مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 78 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. ما زلنا مع الإمام حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين، في كتابه الإحياء الذي حاول به أن يحيي
علوم الدين وأن يحيي في قلوب المسلمين تعلقهم برب. العالمين وأن يعودوا إلى حقيقة هذا الدين وإلى حقيقة العبادة وإلى حقيقة الخشوع والخضوع لله والاستسلام لرب العالمين. وما زلنا في كتاب العلم نقرأ منه ونستفيد من حال الصحابة الكرام الذين علمونا وعلموا الأجيال إلى يوم الدين المثال الصالح للتطبيق النبوي، فالقرآن هو حكم الله والسنة تطبيق معصوم لهذا الحكم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه القرآن يسير على قدمين، والقرآن نبيٌ
مقيم، يعني القرآن وسيدنا النبي كأنهما الشيء نفسه. وعندما سُئلت عائشة عن أخلاقه، قالت: "كان خُلُقُه القرآن". وربنا عندما وصف أخلاقه قال: "وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم"، فجاءت الصحابة ونقلت لنا هذا التطبيق، ولكن مع اختلاف الزمان. وتغير الأحوال، ولذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ". أما سنته فلأنها تطبيق القرآن، يعلمنا كيف نطبق هذا المطلق المحرر من الزمان والمكان في الزمان والمكان. كيف
يتم هذا؟ يتم عن طريق مثال النبي صلى الله عليه وسلم وهو... بشر من بني آدم، قل إنما أنا بشر مثلكم ولكن يوحى إليّ. ولذلك لا يجوز أن نقتصر فنقف ونقول: "قل إنما أنا بشر مثلكم". وكان دأب الشيوعيين عندما يؤلفون في رسول الله أن يقفوا فيقولون: "إنما أنا بشر مثلكم"، وهذا فيه بتر للقرآن كمن قال: "ولا تقربوا". الصلاة، فويل للمصلين... وسكت، لم يُتِمَّ المعنى لأن هذا الحال إنما يتم بما يوحى إليه. لا بد أن نقول هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه بشر
داخل الزمان والمكان، كان يُطبق لنا ويُعلمنا كيف نطبق هذا الذي أراده الله منا من إخلاص النية ومن إخلاص الدين ومن تعلق القلوب بالرب. الخوف من رب العالمين، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل، والرضا بالقليل، وهي التي قال عنها علي بن أبي طالب: "هي حقيقة التقوى". اقرأ يا شيخ محمد: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين، في كتابه إحياء علوم الدين. ومرَّ عليٌّ وعبدُ الله رضي الله عنهما برجلٍ يتكلم على الناس، فقال: "هذا يقول: عرِّفوني". وقال بعضهم: "إنما العالم الذي إذا سُئل عن المسألة فكأنما يقلع
ضرسه". وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "تريدون أن تجعلونا جسراً تعبرون علينا إلى جهنم". وقال أبو حفص النيسابوري. العالِم هو الذي يخاف عند السؤال أن يُقال له يوم القيامة: من أين أجبت؟ وكان إبراهيم التيمي إذا سُئِل عن مسألة يبكي ويقول: لم تجدوا غيري حتى احتجتم إليّ؟ وكان أبو العالية الرياحي وإبراهيم بن أدهم والثوري يتكلمون على الاثنين والثلاثة والنفر اليسير، فإذا كثروا انصرفوا. وقال صلى الله عليه... وآله وسلم، ما أدري أعزير نبي أم لا، وما أدري أتبع ملعون أم لا، وما أدري ذو
القرنين نبي أم لا. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقف عند ما علمه ربه، ولذلك قال ربنا: "ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه". مسؤولاً فكان لا يعرف شيئاً وحتى يُوحى إليه فإنه يقول بما علَّمه ربي فهو أُوحِيَ إليه أنه هناك مائة وأربعة وعشرين ألف نبي منهم ثلاثمائة واثني عشر رسولاً. طيب، عُزَير الذي هو عُزَير هذا كان حافظاً للتوراة، ولما ضاعت التوراة وانقطعت أملاها من ذاكرته، وكان من العجائب الغرائب أنَّ
