الذي لم يصل إلى هذه المرتبة فلا يفعل هذا. الأمر الثاني أنهم كانوا ينظرون إلى كتب الأولين وإلى تجربتهم وليس إلى كتبهم فقط، كيف كانوا يعيشون، وهكذا استفاد كثير منهم عندما دخلوا الإسلام. الأمر الثالث أنهم
رأوا ذلك طبقاً للكتاب والسنة، يعني بعد أن اكتملت معرفتهم في الكتاب وفي السنة وتشبعوا بها وتحققوا منها، ذهبوا ليقرؤوا فيأخذون ما كان موافقاً ويَدَعون ما كان محرفاً أو مخالفاً أو مشوشاً أو منسوخاً، أو يحكمون على ما معهم بالبطلان، وكل ذلك يريدون به أن يزدادوا أدباً مع الله سبحانه وتعالى. في مرحلة معينة من مراحل العمر والعلم والتقوى وهكذا، فهذا لا يعارض هذا، فننهى في بداية الطريق ثم نبيح عندما يستقل بنفسه. فتنبه فإنه يشكل على كثير من الناس. نعم، ومنها أن يكون غير مائل إلى الترفه في المطعم
والمشرب والتنعم في الملبس والتجمل في الأثاث والمسكن، بل يؤثرون الاقتصاد. في جميع ذلك ويتشبه فيه بالسلف رحمهم الله تعالى ويميل إلى الاكتفاء بالأقل في جميع ذلك، وكلما زاد إلى طرف القلة ميله ازداد من الله قربه وارتفع في علماء الآخرة حزبه، ويشهد لذلك ما حُكي عن أبي عبد الله القواص وكان من أصحاب حاتم الأصم قال: دخلت مع حاتم إلى ومعنا ثلاثمائة وعشرون رجلاً يريدون الحج وعليهم الملابس الإحرامية، وبهذا نبدأ حلقة جديدة إن شاء الله. إلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.