مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 79 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين للإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين. نعيش مع كتاب العلم
ووصلنا إلى آفاته التي يفصلها تفصيلاً. اقرأ قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين، ومنها أن يكون أكثر اهتمامه بعلم الباطن ومراقبة القلب ومعرفة طريق الآخرة وسلوكه وصدق الرجاء في انكشاف ذلك من المجاهدة والمراقبة، فإن المجاهدة تفضي إلى المشاهدة في دقائق علوم القلوب وتتفجر بها ينابيع الحكمة من القلب، وأما الكتب والتعليم لا تفي بذلك بل الحكمة الخارجة عن الحصر والعد إنما تنفتح بالمجاهدة والمراقبة ومباشرة الأعمال الظاهرة والباطنة والجلوس مع الله تعالى في الخلوة
مع حضور القلب بصاف الفكر والانقطاع إلى الله تعالى عما سواه فذلك مفتاح الإلهام ومنبع الكشف فكم من متعلم طال تعلمه ولم يقدر على مجاوزة مسموعه. بكلمة وكم من مقتصر على المهم في التعلم ومتوفر على العمل ومراقبة القلب فتح الله له من لطائف الحكم ما تحار فيه عقول ذوي الألباب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم"، وفي بعض الكتب السالفة: يا بني... إسرائيل لا تقولوا العلم في السماء من ينزل به ولا في تخوم الأرض من يصعد به ولا
من وراء البحار من يعبر يأتي به. العلم مجعول في قلوبكم، تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين وتخلقوا لي بأخلاق الصديقين. أظهر العلم في قلوبكم حتى يغطيكم ويغمركم. يبقى إذاً العلم قالوا على ثلاثة. أنواعُ العلم: علمٌ سطحيٌّ يرى الظاهر، وعلمٌ عميقٌ يرى حقائق الأشياء على ما هي عليه، وعلمٌ مستنير. وهذا العلم المستنير هو الذي يوصل إلى الله، وهو العلم الحقيقي. فكل علمٍ لا يوصل إلى الله هو مجرد معلومات لم يستطع صاحبها - لأن الله لم يوفقه - أن يربطها ليصل بها إلى الله. ولذلك قال
سبحانه وتعالى: "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ"، فالعلماء يخشون الله سبحانه وتعالى. فالعلماء جمع عليم، هذا الجمع مثل شهداء جمع شهيد، علماء جمع عليم. وعليم صيغة مبالغة من عالم، فعلماء ليست جمع عالم، فعالم جمعها عالمون، لكن علماء إنما هي جمع عليم الذي هو صيغة مبالغة من العالم. ليس عالماً فقط، بل هو عالم وأيضاً وصل إلى الله بعلمه بإذن الله تعالى. فكل ما هنالك سترى فيها هذه الأنواع الثلاثة: إما أن يكون علماً سطحياً لا يستطيع أن يتجاوز ما سمع، وإما أن يكون علماً عميقاً يعرف حقائق الأشياء،
لكن لا هذا ولا ذاك هو المعتبر، إنما المعتبر هو العلم الذي دله ودفعه وجعله يخشى الله سبحانه وتعالى يرى الله سبحانه وتعالى في كل شيء وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد. فإذا شاهد هذا وكان طبيبًا فجعل الطب محرابًا للإيمان، أو كان مثلًا مهندسًا فرأى الله سبحانه وتعالى في هذه السنن الكونية والإلهية التي بُنيت عليها. الكون أو كان لغويًا فرأى الله في هذه اللغة وأن الله سبحانه وتعالى علَّم آدم الأسماء كلها لا يعرف هذا كمعلومة إنما يعرفها كمشاهدة باطنية تؤدي به إلى خشية الله سبحانه وتعالى وإلى عبادته وإلى الوقوف عند حدوده فهذا هو العالم الذي يسمى
في الحقيقة عالمًا وجمعها بعد أن صار. عليماً علماء، ولما قال تعالى: "وفوق كل ذي علم عليم"، فالعليم هذا فوق العالم وفوق ذي العلم، نعم. وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: "خرج العلماء والعباد والزهاد من الدنيا وقلوبهم مقفلة، ولم تفتح إلا قلوب الصديقين والشهداء"، ثم تلا قوله تعالى: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو". الآية.. ولولا أن إدراك قلب من له قلب بالنور الباطن حاكم على علم الظاهر، لما
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك". ولذلك قال أهل الله إن القلب يعلو العقل، وإن العقل يعلو الفعل والسلوك، لكن أهل الدنيا يجعلون السلوك هو الذي يتحكم في... العقل ويسكته، فإذا كان القلب يتكلم فالعقل يسكته، فالسلوك أصبح يُسكت العقل، والعقل يُسكت القلب، وهذا الإسكات يجعلك بعيداً عن الله. إنما الصحيح أن القلب فوق العقل، هو الذي يوجهه، وإذا خالف العقل القلب، أسكت القلب العقل. والعقل فوق السلوك، فهو يعقل الإنسان، أي يمنع
الإنسان من فعل المنكرات وانحراف. الانحرافات. نعم، وقال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه: "لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به...". الحديث. فكم من معانٍ دقيقة من أسرار القرآن تخطر على قلب المتجردين للذكر والفكر، تخلو عنها كتب التفاسير ولا يطلع عليها أفاضل المفسرين. وإذا انكشف... ذلك للمريد المراقب وعُرِض على المفسرين فاستحسنوه وعلموا أن ذلك من تنبيهات القلوب الزكية والطاف الله تعالى بالهمم العالية المتوجهة إليه، وكذلك
