مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 81 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين، وفي كتاب العلم نستمر معه
في توجيهنا لما فيه خير ديننا ودنيانا. تفضل، قال الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين وهو يتحدث عن اليقين ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم إن من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطي حظه منهما لم يبال بما فاته من قيام الليل وصيام النهار وفي وصية لقمان لابنه يا بني لا العمل إلا باليقين ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه ولا يقصر عامل حتى ينقص يقينه وقال يحيى بن معاذ إن للتوحيد نورا وللشرك
نارا وإن نور التوحيد أحرق لسيئات الموحدين من نار الشرك لحسنات المشركين وأراد به اليقين وقد أشار الله تعالى في القرآن إلى ذكر الموقنين في مواضع دل بها على أن اليقين هو الرابطة للخيرات والسعادات، فإن قلت فما معنى اليقين وما معنى قوته وضعفه، فلا بد من فهمه أولا ثم الاشتغال بطلبه وتعلمه، فإن ما لا تفهم صورته لا يمكن طلبه. فاعلم أن اليقين لفظ مشترك يطلقه فريقان لمعنيين مختلفين، أما النظار والمتكلمون
فيعبرون به عن عدم الشك إذ ميل النفس إلى التصديق بالشيء له أربع مقامات الأول يعني أنني أريد أن أعرف هذه المعلومة صحيحة أم لا فإما أن أكون متأكدا مائة في المائة وهذه رقم واحد يسمونه اليقين وإما أن يكون تسعين في المائة يسمونه الظن الغالب وإما أن يكون خمسين في المائة وخمسين طبعا يكون راجحا يكون مع التسعين وتسعة وتسعين اسمه ظن وأما خمسون فيكون نسميه شكا وأما أقل من خمسين فيكون نسميه وهما فيكون إذن هو على أربعة أقسام اليقين الظن الشك الوهم نعم الأول
أن يتساوى التصديق والتكذيب ويعبر عنه بالشك كما إذا سئلت عن شخص معين هل الله تعالى يعاقبه أم لا وهو مجهول الحال عندك فإن نفسك لا تميل إلى الحكم فيه بإثبات ولا نفي بل يستوي عندك إمكان الأمرين فيسمى هذا شكا خمسين وخمسين، الثاني أن تميل نفسك إلى أحد الأمرين مع الشعور بإمكان نقيضه ولكنه إمكان لا يمنع ترجيح الأول كما إذا سئلت عن رجل تعرفه بالصلاح والتقوى أنه بعينه لو مات على هذه الحالة هل يعاقب فإن نفسك تميل إلى أنه لا يعاقب أكثر من ميلها إلى العقاب وذلك لظهور علامات الصلاح ومع هذا فأنت تجيز اختفاء أمر موجب للعقاب في
باطنه وسريرته فهذا التجويز مساوق لذلك الميل ولكنه غير دافع لرجحانه فهذه الحالة تسمى ظنا واحدا وخمسين إلى تسعة وتسعين الثالث أن تميل النفس إلى التصديق بشيء بحيث يغلب عليها ولا يخطر بالبال غيره ولو خطر بالبال ولو خطر بالبال لنبذت النفس عن قبوله ولكن ليس ذلك عن معرفة محققة إذ لو أحسن صاحب هذا المقام التأمل والإصغاء إلى الشك والتجويز لاتسعت نفسه للتجويز وهذا يسمى اعتقادا مقاربا لليقين، وهو اعتقاد العوام في الشرعيات كلها، إذ رسخ في نفوسهم بمجرد السماع، حتى إن كل فرقة
تثق بصحة مذهبها وإصابة إمامها ومتبوعها، ولو ذكر لأحدهم إمكان خطأ إمامه نفر عن قبوله. الرابع: المعرفة الحقيقية الحاصلة بطريق البرهان الذي لا يشك فيه ولا يتصور الشك فيه. فإذا امتنع وجود الشك وإمكانه يسمى يقينا عند هؤلاء، يعني انتهى اليقين المائة في المائة في الوجود. شيء هو قديم فلا يمكنه التصديق به بالبديهة لأن القديم غير محسوس، لا كالشمس والقمر فإنه
