مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 73 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. ما زلنا مع كتاب إحياء علوم الدين في الكتاب الأول كتاب العلم، والإمام يتكلم عن آفات العلم، وهو يبين لنا في الجملة أن العلم منه محمود وهو الذي يوصل إلى
الله، ومنه مذموم وهو... الذي يكون حجاباً بين الخالق والمخلوق وأن هناك علوماً تتردد بينهما، ويتكلم الإمام هنا عن مجموعة من الأخلاق التي لا بد أن نراعيها حتى نحقق المقصود. اقرأ يا شيخ محمد، بل يؤثرون الاقتصاد في جميع ذلك ويتشبهون فيه بالسلف رحمهم الله تعالى، ويميلون إلى الاكتفاء بالأقل في جميع ذلك، وكلما زاد. إلى طرفِ القلّة مَيْلُه ازداد
مَن اللهِ قُرْبُه وارتفع في علماءِ الآخرةِ حِزْبُه، ويشهدُ لذلك ما حُكِيَ عن أبي عبد الله القواص، وكان من أصحاب حاتم الأصم، قال: دخلتُ مع حاتم إلى الرّي ومعنا ثلاثمائة وعشرون رجلاً يريدون الحج، وعليهم الثياب البانقات وهي الجُبَب من صوف، وليس معهم مؤونة. ولا ضعاف، فدخلنا على رجل من التجار متقشف يحب المساكين، فأضافنا تلك الليلة. فلما كان من الغد قال لحاتم: ألك حاجة؟ فإني أريد أن أعود فقيهاً لنا هو عليل. قال حاتم: عيادة المريض فيها فضل، والنظر إلى الفقيه عبادة، وأنا أيضاً أجيء معك. وكان العليل محمد بن مقاتل قاضي الريف. فلما جئنا إلى
الباب فإذا قصر مشرف حسن، فبقي حاتم متفكراً يقول: "باب عالٍ على هذه الحالة". ثم أُذِنَ لهم فدخلوا، فإذا دار حسناء واسعة نزهة، وإذا بها زينة وستائر، فبقي حاتم متفكراً. ثم دخلوا إلى المجلس الذي هو فيه، وإذا بفُرُشٍ وطيئة وهو راقد عليها، وعند رأسه غلام وبيده مَذبة فجلس الزائر عند رأسه وسأل عن حاله وحاتم واقف، فأشار إليه ابن مقاتل أن اجلس، فقال: لا أجلس. فقال: لعل لك حاجة؟ قال: نعم. قال: وما هي؟ قال: مسألة أسألك عنها. قال: اسأل. قال: قم فاستوِ جالساً حتى أسألك، فاستوى جالساً. قال حاتم: علمك هذا من أين أخذته؟
فقال: من الثقات حدثوني به قال عن من قال عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن من قال عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن من قال عن جبرائيل عليه السلام عن الله عز وجل، قال حاتم: "ففيما أداه جبرائيل عليه السلام عن الله عز وجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه، وأصحابه إلى الثقات، وأداه الثقات إليه، هل سمعت فيه من كان في داره إشراف وكانت". سَاعَتَها كانَ لَهُ عِندَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ المَنزِلَةُ أَكبَر. قالَ: "لا".
قالَ: "فَكَيفَ سَمِعتَ؟". قالَ: "سَمِعتُ أَنَّهُ مَن زَهِدَ في الدُّنيا وَرَغِبَ في الآخِرَةِ وَأَحَبَّ المَساكينَ وَقَدَّمَ لِآخِرَتِهِ كانَت لَهُ عِندَ اللهِ المَنزِلَةُ". قالَ لَهُ حاتِمٌ: "فَأَنتَ بِمَنِ اقتَدَيتَ؟ أَبِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَصحابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم؟" والصالحين رحمهم الله أم بفرعون ونمرود أول من بنى بالجص والآجر، يا علماء السوء مثلكم، يراه الجاهل المتكاذب على الدنيا الراغب فيها فيقول: العالم على هذه الحالة، أفلا أكون أنا شراً منه. وخرج من عنده فازداد ابن مقاتل مرضاً، وبلغ أهل الري ما جرى بينه وبين ابن مقاتل فقالوا له. إن التنافسي بقزوين أكثر توسعاً
منه، فسار حاتم متعمداً فدخل عليه فقال: "رحمك الله، أنا رجل أعجمي أحب أن تعلمني مبتدأ ديني ومفتاح صلاتي، كيف أتوضأ للصلاة؟" قال: "نعم وكرامة، يا غلام هات إناءً فيه ماء". فأُتي به، فقعد التنافسي فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: "هكذا فتوضأ". فقال حاتم: "مكانك". حتى أتوضأ بين يديك فيكون أوكد لما أريد. فقام التنافسي وقعد حاتم فتوضأ ثم غسل ذراعيه أربعاً أربعاً، فقال التنافسي: "يا هذا، أسرفت". قال له حاتم: "في ماذا؟". قال: "غسلت ذراعيك أربعاً". فقال حاتم: "يا سبحان الله العظيم! أنا في كف من ماء أسرفت، وأنت في جميع هذا