في علوم المكاشفة وأسرار علوم المعاملة ودقائق خواطر القلوب، فإن كل علم من هذه العلوم بحر لا يُدرك عمقه، وإنما يخوضه كل طالب بقدر ما رُزق منه وبحسب. ما وُفِّقَ له من حسن العمل، وفي وصف هؤلاء العلماء قال علي رضي الله عنه في حديث طويل: "القلوب أوعية وخيرها أوعاها، والناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق. العلم خير". من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم
يزكو على الإنفاق والمال تنقصه النفقة. محبة العالم دين يُدان به، يُكتسب به الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد موته. العلم حاكم والمال محكوم عليه، ومنفعة المال تزول بزواله. مات خُزّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر. ثم تنفّس الصعداء وقال: "هاه، إن ههنا علماً جماً لو وجدت له حملة، بل أجد طالباً غير مأمون يستعمل آلة الدين في طلب الدنيا، ويستطيل بنعم الله على أوليائه، ويستظهر بحججه على خلقه، أو منقاداً
لأهل الحق لكن ينزرع الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا بصيرة له". لا ذا ولا ذاك أو منهوم باللذات سلس القياد في طلب الشهوات أو مُغْرَى بجمع الأموال والادخار منقاد لهواه أقرب شبهاً بهم الأنعام السائمة. اللهم، هكذا يموت العلم إذا مات حاملوه، بل لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهر مكشوف وإما خائف مقهور، لئلا تبطل حجج الله تعالى. وبيِّناته، وكم وأين أولئك هم الأقلون عدداً الأعظمون قدراً، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب
موجودة. يحفظ الله تعالى بهم حججه حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم. هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين، فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الغافلون. صاحبوا الدنيا بأبدان أرواحها. معلقة بالمحل الأعلى أولئك أولياء الله عز وجل من خلقه وأمناؤه وعماله في أرضه والدعاة إلى دينه ثم بكى وقال وا شوقاه إلى رؤيتهم. فهذا الذي ذكره آخراً هو وصف علماء الآخرة، وهو العلم الذي يُستفاد أكثره من العمل والمواظبة على المجاهدة. كان
سيدنا علي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"، يعني أن الذي علّمه مباشرةً هو رسول الله. فكان، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها"، لِما تلقى من رسول الله مباشرةً، وصل من إدراك الذكر والفكر ومن إدراك وتمكن اللغة ما أذهل الناس، وكان بليغاً لأنه كان مفكراً وكان عالماً وكان عليه السلام، وهو زوج ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان سيدنا الإمام البخاري كلما
ذكر فاطمة يقول عليها السلام، فهو أبو نسل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أبو الحسن والحسين والسيدة زينب، كان رحمه الله تعالى ورضي عنه وسلم عليه بما يستحقه. حسن اللُّغَةِ، واللُّغَةُ لا تَكُونُ عَلَى هَذَا المُسْتَوَى الَّذِي سَمِعْنَاهُ إِلَّا إِذَا كَانَ وَاضِحَ الفِكْرِ، لِأَنَّ اللُّغَةَ وَالفِكْرَ وَجْهَانِ لِعُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ. فِكْرٌ وَاضِحٌ جِدًّا فَلُغَةٌ قَوِيَّةٌ جِدًّا، أَوْ قُلِ العَكْسَ: قُلْ إِنَّ لُغَةً قَوِيَّةً جِدًّا فَفِكْرٌ وَاضِحٌ جِدًّا. فَهُوَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الأُمُورِ الدَّقِيقَةِ بِعَقْلِيَّةٍ أَسْمَاهَا أَهْلُ الحَضَارَةِ بِالعَقْلِ الفَارِقِ. يفرق بين معانٍ
دقيقة في النفس البشرية وفي التلقي وفي التعلم وفي الإخلاص لله، ويميز بين مراتبها وأنواعها وأقسامها، فيخرج بهذا - يعني هذا الحديث الذي هو المروي عن علي بطوله - كل كلمة منه تحتاج إلى سنوات من الشراح وكيف نطبقها وكيف يكون الحال معها. نعم، أخرجه أبو نُعَيم من... في الحلية والخطيب في تاريخ بغداد، نعم تفضل، ومنها أن يكون، ومنها أن يكون شديد العناية بتقوية اليقين، فإن اليقين هو رأس مال الدين. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اليقين الإيمان كله". رواه
أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب، واليوم الشيخ محمد أفادنا في الخطبة أن... اليقين هو الأمل وهذا نظر دقيق. فإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة وبركاته.