يصدق بوجودهما بالحس. وليس العلم بوجود شيء قديم أزلي ضروريا مثل العلم بأن الاثنين أكثر من الواحد أكثر من الواحد، بل مثل العلم بأن حدوث حادث بلا سبب محال، فإن هذا أيضا ضروري، فحق غريزة العقل أن تتوقف عن التصديق بوجود القديم على طريق الارتجال والبديهة. ثم من الناس من يسمع ذلك ويصدق بالسماع تصديقا جازما ويستمر عليه، وذلك هو الاعتقاد وهو حال جميع العوام. ومن الناس من يصدق به بالبرهان وهو أن يقال له إن لم يكن في الوجود قديم فالموجودات كلها حادثة، فإن كانت كلها حادثة فهي حادثة بلا سبب أو فيها حادث
بلا سبب وذلك محال، فالمؤدي إلى المحال محال، فيلزم في العقل التصديق بوجود شيء قديم بالضرورة لأن الأقسام ثلاثة وهي أن تكون الموجودات كلها قديمة أو كلها حادثة أو بعضها قديمة وبعضها حادثة، فإن كانت كلها قديمة فقد حصل المطلوب إذ ثبت على الجملة قديم، وإن كان الكل حادثا فهو محال إذ يؤدي إلى حدوث بغير سبب، فثبت القسم الثالث أو الأول، وكل علم حصل على هذا الوجه يسمى يقينا عند هؤلاء. سواء حصل بالنظر مثلما ذكرناه أو حصل بالحس أو بغريزة العقل كالعلم باستحالة الحادث بلا سبب أو بالتواتر كالعلم بوجود مكة أو بالتجربة كالعلم
بأن المطبوخ مسهل أو بالدليل كما ذكرنا فشرط إطلاق هذا الاسم عندهم عدم الشك فكل علم لا شك فيه يسمى يقينا عند هؤلاء وعلى هذا لا يوصف اليقين بالضعف إذ لا تفاوت في نفي الشك، طيب هذا هو الفريق الأول الذي هو خاص بحالة كون الشيء مائة في المائة مع التفاصيل الكثيرة التي أوردها من الاعتقاد واليقين فهو يقين، نعم الاصطلاح الثاني اصطلاح الفقهاء والمتصوفة وأكثر العلماء وهو ألا يلتفت فيه إلى اعتبار التجويز والشك بل إلى استيلائه وغلبته على القلب حتى يقال فلان ضعيف اليقين بالموت مع أنه لا يشك فيه، ويقال فلان قوي اليقين في إتيان الرزق
مع أنه قد يجوز أنه لا يأتيه، فمهما مالت النفس إلى التصديق بشيء وغلب ذلك على القلب واستولى حتى صار هو المتحكم والمتصرف في النفس بالإجازة والمنع، سمي ذلك يقينا ولا شك في أن الناس مشتركون في الجزم بالموت والانفكاك عن الشك فيه، ولكن فيهم من لا يلتفت إليه ولا إلى الاستعداد له وكأنه غير موقن به، ومنهم من استولى ذلك على قلبه حتى استغرق جميع همه في له ولم يغادر فيه متسعا لغيره فيعبر عن مثل هذه الحالة بقوة اليقين، ولذلك قال بعضهم: ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت. وعلى هذا الاصطلاح
يوصف اليقين بالضعف والقوة، ونحن إنما أردنا بقولنا أن من شأن علماء الآخرة صرف العناية إلى تقوية اليقين. المعنيين جميعا وهو نفي الشك ثم تسليط اليقين على النفس حتى يكون هو الغالب المتحكم وهو المتصرف، فإذا فهمت هذا علمت أن المراد من قولنا إن اليقين ينقسم ثلاثة أقسام بالقوة والضعف والقلة والكثرة والخفاء والجلاء، فأما بالقوة والضعف فعلى الاصطلاح الثاني وذلك في الغلبة والاستيلاء على القلب ودرجات اليقين. في القوة والضعف لا تتناهى وتفاوت الخلق في استعدادهم للموت بحسب تفاوت اليقين بهذه المعاني، وأما التفاوت بالخفاء والجلاء
فلا ينكر أيضا. أما فيما يتطرق إليه التجوز فلا ينكر أعني الاصطلاح الثاني، وفيما انتفى الشك عنه أيضا لا سبيل إلى إنكاره، فإنك تدرك تفرقة بين تصديقك بوجود مكة ووجود فدك. مثلا وبين تصديقك بوجود موسى ووجود يوشع عليهما السلام مع أنك لا تشك في الأمرين جميعا إذ مستندهما التواتر جميعا ولكن ترى أحدهما أجلى وأوضح في قلبك من الثاني لأن السبب في أحدهما أقوى وهو كثرة المخبرين وكذلك يدرك الناظر هذا في النظريات المعلومة بالأدلة فإنه ليس وضوح ما لاح له بدليل واحد كوضوح ما لاح له بأدلة كثيرة مع تساويهما في نفي الشك، وهذا قد ينكره المتكلم الذي يأخذ العلم من
الكتب والسماع ولا يراجع نفسه فيما يدركه من تفاوت الأحوال. وأما القلة والكثرة فذلك بكثرة متعلقات اليقين، كما يقال فلان أكثر علما أي معلوماته أكثر، ولذلك قد يكون العالم قوي اليقين في جميع ما ورد الشرع به، وقد يكون قوي اليقين في بعضه. فإن قلت فقد فهمت اليقين وقوته وضعفه وكثرته وقلته وجلاءه وخفاءه بمعنى نفي الشك أو بمعنى الاستيلاء على القلب، فما متعلقات اليقين ومجاريه؟ وفي ماذا يطلب اليقين؟ فإني ما لم أعرف ما يطلب فيه اليقين لم أقدر على طلبه فاعلم أن جميع ما ورد به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من أوله إلى آخره هو
من مجاري اليقين، طيب يبقى إذن مهم وكلام تفصيل شديد في اليقين أنه من ثلاثة مداخل: القوة والضعف، الجلاء والخفاء، الكثرة والقلة. فالقوة هذه في الشدة والجلاء والخفاء هذا في الظهور والقلة والكثرة هذا في العدد هذا هو الفكر يعني فضل يتتبع الأمر فوجد أن اليقين بمعنى رفع الشك عند طائفة أو بمعنى
الاستيلاء عند طائفة أخرى الاستيلاء يعني الحضور يعني يسيطر عليك ولا تنساه تذهب تعزي وأنت تعزي ناسا يموتون ما أنت إلا أعلم أنه قد يكون أقرب إليك من حبل الوريد، بالأمس أناس ذاهبون للعزاء في العراق فضربوهم بالقنابل في العزاء، أي ذاهبون للعزاء فأصبحوا ممن يعزى فيهم، ولكنه وهو ذاهب للعزاء ربما يرى الموت بعينيه، ولذلك تجد الناس الذين يعملون في التراب ينسون الموت لأنه لو تذكروا طالما لن يعرف أن يعيش، هذا يرى كل يوم الموت، فإذا كان متيقنا من الموت فلن يقول أبدا أنه لا يوجد شيء اسمه
موت لأنه يقوم يوميا بالدفن ويرى الموت بعينيه، ولكن مع هذا إلا أنه لم يستول عليه، يرى حياته فيذهب ليتزوج ويأكل ويشرب وينام ويعمل وهكذا، إذن نحن علينا أم ما هذا؟ أصناف اليقين وبعد ذلك يتحدث في قضية القوة والضعف والظهور والخفاء والكثرة والقلة. هذا البرنامج الذي كتبه الإمام الغزالي يجعلك تتعامل مع لفظة واحدة وهي اليقين بطرق مختلفة طبقا للمداخل المختلفة ومناهجها. هذا فكر إسلامي توقفنا عن التفكير فيه منذ زمن طويل، وهذا أيضا من مشاكل إن نحن
توقفنا عن التفكير وكان التفكير أخا التكفير ففكر وكفر هي نفس الحروف، لا هذا الفكر نحن مأمورون به والكفر نحن منهيون عنه فانظر كيف كانوا يفكرون وانظر إلى أي مدى استطاعوا أن يبنوا حضارة كبيرة وهو يقول إن نحن في العصر الآن في القرن الخامس والسادس الهجري أي ضعفنا أيضا هذا الفكر الخاص بالحالة التي يراها أنها في حالة الضعف لأن الناس أو أغلب الناس لم يكونوا يعملون بمثل هذا، لكن هناك علماء يفكرون ويعطون للأمة جرعة أخرى ألف سنة، هذا الكلام جعل الأمة تندفع إلى الأمام ألف
سنة، فنحن في أمس الحاجة للقوة إلى مثل هذا. التفكير حتى يتضح لنا الأمر ألف سنة أخرى إلى لقاء آخر، أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.