كله لم...". أسرف في علم التنافس أنه قصد ذلك دون التعلم، فدخل منزله فلم يخرج إلى الناس أربعين يوماً. فلما دخل حاتم بغداد اجتمع إليه أهل بغداد فقالوا: "يا أبا عبد الرحمن، أنت رجل ألكن أعجمي، وليس يكلمك أحد إلا قطعته". قال: "معي ثلاث خصال أظهر بهن على خصمي: أفرح إذا أصاب خصمي". وأحزن إذا أخطأ وأحفظ نفسي ألا أجهل عليها، فبلغ ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال: سبحان الله ما أعقله! قوموا بنا إليه. فلما دخلوا عليه قال له: يا أبا عبد الرحمن، ما السلامة من الدنيا؟ قال: يا أبا عبد الله، لا تسلم من الدنيا حتى يكون معك
أربع خصال تغفر للقوم جهلهم وتمنع جهلك منهم وتبذل لهم شيئًا وتكون من شيئهم آيسًا، فإذا كنت هكذا سلمت. ثم سار إلى المدينة فاستقبله أهل المدينة، فقال: يا قوم، أيّة مدينة هذه؟ قالوا: مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: فأين قصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أصلي فيه، قالوا: ما كان له قصر، إنما كان له بيت منخفض بالأرض. قال: فأين قصور أصحابه رضي الله عنهم؟ قالوا: ما كان لهم قصور، إنما كان لهم بيوت منخفضة بالأرض. قال حاتم: يا قوم، فهذه مدينة فرعون. فأخذوه وذهبوا به إلى السلطان وقالوا: هذا
الأعجمي. يقول: "هذه مدينة فرعون". قال الوالي: "ولِمَ ذلك؟". قال حاتم: "لا تعجل عليَّ، أنا رجل أعجمي غريب دخلتُ البلد فقلتُ: مدينة مَن هذه؟ فقالوا: مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلتُ: فأين قصره؟" وقصَّ القصة، ثم قال: "وقد قال الله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة". حسنة فأنتم بمن تأسيتم أبرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم بفرعون أول من بنى بالجص والآجر؟ فخلوا عنه وتركوه. فقلوا عنه وتركوه. فهذه حكاية حاتم الأصم رحمه الله تعالى، وسيأتي من سيرة السلف في البساطة وترك التجمل ما
يشهد لذلك في مواضعه. والتحقيق فيه أن التزين بالمباح ليس بحرام ولكن الخوض فيه يُورِث الأنس به حتى يصعب تركه، واستدامة الزينة لا تتحقق إلا بممارسة أسباب في الغالب يلزم من مراعاتها ارتكاب المعاصي من المداهنة ومراعاة الخلق ومراءاتهم وأمور أخرى هي محظورة، والحزم اجتناب ذلك؛ لأن من خاض في الدنيا لا يسلم منها أبداً، ولو كانت السلامة متاحة مع الخوض فيها لكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يبالغ في ترك الدنيا حتى نزع القميص المفرز من علم، قال الحافظ العراقي: متفق عليه في حديث عائشة رضي الله عنها، ونزع خاتم الذهب في أثناء الخطبة، قال: متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، إلى
غير ذلك مما... سيأتي ليالي وكان السلف يقولون: "اللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا". ومعنى أن يتعلق القلب بهذا ليس فقط الاستعمال، وإنما هو أن يحزن على المفقود وأن يتعلق بالموجود، يفرح بالموجود ويحزن على المفقود. فإذا تحرر القلب من هذا فقد أجازوا كل هذا، يعني كل الذي... ذكروا الشيخ حاتم الأصم وأجازوه لماذا أيضاً ضربوا المثال بأن أحدهم كان قد اعتزل الناس وجلس بجوار النهر من أجل أن يصطاد
سمكة ثم يشويها ويأكلها مرة في اليوم هكذا وكان يتردد عليه تلاميذه وفي يوم قال له تلميذه انزل إلى المدينة أتحتاج منها شيئاً قال له نعم مر على أخي فلان أخي قابلني في الطريق وسلّم عليه وأعطاه العنوان، فذهب فوجده في الصيد فانتظر، فجاء في قصر المنيف، والرجل جاء ومعه حشم وخدم، وقال له: "أخوك فلان يُسلّم عليك"، فقال: "بلّغه مني السلام وقل له أنصحه أن ينزع الدنيا من قلبه". قال: فاغتاظ الرجل التلميذ، اغتاظ وهو
جالس في... قصر منيب والآخر جالس يا عيني على ضفة النهر ينتظر سمكًا. قال فغضبت ورجعت إلى الشيخ فقال: كيف كان الحال؟ فحكى له وقال: هذا الرجل ليس على ما يرام لأنه قال لي أن هذه أمانة له أن يخرج الدنيا من قلبه. قال: صدق، فإنني قد تعلق قلبي بالسمكة حتى أنني أعتد الهم. إذا كانت لن تخرج وهو مع ما هو فيه قد تعلق قلبه بالله لا يضره موجود ولا يضره مفقود، فهموا بعضهم. إذًا
فمراد السلف الصالح في هذا هو تعلق القلب بالتفاخر، بالحزن عليها، ببيع الدين من أجل الوصول إليه، ونحو هذه من البلايا التي نبه عليها الإمام الغزالي. أما الذي... وسَّع الله عليه فلم يؤثر هذا في قلبه ونجح في الاختبار والامتحان مع الله وفي تجربة الله له فلم تدخل الدنيا قلبه فهو على خير. ومن الأنبياء من كان على قوت يومه مثل السيد المسيح، ومن الأنبياء من كان على هيئة الملوك مثل سيدنا سليمان وسيدنا داود، ومن الأنبياء من
كان زعيم العالم مثل سيدنا نوح وسيدنا آدم، ومن الأنبياء من كان مستضعفاً حتى قُتِل كأنبياء بني إسرائيل ونحو هذا. فالله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم وإنما ينظر إلى قلوبكم، ولكن في بداية الطريق لا بد للإنسان من أن يفعل هذا الذي ذكره الشيخ معونةً له ليصل. إلى الله والزهد الحقيقي وأن تكون الدنيا في يدك وليست في قلبك، ويُذكر في هذا المعنى أن سيدنا عبد القادر الجيلاني رضي الله تعالى عنه وهو يربي أبناءه نهى أحدهم
عن أكل الطيور: الحمام والفراخ والبط وما إلى ذلك. طبعاً هذه القصة سيعترض عليها البعض لأنهم لن يقفوا عند المعنى المراد منها وهو قهر النفس في بدايات الطريق حتى تصل إلى الله ثم بعد ذلك يكون ما يكون. الآن سنرى الاعتراضات، فالولد بدأ في الصيام والامتناع عن الطيور كما قال الشيخ، فاغتاظت أمه أم الولد وجاءت إلى الشيخ فوجدت بين يديه بطة كبيرة محمرة هكذا، فقالت: "أتحرم". ابني من هذا
ثم تأكله، فالشيخ حصل له شيء. الشيخ عبد القاضي قال: "عندما يصل ابنك إلى هذا، قومي بإذن الله". وضرب البطة، فقام اتقاه سيمسكه في هذه. أصبح يقول: "هذه خرافات، لماذا؟". لا، الكرامة أثبتها أهل السنة والجماعة بإجماع، حتى النابتة أثبتت الكرامة، وثبتت في البخاري وثبتت في... القرآن وثبتت في السنة، وليس هناك من عقائد أهل السنة والجماعة الكرام. وعندما قال "قومي بإذن الله"، فهذا جزء مما كان يفعله سيدنا عيسى، وكرامة الولي مأخوذة من معجزة النبي، لكن كل واحد على قدره. يعني نبي كبير عظيم، فأرسل له واحدة هكذا أو شيئاً لأجل... الناس تصدق
ولا تتعدل، لكن المقصود من الرواية ليس كذلك. المقصود أنه كان يربي ابنه هذا، والتربية تقتضي عليه أن يسير بمنع النفس، وقد لا يكون هذا على حاله هو، بل هو في حال آخر لا يقتضيه، فممنوع أن تقيس نفسك على غيرك مطلقاً، سواء كان شيخك أو غير شيخ. انظر. أنت الذي يصلحك ماذا مع الله؟ هذا هو الكلام. الكلام هنا إنما هو عن التربية. ربِّ نفسك بماذا؟ بكل ما تستطيع أن تربي نفسك فيه. ففي بداية الطريق يجب على الإنسان أن يقهر نفسه، يضعها تحت قدمه، وأن يقاوم وأن يفعل
كذا إلى آخره إلى أن تستقر فتنتقل من النفس الأمارة. إلى النفس اللوامة، إلى النفس المطمئنة، إلى غير ذلك من مراتب النفوس، فتستقيم مع الله، فتعبد الله سبحانه وتعالى بالحب بلا كلفة، ليس هناك شيء ينزعك، ويكون الأمر على هذا الحال. فربنا سبحانه وتعالى يصل بنا إلى معرفة الأدب معه. فإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جزء من لغة نانسي عجرم