شخص يكون حافظاً بهذا الشكل، فقالت اليهود: "عزير ابن الله"، إذ ليس من المعقول أن يكون حافظاً إلا إذا كان ابن الله. شيء من هذا القبيل: "عزير ابن الله". وعزير هذا كان نبياً أو كاهناً أو عالماً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أعرف، لا يوجد وحي". بهذه القصة، هل هو من هؤلاء أم لا؟ حسناً، إذا كان سيد الخلق فعل هذا، فماذا ستفعل أنت؟ ماذا ستصنع أيها المسكين؟ عليك أن تقتدي بسيدنا رسول الله فيما تعلمه. وهذا هو بلاء هذا العصر، أن كل شخص يتحدث بما لا يعرف، أي يتكلم بجهل عما لا يعلم، وهو على يقين مما يقول. ما شاء الله وهو محض رأي
ولا يعرف القصة ولا أين ذهبت ولا من أين أتت وإنما يتكلم وكأنه يجاهد في سبيل الله ويأتي يوم القيامة المسكين ويعلم أن من ظنه فرعون هو موسى ومن ظنه موسى هو فرعون ومن ظنه ظالماً هو مظلوم ومن ظنه مظلوماً هو ظالم لماذا؟ لأنه شُحِن. نفسه وعقله بمجموعة متراكمة متواكبة من الخرافات وما هو مخالف للواقع حتى ابتعد عن الحقيقة كثيراً، فالنبي عليه الصلاة والسلام من هذا المنطلق يقول لك: لا، لا تفعل هكذا، ويقول: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع"، ووصلنا في هذا العقل إلى أن أزال الله
العقول من الناس كما ورد. في حديث أبي موسى الأشعري عند أحمد: "ومعهم عقولهم يومئذ يا رسول الله؟" قال: "يومئذ يسلب الله عقولهم". ولذلك ترى الناس يقدمون ما يسمعون على ما يرون، يعني يرون بأعينهم هكذا فيقول لك: "لا، أنا الذي سمعت هو الصحيح، والذي رأيته هو الخطأ". فهذه هي العملية. صعبة جداً أن يكون رائياً حلماً، فانظر إلى عقله هكذا، هل يصدق الحلم أم يصدق الواقع؟ يكون قد اتخذ قراراً أن يصدقه أو يصدق الواقع، وهكذا إلى أن يُغلق عليه. وأحياناً يُفتح عليه هكذا وهو يظن أنه لا فائدة، وأنه لم يأخذ
الفرصة فيُغلق عليه. نعم، وعندما سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. عن خير البقاع في الأرض وشرها قال لا أدري حتى نزل عليه جبريل عليه السلام فسأله فقال لا أدري إلى أن أعلمه الله عز وجل أن خير البقاع المساجد وشرها الأسواق وكان ابن عمر رضي الله عنهما يُسأل عن عشر مسائل فيجيب عن واحدة ويسكت عن تسع وكان ابن عباس رضيَ اللهُ عنهما، يُجيبُ عن تسعٍ ويسكتُ عن واحدةٍ، ولذلك سَمَّاه رسولُ اللهِ حَبْرَ الأمة. ويجوزُ فيها في اللغةِ حِبْر، لأنه سُمِّيَ عالماً من كثرةِ كتابتهِ بالحِبْرِ وقراءتهِ ما هو مَحبورٌ، ولذلك سُمِّيَ الحَبْرُ أو الحِبْرُ، والحَبْرُ أشهرُ. نعم،
وكان في الفقهاءِ مَن يقولُ "لا أدري" أكثرَ ممن يقولُ "أدري". منهم سفيان الثوري ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل والفضيل بن عياض وبشر بن الحارث، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركتُ في هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما منهم أحد يُسأل عن حديث أو فتيا إلا ودَّ أن أخاه كفاه ذلك. وفي لفظٍ آخر كانت المسألة تُعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر، ويردها الآخر إلى الآخر حتى تعود إلى الأول. ورُوي أن أصحاب الصُّفة أُهدي إلى واحدٍ منهم رأسٌ مشوي وهو في غاية الضُّر،
فأهداه إلى الآخر، وأهداه الآخر إلى الآخر، هكذا هكذا دار بينهم حتى رجع إلى الأول، فانظر الآن. كيف انعكس أمر العلماء فصار المهروب منه مطلوباً والمطلوب مهروباً عنه، ويشهد لحسن الاحتراز من تقلد الفتاوى ما روي مسنداً عن بعضهم أنه قال: "لا يفتي الناس إلا ثلاثة: أمير، أو مأمون، أو متكلف". وقال بعضهم: "كان الصحابة يتدافعون أربعة أشياء: الإمامة، والوصية، والوديعة، والفتيا". وقال بعضهم: "كان أسرعهم إلى". أكثر الناس جرأة على الفتوى أقلهم علماً، وأشدهم تجنباً لها أورعهم.
