مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 82 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين لإمام الأئمة وبدر التتمة الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين. نواصل
ونستمر في التعايش مع كتاب العلم عسى الله أن ينور به قلوبنا وأن يرسم. لنا منهج الصالحين في هذه الحياة الدنيا. اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين في كتابه إحياء علوم الدين: "فإن قلت: فقد فهمت اليقين وقوته وضعفه وكثرته وقلته وجلاءه وخفاءه بمعنى نفي الشك أو..." بمعنى الاستيلاء على القلب، فما متعلقات اليقين ومجاريه؟ وفي ماذا يُطلب اليقين؟ فإنني ما لم أعرف ما يُطلب فيه اليقين لم أقدر على طلبه. فاعلم
أن جميع ما ورد به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من أوله إلى آخره هو من مجال اليقين، فإن اليقين عبارة عن معرفة مخصوصة ومتعلقه. المعلومات التي وردت بها الشرائع فلا مطمع في إحصائها، ولكني أشير إلى بعضها وهي أهمها. فمن ذلك التوحيد، وهو أن يرى الأشياء كلها من مسبب الأسباب، ولا يلتفت إلى الوسائط، بل يرى الوسائط مسخرة لا حكم لها. فالمصدق بهذا مؤمن، فإن انتفى عن قلبه مع الإيمان إمكان الشك فهو... موقن بأحد المعنيين فإن غلب على قلبه مع الإيمان غلبة
أزالت عنه الغضب على الوسائط والرضا عنهم والشكر لهم، ونزّل الوسائط في قلبه منزلة القلم واليد في حق المنعم بالتوقيع، فإنه لا يشكو القلم ولا اليد ولا يغضب عليهما، بل يراهما آلتين مسخرتين وواسطتين، فقد صار موقناً بالمعنى الثاني وهو الأشرف وهو ثمرة اليقين الأول وروحه وفائدته، ومهما تحقق أن الشمس والقمر والنجوم والجماد والنبات والحيوان وكل مخلوق هي مسخرات بأمره، مثلما يُسخَّر القلم في يد الكاتب، وأن القدرة الأزلية هي المصدر للكل، استولى على قلبه غلبة التوكل
والرضا والتسليم، وصار موقناً بريئاً من الغضب والحقد والحسد وسوء الخلق، فهذا... أحد أبواب اليقين، إذ هناك دائرة تُسمى دائرة اليقين، وهي كل ما وردت عن الأنبياء والمرسلين عبر التاريخ، أي منذ عهد آدم إلى خاتمهم وسيدهم صلى الله عليه وآله وسلم. فكل ما جاء به الأنبياء والمرسلون إنما هو في دائرة الوحي، إنما هو في دائرة التلقي عن الله، إنما هو... في دائرة بيان الحقائق الظاهرة والباطنة، وقال إن هذا لا يُعد ولا يُحصى في جوانب كثيرة، ولكنه يقول: على ماذا أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل؟ وعلى ماذا أنزل الكتب؟ وعلى
ماذا بيّن البيان؟ أنه ابتداءً بيّنه من أجل قضية مهمة قام الله العالم عليها، وهي قضية التوحيد، والتوحيد هو أساس. العبادة وأساسها ولذلك قال تعالى في القرآن الكريم: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". فالعبادة وأساسها التوحيد هي الغاية التي خلق الله لها الخلق من سماوات ومن أرض ومن جنة ومن نار ومن دنيا ومن آخرة. وقد كان الله سبحانه وتعالى ولم يكن شيء معه، ثم بعد ذلك برز هذا. الكون إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وهذا البروز إنما يجعل أن الرب رب وأن العبد عبد، وأن هناك فارق