وكان اهتمام الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في خمسة أشياء: قراءة القرآن، وعمارة المساجد، وذكر الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك لما سمعوه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ثلاثة: أمر بمعروف..." أو نهي عن منكر أو ذكر الله تعالى، وقال تعالى: "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس" الآية. ورأى بعض العلماء بعض أصحاب الرأي من أهل الكوفة في المنام، فقال: "ما رأيت فيما كنت عليه من الفتيا والرأي؟" فكرَّه وجهه وأعرض. عنه وقال ما وجدناه شيئاً وما
حمدنا عاقبته. وقال ابن حصين: إن أحدهم ليُفتي في مسألة لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر. فلم يزل السكوت دأب أهل العلم إلا عند الضرورة، وفي الحديث: "إذا رأيتم الرجل قد أُوتي صمتاً وزهداً فاقتربوا منه فإنه..." يقول في الحكمة: قال فيه العراقي: رواه ابن ماجة من حديث ابن خلاد بإسناد ضعيف. وقيل: العالم إما عالم عامة وهو المفتي، وهم أصحاب السلاطين، أو عالم خاصة وهو العالم بالتوحيد وأعمال القلوب، وهم أصحاب الزوايا المتفرقون المنفردون. وكان يقال:
مثل أحمد بن حنبل مثل دجلة، كل أحد يستقي منها. يغترف منها ومثل بشر بن الحارث مثل بئر عذبة مغطاة لا يقصدها إلا واحد بعد واحد وكانوا يقولون فلان عالم وفلان متكلم وفلان أكثر كلاماً وفلان أكثر عملاً وقال أبو سليمان المعرفة إلى السكوت المعرفة إلى السكوت أقرب منها إلى الكلام وقيل إذا كثر العلم قل الكلام وإذا كثر الكلام قَلَّ العِلْمُ، وكَتَبَ سَلْمَانُ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - وكَانَ قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "يَا أَخِي،
بَلَغَنِي أَنَّكَ قَعَدْتَ طَبِيبًا تُدَاوِي المَرْضَى، فَانْظُرْ، فَإِنْ كُنْتَ طَبِيبًا فَتَكَلَّمْ، فَإِنَّ كَلَامَكَ شِفَاءٌ، وَإِنْ كُنْتَ مُتَطَبِّبًا فَاللهَ اللهَ لَا تَقْتُلْ مُسْلِمًا". فَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ... عنه يتوقف بعد ذلك إذا سُئل. وكان أنس رضي الله عنه إذا سُئل يقول: "سلوا مولانا الحسن". وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا سُئل يقول: "سلوا حارثة بن زيد" رضي الله عنهما. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "سلوا سعيد بن المسيب، سلوا سعيد بن المسيب". وحُكي أنه روى صحابيٌّ في حضرة الحسن عشرين حديثاً، فسُئِل عن تفسيرها، فقال: "ما عندي إلا ما رويت". فأخذ الحسن
في تفسيرها حديثاً حديثاً، فتعجبوا من حُسنِ تفسيره وحفظه. فأخذ الصحابي كفاً من حصى ورماهم به وقال: "تسألونني عن العلم وهذا الحبر بين أظهركم! يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يُؤتَ الحكمة فقد..." أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب، فالله سبحانه وتعالى لما نوّر قلوبهم كانوا على هذه الهيئة من الورع والسكينة. وكلمة "فتاوى" و"فتاوي" فيها وجهان، والأفصح الكسر، و"فتاوى" و"دعاوى" وأمثالها جائزة. والحسن هنا ما زلنا نتحدث عنه هو الحسن البصري، وكان من التابعين ولم يشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا كانت تقدمه الصحابة على أنفسها
لما رأوا عنده العلم. إلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.