بين المخلوق والخالق. يعني قضية التوحيد هذه أولاً، إذا هذه دائرة اليقين مبناها التوحيد. عرفنا الغاية، هذا التوحيد ليس فقط هو أن تؤمن أن الله. واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد وأنه ليس كمثله شيء وأنه على كل شيء قدير وأنه فعّال لما يريد وأنه بيده ملكوت السماوات والأرض وما بينهما وإلى آخر هذا النظام الذي تعلمناه من خلال أسماء الله الحسنى وصفاته العُلى إنما القضية كما قال أهل الله بناءً على كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تدور في التوحيد في الحقيقة على "لا حول ولا
قوة إلا بالله"، ولذلك قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز العرش". الكنز مخبوء لكنه قيّم، وما هي قيمته؟ ما هذا الكنز؟ إنه أن تؤمن أنه لا حول ولا قوة إلا بالله. وعلى هذا بنى ابن عطاء الله السكندري الحِكَم عندك مائتين وثلاثة عشر حكمة، كلها لا بد أن تدور حول شرح جانب من جوانب معنى أنه لا حول ولا قوة إلا بالله. وإذا عرفت أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، رددت الأمر لله، ولم تغضب إلا لله، ولم تنسحب إلا... لله ولم تفعل إلا لله ولم ترد إلا لله لا حول ولا قوة إلا بالله شيء غريب
يعني كأنك تشاهد وكأن هذا الكون بما يجري فيه من أحداث بما فيها الأحداث التي تجري عليك أنت نفسك تفصل نفسك هكذا وتشاهد فترى هذا ابتلاء والابتلاء من الله وترى هذا نجاحاً والنجاح من الله وترى هذا فشلاً، والفشل من الله، وكل ذلك لا يؤخرك عن اتخاذ الأسباب والتوغل فيها وإتقانها، لأن الاعتماد على الأسباب شرك، وترك الأسباب جهل، وليس من سنن الأنبياء. فليس معنى "لا حول ولا قوة إلا بالله" أننا نعتزل الحياة الدنيا وأن نترك الأسباب التي أمرنا الله سبحانه وتعالى. أن نقوم فيها ولكن معنى "لا حول ولا قوة إلا بالله" أن ترى الله في كل شيء خلقاً وفعلاً ومواقف. "لا حول ولا قوة إلا بالله"، وحينئذٍ
نلتزم بموارد الله سبحانه وتعالى ونفعل ونترك متوكلين على الله راضين بأمر الله، ولذلك إذا وصلت إلى هذه الدرجة وكنت على ذكرٍ دائم. لله ويأتي قضية الذكر والفكر وطريق الله وما وقر في القلب وصدقه العمل وحسن اليقين. أنت إذا في اليقين بأنك قد اكتشفت حقيقة الدنيا وأن كل ما يجري فيها إنما تراه أن مصدره هو الله سبحانه وتعالى. هذا عنصر من العناصر التي يكشف عنها الإمام الغزالي وهو التوحيد في قضية. دائرة اليقين التي جاءت من عند الله عن طريق المرسلين نعم. ومن ذلك ومن ذلك ومن ذلك صار يذكر عناصر لكن بعضها يدل
على بعض، يأخذ بعضها برقاب بعض، كلها ترسم دائرة اليقين التي هي عن السادة المرسلين عليهم الصلوات والسلام. ومن ذلك الثقة بضمان الله سبحانه بالرزق في. قوله تعالى: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا" واليقين بأن ذلك يأتيه وأن ما قُدِّر له سينساق إليه. ومهما غلب ذلك على قلبه كان مُجْمِلاً في الطلب، ولم يشتد حرصه وشرهه وتأسفه على ما يفوته. وأثمر هذا اليقين أيضاً جملة من الطاعات والأخلاق الحميدة، ومن ذلك أن... يغلب على قلبه أن من
يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وهو اليقين بالثواب والعقاب حتى يرى نسبة الطاعات إلى الثواب كنسبة الخبز إلى الشبع، ونسبة المعاصي إلى العقاب كنسبة السموم والأفاعي إلى الهلاك، فكما يحرص على تحصيل الخبز طلباً للشبع فيحفظ قليله وكثيره، فكذلك. يحرص على الطاعات كلها قليلها وكثيرها، وكما يتجنب قليل السموم وكثيرها، فكذلك يجتنب المعاصي قليلها وكثيرها وصغيرها وكبيرها. واليقين بالمعنى الأول قد يوجد لعموم المؤمنين، أما بالمعنى الثاني فيختص به المقربون. وثمرة هذا اليقين
صدق المراقبة في الحركات والسكنات والخطرات، والمبالغة في التقوى والاحتراز عن كل السيئات. وكلما كان اليقين أغلب الأحيان كان الاحتراز أشد والتشمر أبلغ إذا تكلم عن التوحيد وهو قضية تتعلق بمصدر الكائنات من الخالق الله، ثم تكلم عن الثقة بما في يد الله وهذا أمر يعود إلى المعاش، فثق في أثناء معيشتك بالله، وهو السؤال الثاني من الأسئلة الكبرى الثلاثة: من أين أتينا؟ ماذا نفعل هنا؟ ماذا؟ سيكون غداً من أين أتينا الله بتفاصيل كثيرة، ماذا نفعل هنا الوحي بتفاصيل كثيرة،
ماذا سيكون غداً الآخرة بتفاصيل كثيرة تكلم عنها، عن الجنة والنار والحساب والعقاب والثواب والمعاصي والطاعات، وما تؤدي إلى الطاعات التي تؤدي إلى الجنة والمعاصي التي تؤدي إلى النار، ولذلك الإنسان في حياته إذا تعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى والتزم بالوحي وخاف يوم الحساب ورجا هذا اليوم فإنه يكون بذلك قد حصّل أركان الإيمان، فتكلم عن التوحيد وتكلم عن الثقة بالله التي هي أساس المعاش وتكلم عن ما سيكون غداً. هذه الأسئلة الثلاثة الكبرى هي التي حيرت العالم وهي التي جعلت كل الفلاسفة وأصحاب المذاهب الأخلاقية. وعلماء الديانات
في حيرة حول هذه الأسماء والأسئلة الثلاثة، فيسمونها الأسئلة الكبرى. لا بد أن يكون لهم موقف منها، يقولون شيئاً حتى ولو بالتنحية. يعني يقول مثلاً: "الله ليس لي دعوة به، أنا لم أقل إن هناك إلهاً أو ليس هناك إله". نعم، هذا مذهب، لكن لا بد أن يجيب على هذا السؤال. أين أتينا؟ ماذا نفعل الآن؟ ماذا سيكون غداً؟ هذه الأسئلة الكبرى الثلاثة تجعلك تنظر إلى شرح الإمام الغزالي داخل منظومة اليقين أو دائرة اليقين أو ما ورد عن المرسلين. إنه يتكلم عن أنهم قد أجابوا على الأسئلة الكبرى التي يسميها أهل الغرب الأسئلة النهائية. يريدون
أن ينشئوا العلوم حتى يجيبوا عليها، ونحن... نسميها الأسئلة الكلية لأن إجابتها حاصلة عندنا بيقين. نحن نوقن أن الخالق هو الله وننطلق من هذا. هو لا يوقن، هو يريد أن يبحث في الجيولوجيا وفي الأنثروبولوجيا وفي علم الاجتماع وفي غيرها عن شيء يقول له من أين أتى حتى يصل إلى أنه الله أو غير الله. وإلى الآن لم... يصلون إلى شيء، فلما كثر هذا بدأوا ينحون هذه القضية في مذاهب جديدة مثل الوجودية ونحوها. لا يجيبون على هذا السؤال، وكذلك ما الذي سيكون غدًا لا يجيبون على هذا السؤال. واهتموا بما نحن فيه الآن، وجعلوا مرده إلى العقل، إلى الاتفاق، إلى حكم الطبقة، إلى حكم الديكتاتورية، إلى حكم. الشعب
للشعب، الديمقراطية، إلى شيء من هذا القبيل، لكن الكل ينطلق على هذا. الإجابة على هذا الرجل بنور قلبه يقول: "أبداً، هذه كل الأسئلة الثلاثة في دائرة اليقين عندنا، ومنها الانطلاق، وليس إليها السعي. فمنها الانطلاق في حياتنا الدنيا من هذه الثلاثة". إلى لقاء آخر، أستودعكم الله والسلام. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته